تواصل "الشروق نيوز" في الذكرى السابعة لوفاته (30 جانفي 2012)، بث الفيلم الوثائقي الحصري، حول العملاق عبد الحميد مهري، في جزئه الثاني المعنون ب: "مهري.. والسلطة الفعلية"، حيث يرصد الفيلم في هذه الحلقة، سهرة اليوم الخميس على الساعة التاسعة ليلا، كيف استلم الحكيم "حزب البندقية" وهو مثخن بجراح أحداث أكتوبر 1988، التي طعنته في مقتل. ولولا مهري حسب شهادة الشهود الذي أنقذه من زوال محتوم، لكان الحزب نسيا منسيا، وسيغوص الفيلم في حياة الحزب الداخلية من القمة إلى القاعدة، الذي وجده مهري آنذاك هيكلا مهلهلا بدون روح نضالية، فبث فيه نفسا جديدا من خلال المواقف والقرارات التي أعطاها كامل الأولوية وتجاهل بالمقابل الهيكلة التي رأى فيها استنزاف للجهود الفكرية وهدرا للطاقة السياسية، ليعرج الفيلم على مبادرة مهري التي عرفت بندوة الإطارات وعودة ما يسمى ب"الدينصورات" والامتعاض والاعتراض الذي خلفه عقد الندوة من لدن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد. ويتوقف الفيلم مطولا عند محطة بزوغ الإسلام السياسي بداية التسعينيات، بتجلياته المتعددة، وعودة الزعيمين التاريخيين احمد بن بلة وآيت احمد، ليعرض الفيلم التداحس الدائر بين الفاءات الثلاثة وقتها "الفيس والأفلان والأفافاس"، عشية الانتخابات المحلية والتشريعية، والكبوة التي أصابت الحزب بقيادة مهري، الذي مني بحسرة النتائج الصادمة البلدية والتشريعية، لكن ظل الراحل وفيا لمبادئه وقناعته الداعية لضرورة مواصلة العملية الديمقراطية مهما كانت نتائجها، وهو المدافع الشرس لاستكمال المسار الانتخابي، لأن أي إلغاء للانتخابات حسبه يعد وأدا للمسار الديمقراطي، رافضا ما أسماه "ديمقراطية الدبابة"، التي اعتبرها إجهاضا لحلم التعددية، وإجهازا على روح الديمقراطية. بين الهيكل والهيكلة تسلم عبد الحميد مهري حزب جبهة التحرير، عندما قذف به في حركة سياسية فجائية، من الأحادية للتعددية دون المرور بمرحلة رمادية، التي تكفل وتضمن للحزب الحد الأدنى من الاستقرار والاستمرار، بعيدا عن أي ضعضعة سياسية أو خلخلة حزبية، خاصة وأن المهمة الأولى التي أوكلت لمهري، هي القيام بعملية جراحية قيصرية للتوأم السيامي السلطة هي الحزب والحزب هو السلطة. ليجد الفقيد نفسه أمام معركة سياسية في كنف تعددية عاصفة، تستدعي قوة سياسية وقدرة فكرية، مما اضطره إلى ترتيب أولوياته، وفق مقتضيات المرحلة التي تتطلب مواقف فكرية وقرارات سياسية، قبل القضايا الهيكلية، خاصة وانه ورث تركة حزبية مسمومة، وملغمة بثلاثة ملفات ثقيلة، أولها "تسريح" زهاء 13 ألف عامل من إطارات وموظفي الحزب بعد قرار التعددية، فوجدوا أنفسهم مسرحين من وظائفهم، مهددين في قوت عيالهم، ويجد بدوره مهري نفسه أمام معركة الأرزاق. وهي أشد وطأ من معركة قطع الأعناق، ومسؤولياته الأخلاقية والأدبية تجبره على تسوية ملفاتهم، وثانيها معضلة المقرات التي جرد منها الحزب والتي تنقسم إلى قسمين، مقرات شيدت بأموال الدولة ولا تثريب لديه إن استعادتها الدولة، مادمنا حسبه دخلنا عهد التعددية، وثانيها مقرات شيدت بعرق ومن جيب المناضلين من خلال اشتراكاتهم المالية. وهنا رفض مهري ما اعتبره بالتعسف في حقها، خاصة في عهد حكومتي كلا من سيد احمد غزالي الحانق على الحزب، وبلعيد عبد السلام الحاقد على الجبهة، فجردا الحزب من مقراته وسياراته وأملاكه، ودحرج مقر الحزب المركزي، الذي كان في قصر الحكومة زيغود يوسف، ثم نقل مقره إلى مقر مجلس الأمة حاليا، لينتهي به المقام في شعاب حيدرة (المقر الحالي للأفلان) الذي كان مكتب "لاساس" أيام الاستعمار يذبح فيه المستدمر المجاهدين والمناضلين. وهو مقر جد متواضع، تعود ملكيته لجريدة المجاهد، التي انتزعت من الحزب رفقة زميلاتها جريدتي الشعب والحوار، فحرب المقرات التي أشعلتها السلطة لإلهاء مهري بها، وصرفه عن القضايا الحقيقية، لكن لم يلتفت إليها الرجل، كون النضال الحقيقي عنده، ليس في العمارة الشاهقة (المقرات)، بل في قوة العبارة (الطرح السياسي)، ورآها حروبا هامشية مستنزفة للجهد ومهدرة للطاقة، وهو الذي ورث جهازا ولم يرث جبهة، وثالثها خروج ضباط الجيش من القيادة وجوبا تحت طائلة التعددية، لكن خروجهم كان ظل مرفولوجيا لا بيولوجيا. ندوة الإطارات وعودة ديناصورات.. دعا مهري في حركة نضالية استباقية عشية استلامه الأمانة العامة لحزب جبهة التحرير الوطني الخارجة لتوها من كهوف الأحادية، نحو كنوز التعددية بدعوته لعقد ندوة الإطارات، التي دعا فيها كل المغضوب عليهم من الحزب، الذين فصلهم الرئيس الراحل بن جديد عشية المؤتمر الخامس، هذه الدعوة استشعر منها الشاذلي خيفة من عودة الدينصورات تحت مطية ندوة الإطارات، فامتعض منها أولا، واعترض عليها ثانية، لكن حجة مهري أقنعت الرئيس في الأخير. والتي كان فحواها حسب طرح مهري للشاذلي، كيف ندعو الشعب باسم الجبهة للوحدة الوطنية ولم الشمل، ونحن نفرق صفوفنا بالإقصاء، وكيف ندعو لدمقرطة الحياة السياسية والتداول على السلطة باسم التعددية، ولا نمارسها داخل الحزب بمعية كوادرنا وإطاراتنا وقيادتنا، فاقتنع الشاذلي مضضا ببعد النظر وحسن التبصر لدى مهري، الذي يمقت أمرين بشدة، الإقصاء والشخصنة، فيرى في الأولى تمييعا للقضايا الحقيقية، وفي الثانية مسلخا لتصفيات الحسابات الشخصية. وبذلك مكّن عبر ندوة الإطارات الأولى والثانية، من عودة أسماء ثقيلة إلى عضوية اللجنة المركزية دون المرور على القواعد، أمثال الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، والفقيد العقيد محمد الصالح يحياوي، وبلعيد عبد السلام، والمرحوم بشير بومعزة، والمرحوم علي منجلي، والمرحوم محساس، وغيرهم من الرعيل النوفمبري الأول. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، خشي مهري أن تبقى تلك الأسماء خارج الحزب، فقد تلجأ لتشكيل معارضة وقد تزكي أي معارضة أخرى منافسة أو مناكفة، وقد تذهب في ذلك المسعى بعيدا، فوجودها داخل الحزب حسبه يعد مناعة سياسية وقوة حزبية. الفاءات الثلاثة.. معارك الرتق والفتق عودة الزعيمين التاريخيين كلا من احمد بن بلة وأيت احمد، وبزوغ الإسلام السياسي بتجلياته المتعددة، نحو الإسلام السلفي في نسخته الفيس المحل الذي يقوده عباسي مدني وعلي بلحاج، والإخوان الإقليميين بقيادة الشيخ الراحل محفوظ نحناح، والإخوان المحليين بقيادة عبد الله سعد جاب الله، والجزأرة بقيادة محمد السعيد آنذاك،عشية فتق التعددية وفق دستور 23 فيفري، تحت المادة 40 الشهيرة، لكن هذه الفيسفيساء السياسية الوليدة والجارفة، تصدر فيها الفيس ناصية العملية السياسية والحركية الحزبية، بتعبئة جماهيرية، وقد تعامل الحكيم منذ البداية مع هذا الفصيل السياسي بواقعية كبيرة، واعتبره منافسا سياسيا لا بد من مبارزته ميدانيا بعيدا عن التقديس أو التدنيس. ورفض مهري كل أساليب الدعاية لإقصائه من المشهد السياسي بتطويقه بالاعتقالات والسجون، أو خنقه بحبل مشنقة عدالة الليل، ومد مهري مع الفيس المحلّ جسور الحوار وكثف معه اللقاءات وأدار معه مئات النقاشات، لكن بالمقابل رفض احتكار الفيس للخطاب المسجدي، واستغلال المنابر المسجدية كوعاء للتعبئة الجماهيرية، وعلى نفس المسافة مد جسور الحوار مع أول معارضة في الجزائر الأفافاس، المدرسة السياسية العريقة والعتيقة بقيادة الزعيم حسين آيت أحمد، وهذا التقارب بين الفاءات الثلاثة الأفلان والفيس والأفافاس، بأبعاده الثلاثة (البعد الإسلامي والوطني والأمازيغي)، أرعب السلطة وقتها، والتي توجست خيفة منه. توقيف المسار.. الإجهاض والإجهاز فوز الفيس المحل يوم 26 ديسمبر 1991، أخلط أوراق السلطة التي دخلت في سلسلة إجراءات لقطع الطريق على هذا الحزب الإسلامي، وجاء الرد عليه سريعا بحل البرلمان يوم 4 من جانفي 1992، من طرف الرئيس الشاذلي، ليقدم استقالته يوم 11 جانفي 1992، ويقرر المجلس الأعلى للأمن بعد 24 ساعة فقط من مغادرة الرئيس، إلغاء الانتخابات المزمع إجراءها يوم 16 جانفي 1992، ليتلوها بعد 48 ساعة من إلغاء الانتخابات، تشكيل هيئة رئاسية من خمسة أعضاء تم تسميتها بالمجلس الأعلى للدولة يوم 14 جانفي 1992، ليتم استدعاء المفجر الثوري محمد بوضياف من منفاه "الاختياري" لرئاسته، حيث تم استقدامه "نكاية" يوم 16 جانفي 1992، وهو الموعد الذي كان مبرمجا إجراء فيه الدور الثاني من التشريعيات. ..هنا سجل مهري موقفه عندما رفض مسايرة "الجانفيين"، ورفض تسليمهم الحزب، كمعطف لتبرير استقالة أو إقالة الشاذلي ووقف المسار الانتخابي، ورأى ذلك طعنا في الشرعية الشعبية، وضربة قاتلة للديمقراطية، فأصدر بيانا باسم المكتب السياسي، مستنكرا ما وصفه ب"الانقلاب المفاجئ"، داعيا إلى العودة إلى الشرعية الشعبية والدستورية، باستكمال العملية الانتخابية، في قناعة منه أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، والطريق الصحيح نحو مصلحة الدولة والشعب معا. ورفض الراحل، أن يكون موقفه ذاتيا بتزكية "الجانفيين"، معتبرا أنه سيكون قرارا مدمرا لحزب جبهة التحرير الوطني، ويعد طعنة في ماضيها وضربة قاضية لمستقبلها، هذا القرار كلف مهري دفع الثمن "عدا ونقدا" عشية المؤامرة العلمية التي سنروي تفاصيلها لاحقا. ونبه مهري المغامرين من الآثار الجسيمة التي ستتداعى على البلاد والعباد، بعد إلغاء الانتخابات والذي سيكون بالتأكيد حسبه تغذية للعنف السياسي، الذي لا محالة برأيه سيتطور إلى عنف مسلح، وقد صدقت رؤياه قولا وفعلا، خاصة أن مهري لم يكن يرى أي ضرورة لهذا المغامرة غير المحسوبة العواقب، كون صلاحيات حل البرلمان، بيد الرئيس الشاذلي الذي بإمكانه حله في أي وقت شاء، ولو بعد شهور دون اللجوء إلى إلغاء المسار الانتخابي، الذي يراه إلغاء للعملية الديمقراطية برمتها. ديمقراطية مع وقف التنفيذ ورفض الأمين العام للأفلان، أن يكون الحزب "بارشوك" لجماعة "جانفي" لتنطعهم للحكم وتطلعهم للسلطة، وهم الذين سعوا جاهدين لإرجاع الآفلان إلى بيت الطاعة، لكن قيافة مهري السياسية وقوامته النضالية، جعلت الحزب في منآى من الولوغ في الدماء، من خلال رفضه الانقلاب على الشرعية، خاصة عندما غذى "الانقلابيون" حسبه خطاب الخوف ونشر الرعب، لتخويف الشعب بأن قبول الديمقراطية معناه قبول الفوضى، وقبول الانتخابات يعني القفز نحو المجهول، محملا تلك الأطراف المسؤولية، على إيقاف التجربة الديمقراطية. اعترض مهري على كل أنواع الديمقراطية، التي قدمتها السلطة آنذاك، في قوالب جاهزة للشعب، نحو الديمقراطية المسيجة، والديمقراطية الممنوحة، وديمقراطية ستة أمتار، والديمقراطية الموجهة، وديمقراطية الواجهة، وديمقراطية التقطير، ورأى فيها كلها أعراض مزمنة لديمقراطية مريضة تحميها الدبابة، ورأى في مقاربة السلطة ونظرتها القاصرة للممارسة الديمقراطية، أنها غير صادقة ولا جادة في تكريس العملية الديمقراطية عبر التعددية من خلال الصندوق، وان العملية برمتها مجرد التفاف حول الديمقراطية بهدف اقتسام الحكم. "سلطة فعلية".. مفروضة ومرفوضة أثرى شيخ السياسيين عبد الحميد مهري، القاموس السياسي بعديد المصطلحات، أهمها مصطلح السلطة الفعلية، الذي أطلقه عشية فرض الاستقالة على الرئيس الشاذلي بن جديد، هذا الإجراء ترتب عليه إلغاء المسار الانتخابي، وتكفلت لجنة استشارية الممثلة في المجلس الأعلى للأمن، بتشكيل هيئة رئاسية ممثلة في المجلس الأعلى للدولة، لكن ما الذي يقصد به عبد الحميد مهري بالسلطة الفعلية؟؟.. حسبه هي سلطة الأمر الواقع، أو سلطة القوة أو هي المؤسسة العسكرية والأمنية في تلك المرحلة، المفروضة وهي مرفوضة حسبه، كونها غير شرعية وغير دستورية وغير قانونية، ولكن رأى أنه مجبر على التعامل معها، لكن دون أن يصبغ عليها الشرعية، لأن مصدر الشرعية عنده هو الشعب، وأداته في ذلك هي الانتخابات. كرونولوجيا 18 فيفري 1989.. تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ. 23 فيفري 1989.. ميلاد الدستور الجديد. 6 سبتمبر 1989.. السلطة تعترف بالفيس كحزب سياسي. 12 جوان 1990.. اجراء الانتخابات البلدية والولائية في ظل التعددية. 26 ديسمبر 1991.. الانتخابات التشريعية في دورها الأول. 4 جانفي 1992.. الرئيس الشاذلي يقرر حل المجلس الشعبي الوطني. 6 جانفي 1992.. لقاء جمع رئيس الجمهورية بوزير دفاعه خالد نزار. 11 جانفي 1992.. الرئيس الشاذلي يقدم استقالته أمام المجلس الدستوري. 12 جانفي 1992.. المجلس الأعلى للأمن يلغي الانتخابات التشريعية المزمع إجراءها يوم 16 جانفي. 14 جانفي 1992.. المجلس الأعلى للأمن يقرر إنشاء المجلس الأعلى للدولة في مخالفة دستورية صريحة. 16 جانفي 1992.. عودة محمد بوضياف (من منفاه الاختياري) على رأس المجلس الأعلى للدولة. 9 فيفري 1992.. الرئيس الراحل بوضياف يعلن حالة الطوارئ في البلاد. 16 مارس 1992.. حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقرار قضائي لا رجعة فيه.