العالم المتحضر اليوم يتقدم بخطى حثيثة وبهدوء وثبات نحو مزيد من الرقي، حتى يكاد لا يسعه أن يتوقف لحظة لينظر الينا ويقول: نحن نصنع لكم وانتم تستهلكون وتملؤون الدنيا ضجيجا وجعجعة، بلغ هذا العالم المتحضر مبلغه العظيم بعد أن حسم أمر معارك عدة - وعلى جميع الأصعدة - خاضها العلماء والفلاسفة والآداب لتنوير فئات الشعب المختلفة طيلة قرون تخضبت فيها بلادهم بدماء الشرفاء الذين دافعوا عن الحق الى آخر رمق ودفعوا لأجل ذلك ضرائب باهظة، وكانت معركة تحرير المرأة من اهم المعارك الحاسمة، والذي ينظر حال المرأة في أوربا قبل فجر النهضة يدرك أي قفزة عظيمة حققها هؤلاء. وبالعودة الى حاضرتنا العربية والاسلامية، وبرغم المساعي المبذولة من أجل اعادة الاعتبار للمرأة العربية والمسلمة من خلال سن القوانين ووضع اللوائح والعرائض، إلا أن الأمر غير كاف وأن كان كافيا فإن تفعيله على ارض الواقع لا يجري بصفة تامة، بل يتم بخجل وعلى مضض حسب النظام السياسي في كل بلد وحسب التركيبة الاجتماعية إن كانت لها القدرة على تقبل الانفتاح أو الاعتراض عليه. ولعلّ أسباب تغييب دور المرأة اجتماعيا وثقافيا وفي قطاعات بعينها، كثيرة لكن ابرزها يعود الى الديماغوجية الدينية التي تنضح بالمواقف والدعاوي الأصولية المنغلقة والتي تختزل المرأة في كونها مجرد مخلوق من الدرجة الثانية قاصر ذهنيا وجسديا وعورة شوهاء عوجاء مثيرة للفتن والبلايا! وفي الحقيقة أن الاختباء خلف هذه الدعاوي الظالمة لا يصح بالنظر الى المكانة العادلة التي منحها الاسلام للمرآة ولا داعي هنا لأعدد الشواهد الجلية التي لا يبصر سطوع ضوءها الا مخبول أو متعصب. لقد أحدث كتاب قاسم أمين: “تحرير المرأة” حين صدوره أوخر القرن التاسع عشر جدلا واسعا ظن بعضهم أنها آخر معركة في هذا الشأن، وأن ما سيلي عام “1899” - تاريخ صدور الكتاب - سيكون فجرا جديدا تكون فيه المرأة العربية والمسلمة على قدم المساواة - على الأقل مع نظيرتها في أوربا، لكن الذي حدث لم يكن ذاك، اذ أن جدل تحرير المرأة ما يزال قائما الى اليوم هو نفسه جدل الأمس.