لا يوحي الملموس بفقه الملاحظة، مما يجري داخل القدس الشريف، وأفنية مقدساتها الدينية والروحية، والأحياء القديمة فيها، بالحارات والدور والشوارع والمحال، إلا بأفول زمانها العربي، على غير مسرة، لصالح أسرلتها وتهويدها الأخير، بعد توطئة احتلالية تجتهد لذلك ومن أجله، منذ زمن غير قريب. وصولا إلى ذروة ما وصل له الاستشراس الإسرائيلي، في وقتها الحاضر، كما لم يكن كذلك من ذي قبل، بالتفنن في ابتداع ممارسات تهجيرية، لم يسبق لها مثيل، في مشهد نرانا فيه فرادى، على غير نحو من التشابك العربي المؤازر، بكل ألم وأسف. يوغل المحتلون في أللا معقولهم، تحفزا للاستحواذ القسري على المدينة المقدسة، فيما نحن موغلون في عقلانيتنا العربية المزمنة، تفهما لأسباب قوتهم ومسببات ضعفنا، دون أن يدافع عن القدس أحد إلا أهلها. بينما يتحالف جيش الاحتلال مع مستوطني الدولة العربية، فيتقاسموا الأدوار ببراعة تامة، لالتهام ما تبقى من المدينة، اغتناما لفرصة اللامبالاة العربية، بما يجري، إلا من قليل التقريع المتناثر، المصحوب بوصف ما يحدث داخل المدينة، وكأننا أمام مجموعة من المراسلين الصحفيين المحايدين، الذين إن تأثروا بمشهد إنساني، ذهبوا إلى الوصف المركب للحدث، خلطا بين العاطفة والحقيقة .. وفقط. ينسحب الوقت من بين أيدينا، على حساب واقع القدس المعاش، التي تتعرض لأكبر حالة إقصاء في الوعي الجمعي العام، عبر محاولات مستميتة لنفيها إسرائيليا، خارج إطارها العربي، إلى حيث ما يطمح ويجتهد المحتلون، لتكون عاصمة موحدة بشطريها للدولة العبرية، وقد تغيرت ملامحها، إلى ما يطابق الوهم المزعوم، بنسف المآذن والقباب والأجراس، وإخلاء المكان لصالح أبواق المتزمتين دائما، والمتربصين منذ زمن لغاية هيكلهم المُدعى، على مقربة مما يسمونه حائطا، لمبكاهم الكذوب. يشعر أحدنا أن الأهوال التي تتعرض لها القدس، باتت أكبر من أن يكتب أو يشرح عنها كائن من يكون، لانتفاء حاجة المعرف عن التعريف إليه، وسط جو احتلالي في أوج تأهبه للانقضاض النهائي، الذي لا يُبقي فيها معلما عربيا، بطابع إسلامي أو مسيحي، إلا وأتى عليه .. الأمر نفسه الذي لم يعد خافيا على الصغير والكبير، كهدف بات أقرب من المنال البعيد إلى النوال الإسرائيلي القريب، بفعل توافر شروط المرحلة، بما يخدم الدولة العبرية، ورزمة أهدافها جميعا، انسجاما مع ما نحن فيه بضعفنا غارقون. بكل ضيم وحسرة، دخلت الأخبار المتناسخة على حد من وجع القدس الظاهر القاهر، حيز الروتين الذي لا يجدد في النفس مروءتها العربية، بعد أن اعتادت على الهوان، أو استطابت الضعف مقاما وطابعا وسبيلا، وقد كنا نظنها أخبارا ثقيلة على النفوس والقلوب فيما مضى .. فلا شيء يحرك ساكنا، هذه الأيام بين العرب، حتى لو كان القبض على مستوطن مدجج بسلاحه، مضى في طريقه لتدنيس حرمة المسجد المبارك، وتنفيذ مجزرة في مُصلِيه الذين كانوا في رحابه فجرا، بحجة أنه لم يستطع تنفيذ مهمته الدموية، التي لو أداها لقالت العرب قولتها، وحركت عضلات ألسنتها غضبا واستنكارا، ثم لا شيء. بينما هدم البيوت بعد طرد ساكنيها، في اليوم التالي، على يد قوات الجيش والشرطة الاحتلالية، في القدس اليائسة، لا يحرك ساكنا أيضا، ولا يوحي إلا باستمرار ما اعتادت عليه الحواس العربية. وكأن الطبيعي أن ننتظر تحركا عربيا مساندا، إذا ما حلت الطامة الكبرى، وتم إعلان الضياع العربي رسميا، للقدس الشريف، وإلا فالأصل الانتظار، في مرحلة ما قبل تلاوة بيان النعي الأخير، التي نعيشها الآن. الحقيقة التي يجب أن ندركها رغم إيمان من هو مثلي الصميمي، بعروبته وقوميته، حتى النفس الأخير، الذي يشوبه أحيانا عتاب محكوم بالأمل والرجاء والانتماء هو عدم الإفراط في التعويل على العرب كثيرا، سيما في معركة باتت لا تحتمل طويلا، كمعركة عروبة القدس الشريف، التي صارت على طرف المحك، بفعل ممارسات دولة الاحتلال اللاغية لوجودنا العربي، بثوبيه الإسلامي والمسيحي، في المدينة المقدسة. بل إننا اليوم مدعوون أمام أنفسنا، لتمتين جبهتنا الفلسطينية، بالعودة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية، شرط رفع القليل من العرب العاربة أيديهم الخفية عن موضوعنا كله، لتسهل أمامنا المصالحة الوطنية، التي ستمكننا من مواجهة المحتل الذي لم يعد يرى تحت سماء الله، إلا نفسه استعلاءً وغرورا. كما أننا مطالبون بتوفير الحصانة للقيادة الفلسطينية، في موقفها الثابت والمبدئي، مما يجري في القدس الشريف، على يد الاحتلال، تهجيرا واستيطانا واقتلاعا، والعمل على توفير الزخم الشعبي اللازم لها، في تصليب موقفها، أمام كل الضغوطات الهائلة، التي تتعرض لها، لجهة الدخول في مارثون مفاوضات لا يسمن من جوع، على حساب الأرض وما عليها .. فالآن نكتشف وننادي: يا وحدنا الضحية. بقلم: تامر المصري.