جاء الاهتمام القانوني بقضايا التحرش الجنسي ضد النساء في الجزائر قبل خمس عشرة سنة، أي حديث العهد مقارنة بباقي الجرائم الأخرى، وكانت مبادرات المشرع تصب كلها في إيجاد نصوص تشريعية تعاقب على فعل التحرش من خلال أول تعديل لقانون العقوبات في المادة 341 مكرر من القانون رقم 04 -15 المؤرخ في نوفمبر 2004، ثم تعزز هذا القانون بتعديل آخر في ديسمبر 2015 يضاعف عقوبة التحرش الجنسي في كل الأماكن بما فيها التحرش اللفظي في الشارع أو المعنوي في أوساط العمل، رغم كل ما جاء من نصوص خلال الفترة الماضية، إلا ان هذا النوع من الجرائم بقي ينخر المجتمع الجزائري، لأنه لم يخرج من دائرة "الطابوهات" والتستر وعدم اللجوء إلى القضاء بسبب صعوبة إثبات الجريمة من جهة، وخوفا من الفضائح التي تهين سمعة المرأة المتحرش بها. يقول المحامي إبراهيم بهلولي، محام لدى المحكمة العليا للشروق العربي أن عددا قليل جدا من النساء يلجأن للعدالة، والقضايا لا تكون عادة في صالحهن، لأن المتحرش ينفرد بالضحية، والتحرش لا يكون أمام الملأ، بل في المكاتب بعيدا عن الشهود ودون ترك دليل مادي. التحرش صار "عمولة" أو "رشوة" تنامت ظاهرة ابتزاز المرأة ومساومتها في أخلاقها وشرفها مقابل منصب عمل أو ترقية، او امتياز إلى درجة صار التحرش يهدد سمعة الوظيفة والمرأة العاملة والمجتمع بأكمله، وقد وصفه رجال القانون ب"الرشوة" او العمولة الجنسية الجديدة، تقف حاجزا أمام مسار المرأة المهني، والبعض الآخر وصفها بالجرائم "السرية" التي تحدث خلف أبواب المكاتب المغلقة في الإدارات والمؤسسات وهي تصنف ضمن الجرائم "المثالية" التي يصعب تقديم أدلة الإثبات حولها. فالكثير من النساء مضطهدات، معنفات نفسيا، تخضعن لأبشع الضغوط، خاصة إذا كانت المرأة أرملة أو مطلقة، تكون أكثر استهدافا من قبل المتحرشين في أماكن العمل، ويقول المحامي الأستاذ إبراهيم بهلولي في هذا الشأن أن القانون موجود، والتحرش كارثة، لكن هذا النوع من الجرائم يكاد يكون منعدم التداول في أروقة العدالة، والقضايا المرفوعة تعد على الأصابع تقريبا، وبعد معركة القضاء ترفض لعدم استيفاء الشروط وأدلة الإثبات. فلا تتعدى القضايا المرفوعة سنويا مائة قضية فقط أغلبها لا يتم الحكم فيه لصالح المرأة، وتسقط القضايا في أول جلسة، لأن جرائم التحرش الجنسي تتم في السرية والكتمان، والمتحرش يختار الزمان والمكان المناسبين لتنفيذ جريمته تزامنا مع غياب الشهود مما يجعل من دليل الإثبات غائبا والتلبس قليلا، وبالتالي تصبح القضية صعبة، إلا إذا كانت قضايا تحرش ثابتة برسالة قصيرة على هاتف خلوي، او بوجود الشهود الذين لا يحميهم القانون في حالة الإدلاء بشهدات ضد المتحرشين، فيتعرضون في أغلب الأوقات إلى الفصل أو المتابعة في مجالس التأديب أو التحويلات القسرية أو حرمانهم من الترقية. كما أكدته لنا السّيدة رقية نصير، رئيسة شبكة "وسيلة" للدفاع عن المرأة والطفل ضحية عنف أن الشهود في قضية تحرش مدير سابق للقناة الأمازيغية ضد صحفية تعرضوا لأبشع العقوبات والمساءلات، وقالت أن على مستوى خلية الإصغاء التابعة للشبكة يتلقون العديد من المكالمات لسيدات تعرّضن لمختلف أنواع التحرش، لكن أدلة الإثبات التي تمكنهن من متابعة المسؤولين قضائيا تكون غائبة والزملاء في العمل يرفضون الإدلاء بأية شهادة ضد مديريهم. امرأة من عشر تتعرض للتحرش تشير بعض الدراسات الجامعية في الجزائر إلى أن امرأة من بين عشر نساء على الأقل تتعرض للتحرش المتمثل في الملاطفات والمجاملات والنظرات، وحوالي 25 امرأة من بين مائة سيدة موظفة يتعرضن للتحرش من الدرجة الأولى كاستعمال السلطة الوظيفية من طرف المسؤول كورقة تهديد وضغط لقبول بعض المزايا "الجنسية" التي تبدأ بالتقبيل والملامسة ف"الوطء"، مما يجعل الكثير من النساء إما يرضخن للابتزاز أو يتركن منصب العمل، لكن نادرا ما يلجأن للقضاء في قضية التحرش نظرا لصعوبة المعركة القضائية من جهة، ونظرة المجتمع لها وتعرضها للنبذ من طرف العائلة والمحيط وتحميلها مسؤولية تعرضها للتحرش. نساء يستنجدن بالمفتي خلال تواجدنا بمكتب تنظيم الفتوى الالكترونية بوزارة الشؤون الدينية، طلبنا بعض المواضيع التي يستنجد فيها الجزائريون بهيئة الإفتاء فأكدت لنا المتابعة لسير رسائل الفتوى أن نساء موظفات تعرضن لأبشع أنواع الابتزاز والتحرش الجنسي والمساومة بالوظيفة في حال عدم قبولهن ب"تقديم العمولة الجنسية"، البعض منهن توقفن عن العمل والبعض وقعن في المتاهات الأخلاقية، وكان رئيس هيئة الفتوى أفتى لسيدتين بالتوقف نهائيا عن العمل بعد أن تحرش بهما المسؤولان. للمجتمع رأي آخر… من يتحرش بمن؟ شكّل قانون تجريم التحرش بالنساء في الجزائر أبرز القوانين لحد الآن إثارة للجدل بين معارض له ومؤيد ومتحفظ، والمستفيد الوحيد من تسليط العقوبات على المتحرشين هن النساء، لكن يرى الكثيرون بما فيهم السياسيون ورجال القانون ان للمرأة دورا كبيرا في جريمة التحرش، فمنهن من تتخذه سلما لصعود المناصب او الحصول على سكن او ترقية او سوق مالية، وهي من تبادر بالتحرش سواء بالمسؤول آو زملاء في العمل، وهذه ظاهرة موجودة ولا أحد يستطيع إنكارها. ويرى البعض ان الأمور انقلبت في الجزائر وبات الرجال يفرّون بجلودهم من بعض الممارسات المفضوحة من طرف زميلاتهم أو جاراتهم أو مسؤولاتهم في العمل، حيث تطارد بعض النساء الرجال في مكاتب العمل والأحياء السكنية وحتى في الشوارع بعبارات ونظرات وإيحاءات وإشارات يعرفها الجميع حتى وإن أبدين حسن نيتهن وربطن "تلك الممارسات بالمزاح وخفة الروح". ومنذ التاريخ كان تحرش المرأة بالرجل واردا في الكتب وحتى الديانات كقصة سيدنا يوسف عليه السلام الذي سعت زوجة العزيز جاهدة لمراودته عن نفسه، واتهمته زورا وسجن وهو بريء، فلماذا لا يطالب الرجال بقانون يحميهم من تحرش النساء؟ التحرش بالرجال… هواية الكثيرات تحرش المرأة بالرجل ليس سرا ولا ظاهرة غريبة، بل موجودة منذ عقود من الزمن، وزاد في الجزائر مؤخرا، حيث اعتبر بعض نواب المجلس الشعبي الوطني أن المرأة بتبرجها تراود الرجل ليتحرش بها وبالتالي تكون هي المسؤولة عن ما يصدر منه من كلام أو ممارسات لأغراض جنسية، فبعض النساء يخترن التحرش بالرجال كهواية، حيث تقول إحدى العازبات أنها تشعر بالقوة والفخر والغرور والثقة بالنفس وبجمالها كلما أوقعت في شراكها رجلا، خاصة إذا كان متزوجا، ليس بهدف خطفه من زوجته ولكن كشكل من أشكال التحدي للنفس.. وهذه حالة مرضية نفسية. لكن الغريب في الجزائر وباقي المجتمعات العربية، يقع اللوم على الرجل دون المرأة من باب أن المرأة مخلوق ضعيف والرجل ذكر لا يتأثر جسده ولا سمعته ببعض العلاقات العاطفية العابرة وبالتالي استوجب حماية المرأة من الرجل مهما كانت الظروف أو الوقائع، ويتساءل الرجال عن غرض المرأة من وراء خروجها في قمة التبرج، كما أنها لا تقابل التحرش بالرفض في كل الحالات، وهناك من النساء من رضخن للتحرش باستسلام كبير كطريقة للخروج من الفقر والجوع أو الوصول إلى أهداف مهنية وترقيات ومناصب عمل مرموقة، أو الرضوخ لأستاذ مقابل النجاة من دوامة الامتحانات الشمولية والاستدراكية كل نهاية سنة جامعية، وهنا يأخذ التحرش صفة الرشوة او العمولة التي حلت مؤخرا محل عمولة المال. ويرى الكثير من الموظفين أن حظوظ المرأة في العمل أكبر من ناحية الامتيازات التي يمنحها لها مسؤولوها في العمل كالسفريات والمؤتمرات والرواتب المغرية مقابل عشاء عمل أو سهرة لاستدراج المتعاملين الاقتصاديين والتجاريين، كما تلجأ بعض النساء إلى التحرش بالمسؤولين للحفاظ على منصب الشغل وحمايتها من صراع التكتلات والعصب التي تعد من أكبر المشاكل المهنية. التبرج أقصر طريق للتحرش أجمع السياسيون والنواب في الجزائر على أن التبرج هو طريق للتحرش، فارتداء الملابس الفاتنة والمثيرة والشفافة يعد نوعا من التحرش بالرجال، فالمرأة التي تجتهد لإظهار مفاتنها في الشارع أو في مكان العمل تتعمد إثارة غرائز الرجل ومكبوتاته، إضافة إلى العديد من الممارسات والأساليب المعروفة، فبعض النساء يلحن في دعوة مسؤوليهن أو زملائهن في العمل للغداء في مطاعم بعيدة تستدعي التنقل في السيارة، واستدراجهم في الحديث عن حياتهم الخاصة وخاصة عن زوجاتهم وأطفالهم وعائلاتهم وبالتالي عن أوضاعهم المادية، لأن التحرش له دوافع مادية بحتة، ومن بين الأساليب أيضا قدرة المرأة على معاكسة رجل في العمل بعبارات صريحة، وتتطور التحرشات من ألفاظ شفهية إلى إشارات كأن تبادر المرأة بمصافحة الرجل أو تبادر بتحيته بالتقبيل، وهذه ظاهرة فظيعة منتشرة بقوة في الأوساط المهنية ومن العادات السيئة التي ساهمت المرأة في نشرها وتعميمها إلى درجة أنها أصبحت من السلوكيات الطبيعية. وكان أول نص قانوني ضد التحرش في الجزائر صادر بتاريخ 2004 ضيقا بحيث يجرم التحرش بالنساء في الأماكن المغلقة فقط، أين تخضع المرأة المتحرش بها إلى سلطة مسؤولها الذي يستخدم نفوذه لأغراض جنسية، ليتوسع في آخر تعديل سنة 2015 لقانون العقوبات ليشمل التحرش في الأماكن العمومية والساحات والشوارع، وقوبل بضجة اجتماعية كبيرة واعتقد الرجال أنهم سيكونون ضحية لا جناة، وهو فعلا ما حدث في الكثير من الحالات، أين يكون الرجل ضحية تحرش من طرف المرأة سواء في العمل أو في محل الإقامة. رجال تطاردهم النساء والسجن روى لنا أحد الأشخاص قصة مؤلمة انتهت بطلاقه من زوجته بسبب زميلته في العمل كانت هاتفته خارج أوقات العمل وتتقصد إحراجه، فقد عرفت من حديثها معه أنه يتنقل كل نهاية أسبوع إلى المركز التجاري بباب الزوار لقضاء بعض الوقت رفقة زوجته فظلت تطارده وتلاحقه من مطعم لآخر ومن مكان لآخر حتى سممت العلاقة بينه وبين زوجته، وهناك الكثير من القصص الواقعية التي تؤكد تحرش النساء بالرجال، فأحدهم غير إقامته بسبب إحدى جاراته التي ظلت تتحرش به لمدة سنوات دون أن يجرؤ على فضحها، وبعد أن فشلت في استدراجه اتهمته زورا بالتحرش، وكاد أن يدخل السجن.