محمد الهادي الحسني أغتنم مناسبة زيارتك إلى الجزائر لأتوجه إليك بهذه الرسالة، راجيا أن تجد عندك من سعة الصدر وتفتح الفكر ما يجعلك تتقبلها بقبول حسن. أبدأ بالترحيب بك ترحيبا شعبيا، لأن الترحيب الرسمي التّشريفاتي قد تولاّه الأخ عبد العزيز بوتفليقة. وأتمنى أن تكون قد قضيت، والسيدة حرمك، أوقاتا سعيدة في هذا البلد الجميل الذي ألهم أحد كبار أدبائكم، سيرفانتيس، فأنتج أحد أهم الآثار الأدبية الرائعة؛ أعني "دون كيخوته". لقد شاءت الأقدار أن تكون الجزائروإسبانيا جارتين؛ بالرغم من وجود أولاهما في قارة إفريقيا، ووجود ثانيتهما في قارة أوربا. وهذا الجوار هو الذي جعل جيران إسبانيا من الشمال يقولون: "إن إفريقيا تبدأ من جبال البرانس ()". وشاءت الأقدار -أيضا- أن يلتقي تاريخ الجزائر بتاريخ إسبانيا عدة مرات، أبرزها الوجود العربي -الإسلامي في إسبانيا، الذي امتد ثمانية قرون؛ والوجود الإسباني في بعض مدن الجزائر، الذي استمر في وهران والمرسى الكبير ثلاثة قرون إلا قليلا. أستسمحك -يا عظيم الإسبان- في أن أقول لك إن الوجود العربي -الإسلامي في إسبانيا كان نِعمة عليها، سواء عندما كان ذلك الوجود قائما، أو بعدما زال في سنة 1492م بسقوط مدينة غرناطة. فأما نعمته عندما كان قائما فتتمثل في تلك الحضارة الزاهرة التي أنشأها، وتفيأ ظلالها سكان إسبانيا من مسلمين ونصارى ويهود، وفي تلك النهضة العلمية والأدبية التي استفادت منها إسبانيا، وأوربا عموما، وأنتجت تلك الروائع الخوالد في الفكر والأدب، مما جعل أديبا فرنسيا كبيرا، هو أناتول فرانس، يغبط إسبانيا على تلك النعمة، ويتحسر على عدم استقرار العرب والمسلمين في فرنسا؛ إذ لو استقروا فيها لأنجزوا مثل ما أنجزوه في إسبانيا من منشآت عمرانية، ولنشروا فيها العلم والأدب مثل ما نشروه في إسبانيا، ولذلك اعتبر يوم انهزام المسلمين في معركة پواتيه هو أسوأ يوم في تاريخ فرنسا، "عندما تراجع العِلمُ العربي، والفن العربي، والحضارة العربية (1)"، "لأن انتعاش إسبانيا لم يأت من الشمال، حيث القبائل البربرية؛ بل من الجنوب مع العرب (2)"، كما يقول الكاتب الإسباني بلاسكو ايبانز في كتابه "في ظل الكاتدرائية". وأما نعمة الوجود العربي- الإسلامي بعد زواله في 1492 على إسبانيا فتتمثل في تلك القناطير المقنطرة من الأموال التي تدخل إلى الخزينة الإسبانية، مما ينفقه ملايين السائحين الذين يأتون إلى إسبانيا، ليتمتعوا بمشاهدة تلك الدّرر العمرانية، التي نجت من التخريب والتدمير في قرطبة، وغرناطة، وإشبيلية، وطليطلة وغيرها من المدن الإسبانية. أما الوجود الإسباني في بعض المدن الجزائرية فيؤسفني أنه خرّب المنشآت التي وجدها، ولم ينشىء إلا بعض القلاع والحصون العسكرية، وأما من الناحية العلمية والأدبية فلم يترك شيئا، لا كبيرا ولا صغيرا. لقد امتاز الوجود العربي- الإسلامي في إسبانيا بالتسامح الكبير، فلم يفرض المسلمون دينهم على غيرهم من النصارى واليهود، ولم يستأصلوهم، فتمتع النصارى بحرية العقيدة، ومارسوا عباداتهم في حماية الدول والإمارات الإسلامية، ولم يصبهم نصبٌ ولا مَخْمَصَة. وأما اليهود فقد شعروا في ظل الوجود الإسلامي في إسبانيا بإنسانيتهم، وعرفوا معنى الكرامة البشرية بعدما أذاقهم النصارى من العذاب ما يشيب الغراب، واعتبرت هذه الفترة "أنصح الفترات في تاريخ الإسرائيليين (3)"، وازدهرت ثقافتهم فيها، حتى اعتبرت هذه الفترة "العصر الذهبي للثقافة العبرانية (44)"، ووصل كثير من اليهود بفضل هذا التسامح الإسلامي المنقطع النظير إلى مراكز المسؤولية العليا مع احتفاظهم بعقيدتهم. فلما ضعف سلطان المسلمين، وانهارت دولهم ظهر التعصب المسيحي بصورة لم يسبق لها نظير، فقتل من قتل من المسلمين، وهجر من هجر، وأجبر الباقون على التنصر حتى لم يبق مسلم واحد في إسبانيا كلها، بل إن كثيرا ممن تنصروا قتلوا، لأن الإسبان اعتبروا تنصّرهم نفاقا. وعندما احتل الإسبان مدينة وهران فعلوا فيها مثل ما فعلوه في مدن الأندلس، فقتلوا كل من لم يتمكن من مغادرتها، ولكن عندما استرجعها الجزائريون في فبراير من عام 1792 وجدوا فيها إسبانيا واحدا فضّل البقاء فيها فعاملوه "معاملة حسنة، وحين احتل الفرنسيون وهران في سنة 1830 وجدوه لا يزال على قيد الحياة وفي حالة جيدة (5)". إننى أعلم -يا عظيم الإسبان- أنك تعرف هذا وأكثر منه أحسن مني، لما تحت يديك من كتب، وما يحيط بك من خبراء، وما كتبته إلا تذكيرا لك، فإنما أنا مذكر. وقد اتخذت هذا الذي كتبته مدخلا إلى قضية أريد أن أثيرها، لعلّك تقول فيها حُسنا، أو تشير فيها برأي حكيم، وهذه القضية هي قضية الوجود الإسباني في المغرب الشقيق. إن هذا الوجود يعود -كما تعرف- إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وأرجو أن يسجل التاريخ أن دعوتَ قومك إلى إنهائه بالتي هي أحسن. قد تقول إنني لا أملك إلا نفسي وأهلي، لأن النظام السياسي في إسبانيا لا يعطي للملك الحق في الخوض في مثل هذه الأمور، ودوره هو دور شرفي أكثر مما هو فعلي، ولكنك تتمتع بمكانة عالية بين قومك، وتحوز على رضا أكثريتهم، مما يجعل لقومك تأثيرا معنويا، يراعيه من بيده مقاليد الحكم في إسبانيا. إن العالم كله أصبح يمقت سياسة الاستعمار، ويستهجنها، ويحتقر من يمارسها، وها أنت ترى وتسمع ما يقال لأمريكا في جميع أنحاء العالم لأنها تريد أن تُحْيِيَ الاستعمار الذي أقبره نضال الشعوب، فلا معنى بعد هذه الصحوة التحررية العالمية أن تتمسك إسبانيا بتلك القطع غير المتجاورات في المغرب الشقيق. إن ما أدعو إليه من استعادة المغرب الشقيق لسيادته على أراضيه التي تحتلها إسبانيا؛ هو نفسه الذي أدعو إليه من استعادة إسبانيا لسيادتها على جبل طارق الذي تحتله إنجلترا، فكما لا تسمح الكرامة الإسبانية باحتلال إنجلترا لجزء من الأراضي الإسبانية تحت أية ذريعة، لا تسمح الكرامة المغربية باحتلال إسبانيا لجزء من الأراضي المغربية تحت أية حجة. لقد سمّى بعض الإسبان القرن العشرين بأنه "قرن تصحيح المفاهيم في إسبانيا (6)" وقد صُحح كثير من المفاهيم في إسبانيا في هذا القرن، ولكنّ مفهوما وحيدا استعصى - لحد الآن- على التصحيح، بالرغم من أنه هو المفهوم الأكثر وضوحا في اعوجاجه وانحرافه، وهو موضوع الوجود الإسباني في الأراضي المغربية. لقد كان الاستعمار فيما مضى يُنظر إليه من طرف أصحابه على أنه مجدّ يفتخر به؛ ولكنه -الآن- صار عارا يُعتذر منه، ويُتبرأ منه، فلماذا تتمسك إسبانيا بهذا العار، وتصر على بقائه، سواء في ذلك استعمارها لجزء من المغرب، أو قبولها لاستعمار إنجلترا لجزء من أراضيها؟. أرجو أن لا أكون بما قلته قد أفسدت عليك ما أحسست به من سعادة وأنت تستمتع بجمال الجزائر وكرم ضيافتها. وما أردت إلا تمتين العلائق، وتقوية الأواصر بين الشعبين الجارين، وإقامتها على التعاون المثمر، والمعاملة الطيبة، ولا شك أن ذلك لن يكون على أتمه ما دمنا نرى إخوانا لنا على حدودنا يعانون الاحتلال الإسباني، فديننا يعتبر المسلمين إخوة، يسعى بذمتهم أدناهم، ويخرج منهم من لم يهتم بأمرهم، ويأمرهم بالتناصر بينهم في الحق والعدل، وسلام عليك في حلك وترحالك. الهوامش: 1- هذه الصيغة استعملها رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في رسائله إلى من راسلهم من ملوك عصره. 2- الحقيقة هي أن الفرنسيين استعملوا هذه العبارة احتقارا للإسبان، حيث يعتبرونهم أدنى منهم ومن الأوروبيين، وأنهم متخلفون كالأفارقة، والبرانس هي الجبال التي تفصل إسبانيا عن فرنسا. 2-1 روجي ڤارودي: في سبيل حوار الحضارات، ص 98، وص 102. 4-3 لوثي لوبيث - بارالت: أثر الإسلام في الأدب الإسباني، ص 52، 5- هايَنْريش فون مالْتْسَن: ثلاث سنوات في شمال غربي إفريقيا. ص2. ص30. 6- أثر الإسلام في الأدب الإسباني.. ص 12.