د. بشير مصيطفى: msitba@voila.fr مستشار اقتصادي/ دبي لفت نظري في حديث وزير التشغيل والتضامن الوطني لحصة (منتدى التلفزيون) مساء السبت الماضي، حول أوضاع الفقر والبطالة واتجاهات التضامن بالجزائر، عددا من القضايا التي يلتقي عندها الحس السياسي بالحس العلمي والمنهجي، ولممثل الحكومة كل الحق في الدفاع عن سياسة قطاعه وفي إبراز النتائج الإيجابية التي تكون قد تحققت خلال عهدته أو في ظل قيادة غيره من الوزراء لهذا القطاع، لكن في نفس الوقت هناك حقائق موضوعية لا يمكن القفز فوقها ونحن نعالج ملفا هاما يمس الأمن الاجتماعي للسكان بصورة مباشرة. اتجاهات الفقر والحماية الاجتماعية عندما يقارن معالي الوزير بين نسبة الفقر في الجزائر بنظيرتها في فرنساوألمانيا، نشعر وكأن الوضع الاجتماعي بالجزائر أحسن حالا من الوضع في هاتين الدولتين الكبيرتين من دول الاتحاد الأوربي... والواقع أن نسبة العشرين بالمائة (واحد من خمسة) من السكان التي ذكرها الوزير - استنادا إلى صحف فرنسية - والتي تمثل مستحقي الحماية الاجتماعية في فرنسا، لا تعني بالضرورة حالة من الفقر، إنها تعبر عن سياسة الحكومة الفرنسية في التدخل الاجتماعي بما يتماشى مع توصيات الاتحاد الأوربي والبنك الدولي، كما أنها تعكس التشكيلة الديمغرافية للفرنسيين وما يميّز الدول الأوربية عموما من تزايد شريحة المسنين والمتقاعدين ومستحقي الحماية الاجتماعية، وهؤلاء هم المعنيون مباشرة من التدخل الحكومي حسب التشريعات الأوربية. ونفس الشيء نجده في دولة أخرى مثل بريطانيا، حيث يتمتع المسنون وحتى الأطفال لغاية سن معينة بمزايا حمائية كبيرة بغض النظر عن أوضاعهم الاجتماعية أو مستواهم المعيشي: هو نوع من المسؤولية الأخلاقية للدولة تتجلى في سياسات الحكومات، فالصورة إذن لا تعكس وضعا للفقر كما قد يفهم. أما الوضع في ألمانيا، فإن تقدم البلد وحصته من الناتج القومي الأوربي ومن التجارة العالمية ثم أداءه الاقتصادي لا يسمح بأي حال من الأحوال بتشكّل الفقر كظاهرة اجتماعية إلا في حدود مفهوم الفقر في الدول الأوربية: الولوج إلى قدر محدد من الخدمات والدخل المؤمن خلال فترة الحياة، معطيات لا يمكن مقارنتها بنظيرتها في الجزائر التي قد يكون خط فقر الألمان نوعا من الثراء لدى شريحة واسعة من سكانها، وإلا ماذا يعني الأجر الأدنى المضمون (12 ألف دينار جزائري) بالنسبة للمواطن الألماني أو الفرنسي، إنه يعني 120 أورو أو 150 دولار للشهر، ألا يعني ذلك 4 يورو لليوم؟ وماذا يعني هذا الرقم في سلة المداخيل بأوربا؟ وكنت أتمنى لو ركّز (منتدى التلفزيون) في استضافته لوزير التشغيل والتضامن الوطني على مقاربة متقدمة في سياق المقارنة، مقارنة الخدمات التي توفرها الحكومة للسكان ونوعية تلك الخدمات ومدى ديمقراطية توزّعها على ولايات الوطن من منظور أهداف الألفية للأمم المتحدة. اتجاهات التشغيل والبطالة أما عن نسبة البطالة الحالية (10.5 بالمائة) التي نشرها الديوان الوطني للإحصائيات بالجزائر فيبدو لي أنها ترجمت بتحيّز. فالديوان الذي يعتمد في إحصائياته على منهجية (المعاينة) و(التفتيش) يملك أدوات إحصائية معروفة في تقدير المؤشرات، وواضح أن أي تعديل أو تصحيح في منهجية الإحصاء يضبط مباشرة نتائج التقدير ولا يعكس بالضرورة حجم التغيّر في الظاهرة المدروسة. وهكذا، عندما يستثني الإحصاء عن طريق المعاينة الفئة العمرية من 15 إلى 16 عاما من شريحة الفئة القادرة على العمل، فإن متوسط البطالة المحسوب يتأثر حسب حجم هذه الفئة العمرية، دون أن يعني ذلك بالضرورة تحسنا في المؤشر بين عامي 2005 و2006. وقد كان من الأفضل ونحن نجس نبض سوق العمل بالجزائر اعتماد معدل البطالة (المعدل) أخذا بعين الاعتبار التغيير في منهجية الإحصاء. ومن جهة أخرى، يكون اشتراط طلب العمل كمعيار آخر في حساب العاطلين يجعل من معدل البطالة المحسوب مؤشرا متحيزا من منظور سوق العمل في الجزائر، وهو سوق لا يملك مرونة كافية وهيكله الإداري لا يوفّر الظروف الملائمة لاستقبال طلبات العمل ولا سيما خارج المدن الكبرى. نعم، تحققت منذ العام 2000 مناصب شغل جديدة، وهناك مؤسسات مصغرة وصغيرة تشكّلت بفعل القوانين المنظمة للاقتصاد، لكن في نفس الوقت برزت تساؤلات عن: مدى التناسب بين عدد المناصب المحدثة والأعداد الإضافية من العاطلين عن العمل كل سنة، نسبة المؤسسات المغلقة إلى إجمالي المؤسسات الجديدة، ثم كيف تتوزع مناصب العمل المحدثة بين قطاعي الإنتاج والخدمات من جهة وبين عقود التشغيل المؤقتة والمناصب الدائمة؟. عن سياسة التشغيل وآفاق التضامن الوطني في التقرير الأخير للبنك العالمي حول اتجاهات الاقتصاد العالمي للعام 2007، تعتبر البطالة المشكلة رقم واحد في البلدان العربية بفجوة بين عرض العمل والطلب عليه يقدرها البنك ب 10 مليون منصب، وبالتالي يكون على الحكومات في هذه البلدان توفير ما يناسب هذا الرقم لتجنب اهتزازات اجتماعية محتملة. وعن التجربة المصرية التي أوردها الوزير في حديثه لمنتدى التلفزيون، فإن صيغة الصندوق الاجتماعي لم تصمد أمام تدفق طالبي التمويل الصغار بدليل حركة الهجرة لدول الخليج العربي وأوربا، وتفاقم ظاهرة الفقر التي طالت حدود 80 بالمائة من سكان البلد. وتظل حركة الاستثمارات المباشرة وسياسة الإصلاح الاقتصادي وكذا المعونات الخارجية في دولة مصر المنفذ المعوّل عليه لاستدراك التوازن في سوق الشغل. ولا يبتعد الواقع الجزائري عن نظيره المصري كثيرا، فصيغ التشغيل الأربع التي اتبعتها البلاد منذ العام 2000 لم تكن نتائجها في مستوى التوظيف المالي الكلي والذي يربو رقمه عن 140 مليار دينار بسبب طبيعة مناصب العمل المستحدثة، وهي في الغالب مناصب مؤقتة أو ذات طابع اجتماعي. وتظل المناصب الأكثر استدامة تلك الناشئة عن إطلاق المؤسسات الخاصة في قطاع الخدمات والتجارة، والتي أصبحت مهددة بالغلق بفعل المرسوم التنفيذي الأخير (11 جانفي 2007) الذي يحجب مزايا الاستثمار عن عديد فروع الخدمات. ألم يكن من الأفيد تقديم حوافز تنافسية أخرى للاستثمار في قطاع الإنتاج المادي أو التركيب بدل التأثير سلبا على قطاع الخدمات والبلاد مطالبة بمرونة أوسع في سوق الشغل؟ أما عن قطاع التضامن الذي يميّز هيكل الحكومة الجزائرية عن غيرها من حكومات الدول بتخصيصات معتبرة من قوانين المالية، فإن الحلول المبتكرة في مجال محاربة الفقر تمنح الأولوية لغير التدخل المباشر للحكومة في منح الإعانات، إنها تركز على تفعيل الادخار الوطني الصغير. ألم يكن من الأجدر في حالة الجزائر ادماج صيغ التعاون الشعبي في التنظيم البنكي للدولة؟ ترقية تجربة (صندوق الزكاة) لتلتقي مع الأدوات المالية الرئيسية للدولة؟ اعتماد سياسة جديدة في التشغيل تقوم على توظيف الطفرة النفطية التي تمر بها البلاد في إطلاق استثمارات منتجة كبرى في حقول الصناعة والخدمات، عالية رأس المال البشري؟ إن تجارب واعدة في العالم انطلاقا من الاستثمار البشري في كل من الهند وسنغافورة إلى تأهيل المؤسسة الخاصة بشكل استراتيجي في تونس، يشكل التأمل فيها - برأيي- أفضل بكثير من تكرار تجارب غير مضمونة النتائج وأقل جدوى مثل مشروع الصندوق الاجتماعي المرتقب إطلاقه العام الجاري تحت وصاية وزارة التشغيل والتضامن الوطني.