استقبلت مختلف المحاكم الجزائرية مؤخرا عشرات الحالات لخصومات داخل العائلة الواحدة ونزاعات بين الجيران، في منظر يوحي بمدى تفكك الأسرة الجزائرية والمجتمع، هذه الظاهرة استرعت انتباهنا وجعلتنا نقوم بهذا الاستطلاع. في زمن طغت فيه المادة على أواصر المحبة وعلى كل العلاقات المقدسة، لم يعد الجزائريون يهتمون لعلاقات الجيرة ولا حتى لروابط الدم والعلاقات الأسرية، هذا العصر الذي تعدت فيه العلاقات حواجز الأمكنة لدرجة أن المشاكل بين الجيران وأفراد العائلة الواحدة تعدت جدران المنزل والعمارة لتطرح هذه الأخيرة على العدالة، وفي جلسات المحاكم يتقابل الإخوة والجيران وأبناء العم متهمون وضحايا يحكي كل واحد منهم للقاضي عن قضيته ومشكلته وكأنهم أعداء لا تربطهم أي رابطة، وعلى اختلاف القضايا والتهم تراهم ينشرون غسيلهم ويسردون فضائحهم في جلسات المحاكمة ولولا وجود القاضي بينهم لكانوا اقتتلوا في مشاهد لا يمكن سوى دق ناقوس الخطر اتجاهها.
أسباب تافهة يتقابل لأجلها الجيران أمام المحكمة تعددت الأسباب واختلفت التهم، سب وشتم، ضرب وجرح وحتى تهديد بالقتل هي عادة التهم التي يمثل لأجلها جيران ربطتهم علاقة الجيرة لأكثر من سنوات لكنهم نسوا أن الرسول الكريم أوصى على الجار، فتجدهم لأتفه الأسباب يختلفون ويتقابلون في مواجهة بعضهم البعض أمام المحاكم التي تستقبل يوميا العديد من القضايا المتهمون والضحايا فيها جيران، وفي هذا السياق نذكر قضية عالجتها محكمة الشراقة مؤخرا، تورط فيها عضو في لجنة المسجد بعين البنيان وجارته توبعا بتهمة الضرب والجرح المتبادل بعدما تعرض كل واحد منهما للآخر بالضرب، حيث أودعت الضحية شكوى ضد المتهم وهو جارها تتهمه بضربها في غياب زوجها ما تسبب لها في نزيف حاد كاد يودي بحياة جنينها وهذا ليلة السابع والعشرين من رمضان، لكن المتهم هو الآخر أودع شكوى ضدها مشيرا إلى أنه وقع ضحية للضرب أيضا من قبل جارته التي اعتدت عليه بعد تنقله لمنزلها قصد التحدث مع زوجها عن المضايقات التي تمارسها زوجته عليه، من خلال وضعها للنفايات أمام منزله، لكن جارته قابلته بدل زوجها ووجهت له ضربة على مستوى ظهره بواسطة قضيب حديدي تسببت له في عجز لمدة 6 أيام . غير أن هذه الأخيرة نفت ما وجه لها من تهم وصرحت بأنها في يوم الوقائع كانت حاملا وجارها هو من دفعها وأسقطها أرضا، وأضافت أن سبب الخلاف مع جارها انطلق بعدما فتح نوافذ تطل على منزلها.
جيران يتشاجرون بسبب "باركينغ" وقصة أخرى لجيران يقطنون بحي باب الواد بالعاصمة مثلوا أمام محكمة الجنح سيدي امحمد بالعاصمة مؤخرا بتهمة السب والشتم المتبادل، حيث كشفت المحاكمة بأن صراع هؤلاء الجيران مستمر لأكثر من ثلاث سنوات في العدالة ولديهم مشاكل مختلفة وكثيرة مع بعض، منها ما يتعلق برمي النفايات والتسبب في الإزعاج وفي آخر مرة تشاجر فيها الجيران كان السبب هو موقف السيارات "باركينغ" حيث أقدم ابن الجار في الطابق العلوي على ركن سيارته بالقرب من نافذة جاره في الشقة الأرضية لتقوم الدنيا بسبب ذلك ويدخل الطرفان في مناوشات كلامية، وما زاد الطين بلة تدخل النسوة من الفريقين لينقل الخلاف لقسم الشرطة ومن ثم للمحاكمة، حيث تبين بأن كل واحد من المتهمين تورط في السب المتبادل وأنهم متعودون على ولوج المحكمة بسبب كثرة المشاكل التي تقع بينهم.
وآخرون في المحاكم بسبب قطة؟ وتكشف جلسات المحاكم بأن العديد من الأسباب التي توصل الجيران إلى العدالة تافهة وغير منطقية، ومنها ما يكون بسبب النرفزة وعدم التحكم في الأعصاب، وفي هذا نذكر قضية رواها لنا أحد المحامين بالعاصمة حدثت بين جيران في نفس العمارة، وكل هذا بسبب قطة، حيث هربت القطة من منزل العائلة التي تعيش عندها لتدخل منزل الجار المجاور دون أن يتفطن لذلك صاحبها، لكن ما لم يكن في الحسبان أن يثير جاره الفوضى بسبب تلك القطة ويدخل معه في شجار ومناوشات لأنها دخلت منزله وهو يكره القطط -حسب رواية المحامي- ولأن الجار لم يتحمل تطاول جاره عليه خاصة أن دخول القطة عنده لم يكن عن قصد أو فعلا متعمدا، فقد دخل منزله وتركه "يغلي" وحده، لكن جاره الذي كان غاضبا حاول دخول منزله بقوة واعتدى عليه، لينقل الشجار إلى مركز الشرطة بعد تبيلغ زوجة الجار عن الاعتداء الذي تعرض له زوجها، وأمام المحكمة -يقول المحامي- بأن الجار المتهم بالاعتداء طلب السماح من جاره الضحية وبرر فعلته بكرهه للقطط، وهي الحجة التي أثارت موجة من الضحك في المحكمة وجعلت القاضي يعلق عليه بالقول: "قطة أوصلتكم للمحكمة فهل هذه هي علاقة الجيرة التي أوصى عليها الرسول".
أفراد من نفس العائلة يستعرضون أسرارهم وفضائحهم في المحكمة وفي السياق ذاته، تشهد مختلف المحاكم الجزائرية يوميا عددا معتبرا من القضايا، المتهمون فيها والضحايا هم أفراد من نفس العائلة، سواء أشقاء أو أبناء مع آبائهم أو حتى زوجات، الابن مع شقيقات الزوج، فلم تعد مشاكل الأسرة الواحدة تحل بين جدران المنزل، بل أصبحت المحكمة مجالا لتبادل التهم وتفريغ المشاكل وحتى لنشر غسيل الأسر إن صح التعبير، فتجد روابط الدم وقيم الأخوة تتلاشى بين أروقة العدالة، ومن خلال تواجدنا اليومي بالمحكمة تصادفنا قضايا أبطالها هم من نفس العائلة، عندما يتم استجوابهم من قبل القاضي نكتشف أن السبب بسيط وكان بالإمكان حله بعيدا عن المحاكم، فنجد أشقاء يتشاجرون بسبب حنفية وآخرون يعادون زوجة شقيقهم من أجل فنجان قهوة ورمي النفايات وغيرها من الأسباب التي تدفع بأصحابها لاختلاق المشاكل وتبادل الشتائم والوصول حتى للضرب والتهديد، فتصبح المحكمة والمجلس من روتين الحياة لدى هؤلاء، فكثيرا ما تصيبنا الدهشة من عدد القضايا التي يرفعها أفراد العائلة الواحدة لدرجة أن سيدة من العاصمة مثلت كضحية للسب والشتم من قبل شقيقة زوجها، ذكرت أن عدد القضايا التي رفعتها لمدة ثلاث سنوات تفوق 15 قضية.
يتهمن زوجة شقيقهن الأكبر بسرقة مجوهرات لطردها من المنزل وفي هذا المقام، نذكر قضية استعرضتها محكمة الجنح سيدي امحمد مؤخرا، كانت المتهمة فيها زوجة الأخ الأكبر والضحايا هن شقيقات زوجها من الأب، اتهمنها بسرقة مجوهرات تبلغ قيمتها 500 مليون سنتيم، وحسب جلسة المحاكمة فالتهمة لم تكن مؤسسة على أي دليل مادي يثبت أن زوجة الأخ هي من سرقت المجوهرات، ولأن الشقيقة الكبرى للضحايا شرطية وزوجها شرطي فقد تم اتهامها في القضية دون أي دليل، حيث شرحت زوجة الأخ المتهمة أن السبب الحقيقي وراء اتهامها هو إخراجها من منزل العائلة، وراحت تبكي وتخبر القاضي بأنها عاشت مع الضحايا لأكثر من 29 سنة وحتى أنها أرضعت وربت شقيقتهم الصغرى لكنهن كافئنها بتوريطها أمام العدالة.
المحامي أحمد دهيم: "غياب الوازع الديني من أهم أسباب الظاهرة" أشار الأستاذ أحمد دهيم، محام لدى نقابة العاصمة، إلى أن ارتفاع عدد القضايا المسجلة لدى المحاكم ما بين الجيران وأفراد العائلة الواحدة مؤخرا راجع لغياب الأخلاق ونقص الوازع الديني، بحيث لم تعد لروابط الدم وحتى علاقات الجيرة قيمة مثل السابق، وهذا ما يدفع بالأطراف المتضررة إلى إيصال مشاكلهم لأروقة المحاكم دون التريث أو أخذ علاقة القرابة بعين الاعتبار. ويضيف المحامي دهيم أحمد أن قلة الحياء وتغير المرجعية الثقافية والمعايير جعلت أفراد الأسرة الواحدة لا يتورعون في فضح مشاكلهم وحياتهم الخاصة في جلسات المحكمة، غير أن محدثنا نوهَ إلى أن الظاهرة لها جانبين سلبي وايجابي، فالأول يتمثل في التفكك الأسري وعدم احترام أسمى العلاقات بين الجيران، أما الايجابي فيتمثل في وعي المواطنين من خلال لجوئهم للقضاء لحل مشاكلهم دون اللجوء للقوة أو العنف التي تميز مجتمع الغاب خاصة فيما يخص مشاكل الميراث بين أفراد العائلة الواحدة والتي يمكن أن تنجم عنها جريمة قتل.