محمد أرزقي فراد ferradrezki@yahoo.fr يقع عرش اث يني على أحد سفوح جبال جرجرة الشمالية الخلابة على علو يقدر بحوالي 880م، ضمن فيدرالية (اذني) اث بطرون التي تضم أيضا اث واسيف، واث بوذرار، واث بوعكاش. وتندرج هذه الأعراش ضمن مجموعة إقاواون .أما حدود عرش اث يني فهي كالتالي: اث عيسي في الشمال الغربي، واث يراثن في الشمال الشرقي، واث منقلات شرقا، وإيواضيين في الجنوب الغربي. ولعل أهم ما يميز عرش اث يني كثافة السكان المرتفعة منذ القديم، وحسب المعلومات التي ذكرها المؤرخ الفرنسي Alain mahé في كتابه Histoire de la Grande Kabylie (2001)، فان مساحته الإجمالية تقدر بحوالي 3499 هكتارا يقطنها حسب إحصاء سنة 1936 حوالي 8371 نسمة بكثافة 239ن/كلم2، يتجمعون في سبع قرى أشهرها: اث لحسن/ اث لربعا/ ثاوريرث ميمون، ثم تليها قرى: أقني احمذ/ ثاوريرث الحجاج/ ثيقزيرث. هذا وبالنظر إلى فقر التربة والكثافة السكانية المرتفعة، فقد اضطر الكثير من أبناء المنطقة إلى الهجرة خاصة نحو فرنسا، إذ قدر عدد المهاجرين إلى هذه الأخيرة سنة 1936 بحوالي 560 مهاجرا. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود علاقة حميمة بين أهل اث يني والمغرب الشقيق تحتاج الى دراسة عميقة. ورغم عزلة اث يني فقد كانت قراهم بمثابة القلب النابض للصناعات التقليدية المعدنية، خاصة صناعة الحلي الفضية القبائلية المطعمة بالمرجان، وقدر عدد ورشاتها سنة 1873 بحوالي125 ورشة، وفسر الكاتب الفرنسيjeau morizot في كتابه l'Agerie kabylisée كثافة هذه الورشات بتواجد التجار اليهود في اث يني (ص60). كما اشتهر السكان بتعاطيهم للتجارة منذ القديم، ولعل ذلك ما يفسر تواجد الزواوة في معظم المدن الجزائرية. ومما تجدر الإشارة إليه أن الفرنسيين قد ركزوا سياستهم التعليمية في اث يني بحيث شيّدوا في كل قرية مدرسة منذ أواخر القرن التاسع عشر، لذلك كان معظم الرعيل الأول من خريجي دار المعلمين ببوزريعة من أهل اث يني. هذا وقد ارتفعت نسبة التمدرس مع مطلع القرن العشرين حسب الكاتبة الفرنسية Camille Lacoste Dujardin في هذه المنطقة إلى حوالي 50٪. لذلك فمن الطبيعي أن تنجب هذه المنطقة أعلاما كثيرين في الثقافة والفكر والمعرفة والسياسة والفن. ومن أشهر هؤلاء المفكر: محمد أركون والكاتب الأديب مولود معمري والفنان الكبير حميد شريط المدعو يدير، وغيرها من الأسماء في مجالات عديدة أخرى. ومن جهة أخرى كانت للمدرسة الفرنسية تداعيات خطيرة وسلبية تجلت في فرض التعتيم على الثقافة الإسلامية التي كانت مزدهرة في هذه المنطقة، ولا شك أن الفضل في الحفاظ على ذكر بعض أعلامها يعود إلى الشيخ أبي يعلى الزواوي الذي ذكرهم في كتابه (تاريخ الزواوة) منهم على الخصوص: محمد سعيد الشريف الينيوي وابن عمه العالم الرياضي الشهير احمد جودت الينيوي والسيد محمود الينيوي ومصطفى الينيوي وإبراهيم الينيوي، وقد أشار أيضا إلى دور الزواوة في عضد الأمير عبد القادر الذي حمى المسيحيين وقناصل الدول الأوروبية أثناء انفجار الاضطرابات في دمشق سنة 1860م بين الدروز المدعمين بالأتراك والأقلية المسيحية. هذا وقد حاول الفنان إبراهيم يزري إعادة الاعتبار للتراث الثقافي الإسلامي من خلال توظيفه للشعر الصوفي في بعض أغانيه. ومما لا يختلف فيه اثنان أن أشهر شخصية مثقفة أنجبتها منطقة اث يني هي المفكر الكبير محمد أركون المولود في قرية ثاوريرث ميمون يوم أول فيفري سنة 1928م، وقد طبقت شهرته الآفاق وكرمته العديد من الجامعات العربية في المشرق والمغرب وكذا الجامعات الغربية التي تتنافس على استضافته. أما عندنا في الجزائر فشيء آخر، وقد انطبقت عليه مقولة (ما ساد نبي في قومه). ومهما يكن من أمر فان أعماله القيمة قد بوأته مركز الريادة في مجال دراسة الفكر الإسلامي، وألف العديد من الكتب التي أعادت الإشراقة إلى العقل العربي من خلال كسر طوق الفكر التقليدي وإعادة قراءة العديد من أعمال المثقفين والمفكرين والفلاسفة قراءة عقلانية لتبيان ما تعج به من لآلئ فكرية. هذا وقد لاحظ أثناء قيامه بنشاطه الفكري قصور المفاهيم والمصطلحات الغربية التي لا تفي بالغرض في أحيان كثيرة لما تثيره من حساسية لدى المثقفين العرب والمسلمين. لذلك سعى من أجل وضع مفاهيم جديدة مناسبة. ويرى محمد أركون أن حياة المثقف أنبل من أن تحصر في العيش فقط فهو مخلوق للاهتمام بمعنى الأشياء وتفسيرها، لذلك فهو مدعو باستمرار إلى تكسير سياج التخصص، ومن جهة أخرى فسر انحطاط المسلمين بما سماه بالسياج الدوغماتي الذي صنعه الفكر التقليدي بأن فرض هالة من القدسية على أعمال السلف، وهي في الحقيقة أعمال بشرية يؤخذ منها ويرد عليها. ومن جهة أخرى لاحظ أن الأنظمة السياسية في العالمين العربي والإسلامي قد همشت المثقف ولم تنزله منزلته الحقة. كما أفاض في الحديث عن إشكالية تخلف اللغة العربية التي تعد عقبة كأداء أمام الفكر العربي تحول دون خروجه من دائرة التخلف، علما أنها (العربية) عرفت عصرا ذهبيا أنجبت فيه مفكرين كبارا في العلوم الإنسانية والرياضية والعلمية أمثال: الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وابن رشد ومسكويه صاحب كتاب »تهذيب الأخلاق« والقاضي عبد الجبار صاحب كتاب »المغني« في علم الكلام واللاهوت والشاطبي صاحب كتاب »الموافقات« في فلسفة القانون. وفسر محمد أركون هذا الجمود ب»الذهنية الدينية« التي ضربت سياجا من المحرمات على الفكر حتى صار عاجزا عن اختراق سياج المقدسات الذي يحوط العديد من مجالات الحياة خوفا من اتهامات الكفر والمساس بالدين. ونجم عن ذلك تغييب الفكر النقدي الذي أدى بدوره إلى انغلاق اللغة العربية حتى صارت عاجزة عن الخوض في الكثير من مشاكل المجتمع بحرية. وعليه فالحل في نظر محمد أركون يكمن في التخلص من تدجين الفكر وفي علمنة اللغة العربية، وكذا إبداع مصطلحات وصياغات تعبيرية جديدة تمكنها من تناول مشاكل الدين والإيمان بالدراسة والتحليل بمنأى عن سوء الفهم الذي يثيره عادة التقليديون. كما أن تطور اللغة العربية مرهون بمدى إخضاع التراث العربي/ ا لإسلامي باعتباره إنتاجا بشريا للغربلة العقلانية. ولا شك أن ذلك سيسمح بممارسة النقد التاريخي والأدبي والسياسي الضروري لترقية المجتمع، وكذا نزع هالة الأسطورة عن الفكر الديني. وبرأي المفكر العربي هشام الشرابي (انظر كتابه النقد الحضاري) فإن تناول محمد أركون لموضوع التراث الإسلامي متميز عن غيره (...أما محمد أركون فقد تناول مسألة التاريخ الإسلامي من زاوية تختلف نوعا ما عن الزاوية التي تناولها أدونيس والعروي، فالحافز الأكبر عند أركون هو كسر الطوق التقليدي الأبوي الذي احتكر التفسير القرآني وبالتالي تفسير التاريخ الإسلامي والعربي، والقيام بقراءة النصوص التاريخية والدينية قراءة جديدة ترفض الأساليب التقليدية »اللغوية والمستشرقة« وتعتمد أساليب علوم اللسانيات والسيميولوجية الجديدة ومنهجية العلوم الاجتماعية والانسانية) ص83. هذا وقد أوضح محمد أركون في محاضرة ألقاها في جامعة جورج تاون الأمريكية سنة 1985بعنوان (التفكير حول الإسلام) قواعد قراءته الجديدة للإسلام ولخصها في النقاط التالية: - الأدوات الفكرية الجديدة/ الأنماط الفكرية المختلفة/ الانتقال من المفكر فيه إلى اللاّمفكر به/ مجتمعات الكتاب/ الوحي والتاريخ. ولا شك أن هذا المشروع يتطلب تضافر الجهود الجماعية للمفكرين والباحثين والسياسيين والفنانين والاقتصاديين لإثراء الفكر العلمي الذي بناه السابقون. ومن جهة أخرى تهدف هذه القراءة الجديدة المقترحة إلى غربلة التراث بمعيار العقل الناقد، الأمر الذي يؤدي إلى إعطاء دور بارز للإنسان في صناعة التاريخ، وهو ما أطلق عليه محمد أركون مفهوم الأنسنة (humanisme) وهذا لتجاوز الجمود الذي أصاب العالم الإسلامي بعد القرن الثاني عشر الميلادي (بعد ابن رشد) الذي تميّز بغلق باب الاجتهاد العقلي وبسيادة الفكر المدرساني المعتمد على تكرار الأحكام في إطار المذاهب الفقهية المشهورة. أما الشخصية الثقافية الأخرى التي أنجبها عرش اث يني فهي تتمثل في شخص مولود معمري 1917) - (1989 الذي أوقف حياته على خدمة القضية الأمازيغية بتقعيد لغتها ووضع القواميس لها وتدوين آدابها الشفهية. ومما يلفت الانتباه في شخصية هذا المثقف الفذ أنه لم ينبهر بالثقافة الفرنسية التي ملك ناصيتها، بل وظفها لإبراز تعلّقه بوطنه الجزائر من خلال توصيف معاناة الجزائريين أثناء الاحتلال الفرنسي خاصة في الروايتين (الربوة المنسية 1952 والأفيون والعصا 1965) وكذا العمل من أجل إعادة الاعتبار للبعد الامازيغي في الشخصية الجزائرية بهدوء الباحث الرزين، بعيدا عن الطرح السياسي ذي الشحنة الإيديولوجية المنجبة للضغائن والأحقاد. ولا شك أن اختياره للإطار العلمي لأعماله المذكورة قد أقنعت وزير الثقافة سنة 1965 (السيد طالب إبراهيمي) بضرورة مساعدته في مهمته الثقافية ولو بتعليمات شفهية إلى أن عيّن مديرا لمعهد الدراسات الانتروبولوجية (crape) سنة 1969، الأمر الذي مكّنه من جمع الطلبة المتحمسين لدراسة التراث الأمازيغي بعد أن أغلقت أبواب الجامعة أمامهم. وظل على رأس هذه المؤسسة الى سنة 1978. وبالنظر الى وضعية الثقافة الأمازيغية المتميزة بكونها ثقافة شفهية بالدرجة الأولى، كان لزاما على مولود معمري أن يعتمد على الدراسة الميدانية فتنقل إلى العديد من مناطق القطر الجزائري حيث توجد معالم الأمازيغية كغرداية وقورارة وتامنراست وطاسيلي والاوراس والهضاب العليا وتلمسان وغيرها. كما تنقل إلى المغرب كثيرا. وقد مكنته الخرجات الميدانية من جمع مادة ثقافية غزيرة دونها في العديد من المؤلفات لعل أشهرها: منجد فرنسي- ترقي1967 / أشعار سي محند اومحند 1969/ قواعد الامازيغية 1976 / القاموس (اموا ل ثامازيغث ثافرانسيسث/ ثافرانسيسث ثامازيغث) 1980 / أشعار قبائلية قديمة 1980/ اهليل قوراره 1985 / قال الشيخ محند (ينا شيخ موحند) 1989. بالإضافة إلى عشرات المقالات المتنوعة. غير أن ما يثير التساؤل في نشاطه الواسع عدم إنصافه للشعر الصوفي القبائلي الزاخر بالحكمة وعمق المعاني وجمال الألفاظ وسلاسة لأسلوب. هذا وحسب شهادات تلامذته فإن مولود معمري كان يعاملهم معاملة تربوية سامية بعيدا عن أساليب القسر، كما انه لم يحاول في يوم ما فرض آرائه الشخصية عليهم، وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن أحداث الربيع الامازيغي قد انفجرت في شهر ابريل من سنة 1980 إثر منعه في شهر مارس من إلقاء محاضرة في جامعة تيزي وزو حول شعر سي موحند أومحند. ولئن كانت نهايته مأساوية بوفاته في حادث مرور بعين الدفلة أثناء عودته من مهمة علمية من المغرب في شهر فيفري سنة 1989، فقد اطمأن على مستقبل الامازيغية حينما رأى جهوده قد أثمرت بظهور جيل جديد من المثقفين الذين احتضنوا القضية الامازيغية في إطار الأعمال العلمية ذات الصبغة الأكاديمية وكانت جنازته من الأيام المشهودة في منطقة القبائل. وفي ميدان فن الغناء أنجبت منطقة اث يني أحد عمالقة الأغنية القبائلية الذي أخرجها من المحلية إلى العالمية، انه حميد شريط المدعو (يدير) وقد شق طريقه نحو الشهرة بأغنية (أبابا ينوبا). ومن مفارقة الأقدار انه تعاطى الغناء عن طريق الصدفة إثر توعك صحي فاجأ المغنية المشهورة (نواره) في حصة إذاعية بالقناة الثانية اضطر يدير الذي كان حاضرا إلى تعويضها لسد الفراغ وليس إلا. غير أن الجميع تفاجأ بموهبته الخلاقة التي لم تتوقف عن العطاء منذ ذلك الحين. ومن الأعلام الأخرى التي لا يمكن تجاوز ذكرها: خالف عبد الله المدعو قاصدي مرباح الذي خدم الدولة الجزائرية إلى جنب الرئيس الراحل هواري بومدين في الظل، وكان له دور بارز في وصول العقيد الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم سنة 1979م، وعقب ذلك خرج إلى العلانية فتقلد عدة حقائب وزارية ليعيّن رئيسا للحكومة سنة 1988م لأشهر معدودة. وبعد الانفتاح السياسي أسس حزبا سياسيا »مجد«، لكنه لم يلبث أن اغتيل سنة 1993م. وفي الميدان الرياضي برز السيد خالف محي الدين الذي نجح في قيادة فريق شبيبة القبائل نحو الأمجاد، كما عرف الفريق الوطني أزهى أيامه أثناء إشرافه عليه. ومن جهة أخرى يملك عرش اث يني إمكانات سياحية معتبرة تجمع بين الطبيعة الخلابة والموروث الثقافي المتنوع تؤهلها لمنافسة أجمل المنتزهات في مرتفعات أوروبة إذا ما أحسن استغلالها وفق المعايير الدولية. ومن دواعي القلق أن تهدر هذه الإمكانات القادرة على توفير العيش الكريم للمواطنين لو أن أهل الحل والعقد أحسنوا إدارة الشؤون العامة. ومما زاد هذا القلق تورما أن يرى المرء هذه الجنة الساحرة قد تحولت في بعض مواقعها إلى الموت والخراب.