د. بشير مصيطفى: msitba@voila.fr مستشار اقتصادي/ دبي اختتمت بالجزائر الجلسات الوطنية للاستراتيجية الصناعية وقد تعقد الحكومة اجتماعا وزاريا مشتركا حول ملف المؤسسة الاقتصادية الجزائرية، وقد تزامن ذلك مع تظاهرة كبرى تشهدها هذه الأيام إمارة دبي (معرض التسوق العالمي في آفاق العام 2050) أو اتجاهات التسوق أمام المؤسسة الإنتاجية بعد نصف قرن. فلماذا تبحث المؤسسات الكبرى مشهد الأسواق العالمية على هذا المدى من الزمن؟ وماذا يمكن أن يضيفه ذلك الى أجندة عمل الحكومات القادمة بالجزائر وهي تبحث مستقبل ادارة المؤسسة الاقتصادية التابعة للقطاع العام؟ المؤسسة الاقتصادية الحديثة تصنع بالخارج في ظرف تاريخي سابق كانت الأسواق الخارجية تمثل حصيلة أداء الأسواق المحلية وانعكاسا مباشرا لإنتاج المؤسسة الاقتصادية من داخل الدول، ولم يكن أمام الزبون فرص كثيرة من التفضيلات، والأسعار العالمية كانت جد متقاربة. أما اليوم فقد تشابكت الأسواق حتى صرنا أمام سوق عالمي كبير وتداخلت أنظمة تسيير المؤسسات حتى صرنا أمام مؤسسة اقتصادية دولية ومتعددة الجنسيات عملاقة. وأمام تقلص هامش تدخل الدولة وما تبعه من تقلص الحواجز الجمركية وشبه الجمركية ارتفعت حدة المنافسة الخارجية أمام كل ماهو محلي، تعددت فرص الشراء أمام الزبون وخضعت الأسعار لمبدإ حيازة التكنولوجيا والتحكم في الإدارة، واتجهت التجارة بين الدول نحو الكوكبية لتصبح عاملا مؤثرا في الأوضاع الإنتاجية للمؤسسات تحت عنوان كبير هو (التجارة العالمية). وبعدما كانت المؤسسة الوطنية هي المحرك الرئيس للسوق الخارجي، هاهو السوق الخارجي يشكل المؤسسة المحلية ويضيف الى القيود الفنية والمالية عليها قيدا جديدا هو قيد عولمة السوق بما يعبر عنه هذا القيد من مؤشرات التكلفة، السعر، النوعية، التنافسية، ضمان التوريد واستدامة السوق. الشركات المنتجة الكبرى تعدل مخططاتها الإنتاجية على نبض السوق الخارجية لفترة زمنية لا تقل عن نصف قرن، وحتى تبقى المؤسسة ناجعة في هذه الآفاق نراها تواكب عنصر الجودة العالية والأسعار الرخيصة. عنصر تتداخل في تشكيله: الادارة الجيدة، التكنولوجيا العالية، المادة الأولية المتاحة والجودة الشاملة. وتذهب اتجاهات المؤسسة الحديثة الى أن 60٪ من القيمة المضافة للمنتوج تتشكل قبل الإنتاج أي في مرحلة الإدارة وطريقة استخدام الموارد البشرية، والذي يضمن تشكل ال40٪ المتبقية هو السوق المستقر أي الطلب المضمون. وبين الإدارة الجيدة والطلب المضمون تتشكل باقي القيم؛ قيم المؤسسة المعبر عنها بسلسلة القيم. المؤسسة الحديثة وسلسلة القيم وبلغة الإدارة تعيش المؤسسة الانتاجية الحديثة وسط مجموعة قيم لا فرق في ذلك بين القطاع العام والقطاع الخاص، فجميع المؤسسات أمام التحدي العالمي سواء، بل تكتسب المؤسسة الخاصة ميزة نسبية عن نظيرتها من القطاع العام كونها أكثر رشادة في مجال التسيير وأكثر سرعة ومرونة في التكيف مع المحيط بحكم نظام الملكية لديها على غير المؤسسة الحكومية التي تثقلها التكاليف الإضافية وتعيق نموها مركزية القرار والإدارة الحكومية، فعندما توكل الإدارة لمجلس مساهمات الدولة كنمط ادارة بالنسبة للمؤسسة العمومية في الجزائر، فإن هامش المناورة لدى هذه المؤسسة لا يسمح لها بقرارات سريعة تمليها تغيرات مفاجئة في المحيط الاقتصادي مثلا. وبمعنى آخر، لن يكون التحكم في سلسلة قيم المؤسسة بنفس درجة التحكم لو أسند الأمر الى ادارة احترافية خاصة حيث تبدو الادارة بالمعرفة أكثر وضوحا وحيث الاقتراب أكثر من نمط التسيير الليبيرالي وحيث تشكل الحوكمة فاصلا إيجابيا بين التملك والتسيير. تشخيص عابر لمؤسسات القطاع العام بالجزائر يسمح لنا بتثمين القدرات المادية الكامنة في مبلغ رأس المال الفني وحجم الأصول، وهي شروط ضرورية لكن وزنها مازال يضيق أمام درجة استخدام رأس المال البشري ونسبة الذكاء الاقتصادي والانتباه Eveil، ومن ثمة استشراف السوق على الآماد البعيدة، وهو الهدف الذي يرمي إليه معرض دبي للتسوق على آفاق 2050 وفي نفس الوقت يمكن إدراك حاجة المؤسسة الجزائرية العمومية الى إعادة تأهيل الادارة وتجديد تكنولوجيا الانتاج ثم الادارة بالمعرفة مما يمكنها من استشراف السوق. تحديات أخرى تتطلب من الحكومة الجواب على هذا السؤال: ماذا نريد من القطاع الانتاجي العام؟ هل نريد منه ان ينمو ويتوسع؟ يستقر على حال؟ أم ينسحب؟ وكلما كان الجواب على هذا السؤال واضحا أمكن رسم استراتيجية أعمال مناسبة لهيكل إنتاجي ظل ولفترة طويلة رمزا للدولة. أي مخطط أعمال مناسب للمؤسسة الجزائرية؟ وعلى ضوء الاستراتيجية الصناعية المنتظر عرضها على مجلس الوزراء، نلمس إرادة الحكومة في إنعاش فروع إنتاجية بعينها بهدف النمو والتوسع مثل الصناعات الميكانيكية وصناعة الدواء والصناعات الغذائية، والتخلي عن فروع أخرى. إرادة مشروعة ترتسم بعدها تساؤلات أخرى: أيّ مخطط أعمال مناسب للمؤسسات المراد إنعاشها؟ أي استراتيجية تسويق؟ أي نمط للتسيير؟ ما حجم السوق المستهدف وأين يقع؟ كم نحتاج من الوقت لاستدراك الفجوة التكنولوجية، ولبناء الأرض السوية التي تمليها التزامات الانضمام للمنظمة العالمية للتجارة؟ ما حدود التدخل في التجارة الدولية؟ أي سياسة جديدة للتصدير؟ هل نتمتع برؤية أخرى للشراكة الاستراتيجية؟ هل تعني الاستراتيجية الجديدة العودة مرة أخرى للانتاج العمومي الكبير؟ ما حدود قدرة القطاع العام الحالي على التكيف مع اتجاهات المحيط الخارجي؟ وهل ان محاولة إنعاش هذا القطاع يعد اختيارا سليما أم هناك بدائل أكثر نجاعة؟ تساؤلات مشرعة مشروعية إرادة الدولة في تمتين الاقتصاد الوطني، لا نحب ان تكون تساؤلات إعجاز بقدر ما نريدها عناصر تأمل ونحن نلج اقتصادا معولما من بوابة أخرى هي بوابة التجارة العالمية.