قرار محكمة العدل الأوروبية، إقرار دولي جديد بعدالة القضية الصحراوية واعتراف صريح بأن الوجود المغربي في الإقليم استعمار    الدورة ال40 لمجلس وزراء العدل العرب: بوجمعة يبرز جهود الجزائر في المرافعة لصالح القضية الفلسطينية    قوات الاحتلال الصهيوني ارتكبت 7160 مجزرة بحق العائلات الفلسطينية في غزة خلال عام من الإبادة    عنابة: افتتاح الملتقى الدولي حول أمراض القلب والأوعية الدموية بمشاركة 300 أخصائي    رياضة/ الألعاب الإفريقية العسكرية-2024: المنتخب الوطني العسكري للرمي يحصد 32 ميدالية منها 11 ذهبية    التأكيد على اهمية النقابات كقوة فاعلة لتمكين الشعب الصحراوي من حقوقه المشروعة    مالية: الصكوك السيادية, أداة جديدة لتنويع مصادر تمويل البنية التحتية    فيفا/جوائز: الدولي الجزائري ياسين بن زية مرشح لنيل جائزة الفيفا لأجمل هدف ل2024    الغرفة الوطنية للفلاحة تثمن قرارات رئيس الجمهورية الأخيرة لدعم الفلاحين    الجزائر ضيف شرف بعنوان إفريقيا في الطبعة ال28 للصالون الدولي للصناعة التقليدية بإيطاليا    حشيشي يتباحث بأبيجان فرص الشراكة مع وزير المناجم والبترول والطاقة الإيفواري    زيتوني يترأس اجتماعا تنسيقيا لإطلاق المرحلة الثانية للإحصاء الاقتصادي الوطني    بلدية الجزائر الوسطى تنظم تظاهرة "يوم بدون سيارات" طيلة هذا الجمعة    باتنة: افتتاح المهرجان الثقافي الوطني للمسرح الناطق بالأمازيغية في طبعته ال13    متحف "أحمد زبانة" لوهران: معرض لتخليد روح الفنان التشكيلي الراحل مكي عبد الرحمان    تدشين "دار الصنعة" بالجزائر العاصمة, فضاء ثقافي جديد مخصص للفنون والصناعات التقليدية    المهرجان الدولي الثامن للفن المعاصر: تكريم الفنانين التشكيليين الفلسطينيين    قسنطينة.. دخول عدة هياكل صحية عمومية جديدة ستعزز منظومة القطاع بالولاية    أدرار: توقيع إتفاقيتي تعاون لفتح مركزين لتطوير المقاولاتية بقطاع التكوين والتعليم المهنيين    سبعينية الثورة التحريرية: المسرح الجهوي لتيزي وزو يعرض "سفينة كاليدونيا    باتنة: افتتاح المهرجان الثقافي الوطني للمسرح الناطق بالأمازيغية في طبعته ال13    قسنطينة: دخول عدة هياكل صحية عمومية جديدة ستعزز منظومة القطاع بالولاية    افتتاح السنة القضائية الجديدة بولايات جنوب البلاد    الوكالة الوطنية لدعم و تنمية المقاولاتية تطلق برنامجا وطنيا للنهوض بقطاع المؤسسات المصغرة    قوجيل: التضامن الثابت والفعلي مع الشعب الفلسطيني هو رهان العالم اليوم ومبدأ وطني للجزائر    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الداخلية للمملكة العربية السعودية    المشروع سيكون جاهزا في 2025..خلية يقظة لحماية الأطفال من مخاطر الفضاء الافتراضي    حوادث الطرقات: وفاة 41 شخصا وإصابة 193 آخرين خلال أسبوع    الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائر تتوج بثلاث ذهبيات جديدة في الجيدو وأخرى في الكرة الطائرة    الحكومة تدرس آليات تنفيذ توجيهات الرئيس    سوناطراك تشارك في صالون كوت ديفوار    جوع شديد في غزّة    البرتغال تستضيف الندوة ال48 ل أوكوكو    الرئيس يُجدّد دعم الجزائر لشعب فلسطين    الحسني: فلسطين قضيتنا الأولى    إرهابي يسلم نفسه ببرج باجي مختار    إمضاء اتفاقية شراكة وتعاون بين جامعة صالح بوبنيدر ومؤسسة خاصة مختصة في الصناعة الصيدلانية    ميناءا عنابة وجيجل بمواصفات عالمية قريبا    الارتقاء بالتعاون العسكري بما يتوافق والتقارب السياسي المتميّز    طرح مبادرات جريئة لمساندة الهيئة الأممية    الإطار المعيشي اللائق للمواطن التزام يتجسّد    فحص انتقائي ل60900 تلميذ    حرفية تلج عالم الإبداع عن طريق ابنتها المعاقة    إرث متوغِّل في عمق الصحراء    بللو يدعو المبدعين لتحقيق نهضة ثقافية    "فوبيا" دعوة للتشبث برحيق الحياة وشمس الأمل    عطال يتعرض لإصابة جديدة ويرهن مستقبله مع "الخضر"    مدرب فينورد ونجوم هولندا ينبهرون بحاج موسى    انتقادات قوية لمدرب الترجي بسبب إصابة بلايلي    نال جائزة أفضل لاعب في المباراة..أنيس حاج موسى يثير إعجاب الجزائريين ويصدم غوارديولا    جانت.. أكثر من 1900 مشارك في التصفيات المؤهلة للبطولة الولائية للرياضات الجماعية    المسؤولية..تكليف أم تشريف ؟!    أيام توعوية حول مضادات الميكروبات    الفترة المكية.. دروس وعبر    معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة بوهران: استقطاب أكثر من 15 ألف زائر    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر        هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اشبيليا في الذّاكرة منارة وخيانة وأمير
بقلمنور الدين بحوح
نشر في الشروق اليومي يوم 04 - 03 - 2019


1- عندما يغسل الشّعر عار المنهزم
الحياة في اشبيليا نابضة بحركةٍ لا تتوقّف رغم لظى الشّمس المتزايدة التي تصهر الأبدان في أشدِّ أوقات شهرجوان حرارة. فلا السّحائب الشّاردة في جوّ السّماء، التي تتلاحم ثمّ تتلاشى حياءً من نظرات الكائنات التي تتطلّع الى قطرات من غيثٍ عساها أن تُلطّف من لهيب الصّيف وسعيره، ولا حبّات الهواء البارد التي تتسرّب مع هبّات الرّيحٍ من الوادي الكبيرالى دروب المدينة الضّيقة بقادرة أن تُخفّف من هذا القيظ الخانق،ولا أن توقف تضوّعَ الرّوائح الصّاعقة التي تنبعث من خليط البشر وعربات النّقل التي تجرّها الثّيران، والحميروالبغال المحمّلة بأكوام من الأمتعة والبضاعة، فتحبسُ أنفاس أولئك الّذين يروحون ويغدونَ وراء أرزاقهم بين تلك الدُّروب تحسّبًا لحصارٍطويل. ولا أن تُخفّف من توجّس أولئك الجنود الذين يقفون على الأسوارومن خلف الكوّات يرصدون تحرّكات جيش ألفونسوالسّادس ملك قشتالة، الّذي يحاصرالمدينة منذ ثلاثة أيَّام وينتظرون الأمرمن المعتمد بن عبّاد، إمّا إستسلام ونزوح عن المدينة أو خروج لمواجهة العدوّ ليس لهم منه إلاّ الرّدى أونصرمن اللّه قريب.
كانت ثلاثة أيّامٍ شديدة على اشبيليا لم يخطرفيها على بال أحد في المدينة غيرخيار الاستسلام أوالمواجهة، لكنّ المواجهة تعني عند الكثيرين من ملوك الطّوائف الإنتحار، فمنذ وفاة المنصور بن عامروابنيه وبعد أن دال على قرطبة عاصمة الخلافة الأمويّة ما دال من صروف الفتنة والفرقة والإنشعاب التي لم تجد لها من أمرها مخرجا، لم يعد أحد يجرُؤعلى تحدّي ممالك الشّمال وكلّ الّذي كانوا يفعلونه هو التنازل عن بعض الحصون أوالمدن التي في حوزتهم والقبول بدفع الجزية وارهاق الرّعيّة لدفع الخطرولو إلى أجلٍ.
لكن هذه المرّة تختلف عن سابقاتها، فالّذي يُحاصراشبيليا هو ألفونسوالسّادس ولن يسُدَّ جوعته ولا نهمه إلاَّ إهتضام ما بقي من أرض الأندلس الإسلاميّة، خاصّة بعد انتزاعه طُليطلة من عبد القادر بن ذي النّون دون قتال.
في هذه السّاعات العصيبات جلس المعتمد بن عبّاد على كرسيّ مُلكه بقصرالمبارك مشتّت الذّهن تتردّد على فكره صوراشبيليا ثاني أكبروأجمل حاضرة اسلاميّة بعد قرطبة في طريقها الى أن تصيرملكًا للنّصارى ويصيرملكها سجينًا عند ألفونسو، أورُبّما راعي خنازير.
فأدرك فداحة الخطأ الّذي ارتكبه بتآمره على طليطلة، وأنّه بهذا قد فتح الطّريق لملك النّصارى الى اشبيليا وباقي الممالك الأندلسية المسلمة. فبمن عساه أن يستنجد؟
هل يبعث في طلب النّجدة من عمربن الأفطس أميربطليوس الّذي حاول السيرلفكّ الحصارعن طليطلة فحاصرالمعتمد مدينته ومنعه، فسقطت بذلك طليطلة في 27 محرم عام 478ه (1085م). لكنّه تذكّرأنّه لم يفعل أكثرمن انتقم لأخيه وأبيه، فقد حدث قبل سنوات أن وجّه المعتضد ابنه اسماعيل بعساكره يريد أرض جليقية تحت معاقدةٍ بينه وبين ابن الأفطس، فلمّا أوغل اسماعيل ببطليوس غدربه ابن الأفطس واصطلم عساكره اصطلاما لم يسمع بمثله.
أم يبعث الى عبد اللّه بن بلقين أميرغرناطة، لكنّه تذكّرأنّه بعد وفاة المأمون بن ذي النّون أمير طُليطلة عقد هونفسه حِلفًا سرّيًّا مع مملكة قشتالة، أرسل فيه وزيره ابن عمّار، وأُتفق على أن تُدعّم قشتالة المعتمد عسكريّا للاستيلاء على باقي ممالك الطّوائف مقابل جزية يُؤدّيها الى قشتالة وأن يُطلق يدها في حربها ضدَّ طُليطلة، ثمّ سارهو الى غرناطة ليضمّها الى مملكته واتفق أن يأخذ المعتمد المدينة ويحصل ألفونسو على أموالها وثرواتها.
استبدّت به صورالذّل والهوان الّذي أوصل نفسه إليهما، ولاحت له طوالع المصيرالمروّع الّذي انحدراليه، فعضّ على أنامله ندمًا وحسرة، يرجو أن تتداركه العناية الإلهيّة بعونٍ أو نجدة.
وبينما هو مشتّت الفكرعاجزًاعن أيّ قرار، إذ دخل عليه رسول القشتاليّين فقرأ عليه كتاب ألفونسو ليزيده إيلامًا بعد إيلام:
"إنّ الحرّ شديد والذّباب كثيرفابعث لي بمروحة لطرد الذّباب "
فجأة تذكّر المعتمد أنّه عندما بدأت مدن الأندلس بالتساقط في يد الممالك النصرانية، عُقِدَ اجتماعٌ كبيرٌ في قرطبة، حضره الكثيرمن فقهاء وقضاة ووجهاء المدينة، وبعد أن ناقش الحاضرون حال الأندلس والخطرالمحدق بها، اتُّفق على أن يكون الحل هو استدعاء مسلمي إفريقية وكادوا يتفقون على بني زيري والتحالف معهم على اقتسام الأموال مقابل نصرتهم لملوك الطوائف وحماية الأندلس. لكنَّ القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم نهاهم عن ذلك وقال:
"أخاف أن يخرّبوا الأندلس كما فعلوا بإفريقيَّة، فيتركوا الإفرنج ويبدؤوا بكم، والمرابطون أقرب إلينا وأصلح حالا ".
فكان الاجماع على استصراخ يوسف بن تاشفين أميرالمرابطين بدلاً من الزيريّين.
استبدّت الفكرة بالمعتمد وتردّدت في الحاح على خاطره، فقويت هِمّته وتمثّل ببيت شعرمن قصيدة سعد بن ثابت:
سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبًا……..عليّ قضاء اللّه ما كان جالبَا.
فكتب على الفورالى ألفونسو:
"قرأتُ كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظرإليك في مراوح من الجلود اللمطية، في أيدي الجيوش المرابطية، تروح منك، ولا تروح عليك إن شاء الله تعالى".
إهتزَّ بعض الحاضرين فقال يلومه على على طلبه العون من المرابطين:
"المُلك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمدٍ واحد"
فقال له المعتمد جملته التي اشتهرت فيما بعد:
"تالله إني لأؤثر رعيَ الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعاً لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية، إنَّ رعي الجمال خيرٌ لي من رعي الخنازير".
واعترض عليه ابنه الرشيد وألحّ في الإعتراض:
"يا أبت، أتدخل على أندلسنا من يسلبنا ملكنا ويبدّد شملنا؟"
أجابه: " أي بني! والله لا يُسمَع عني أبداً أني أعدتُّ الأندلس داركفر، ولا تركتها للنّصارى فتقوم عليَّ اللعنة في منابرالإسلام مثل ما قامت على غيري".
عندما عاد الرّسول الى مُعسكرالجيوش القشتاليّة، وتُرجم لألفونسوما كتبه له ابن عبّاد استولت عليه الرّهبة، فعدل عن غرضه وأمربرفع الحصارفورًا ورحل عن أسوار المدينة.
لم يكن الإستنجاد بالمرابطين على ابن عبّاد سهلاً، فقد كان مُدركًا أنّه يغامرفي ذلك بعرشه وملكه، لكنّه حسم أمره، وأرسل الى باقي ملوك الطّوائف يرغّبهم في فكرة استدعاء المرابطين، كما أرسل وزيراه ابن زيدون وأبو بكربن قصيرة الكاتب الى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بسبتة يستنجده ويشرح له ما يلقاه مسلموالأندلس من المذلّة والقهرعلى يد نصارى الشّمال. ويرغّبه في الجهاد، والذّود عن الدّين المشترك.
أجاب أميرالمسلمين الدّعوة، فحشد جنده وعبربهم الى أرض الأندلس وخاض معركة الزّلاّقة وأنقذ الأندلس من المصير المشؤوم الّذي كانت ستؤول اليه، وعمّت البُشرى نواحيها.
ولكن من تطبّع على طبعٍ مات عليه، فما أن عبرأمير المسلمين الى عدوة المغرب، حتّى عاد ملوك الطّوائف الى التّقاتل فيما بينهم والإستنجاد بملوك النّصارى، والأسوأ من ذلك أنّ كلّ واحدٍ منهم تعهّد سرّا لملك قشتالة بالامتناع عن معاونة المرابطين، فلم يخرج أحد منهم لما أراد ابن تاشفين محاصرة طليطلة،فاضطرّه ذلك الى استفتاء الفقهاء والعلماء في أمرهم فأفتوه بخلعهم فخلعهم،فاقتاد نائبه على الأندلس سيربن أبي بكرالمعتمد بن عبّاد الى أغمات أين مات أسيرًا سنة488ه( 1095م)
يقول ابن اللّبّانة في وصف يوم رحيله عن اشبيليا.
حان الوداع فضجّت كلّ صارخةٍ……..وصارخٍ من مُفداةٍ وفادي
سارت سفائنهم والنّوح يتبعها……..كأنّها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت…….. تلك القطائع من قطعات أكبادٍ.
والمعتمد هو ابن المعتضد وحفيذ القاضي اسماعيل الّذي ولي أمر اشبيليا بعد الغاء نظام الخلافة بقرطبة. وقد خلف المعتمد والده المعتضد في حكم اشبيليا وهو في الثّلاثين من عمره، وورث من صفات أبيه الخلقية فتورالهمّة في قتال نصارى الشّمال، والهوان أمامهم ودفعِ الجزية لهم، فكان يدفعها بانتظامٍ، كما ورث عنه فتورشعوره الديني وتهاونه نحوأمّته وعقيدتها، وافراطه في القسوة والعسف وشدّة البأس في قتاله لباقي الممالك الإسلاميّة والتّآمرعليها والفتك بملوكها. لكنّه لم يرث عنه غدره بالمقرّبين منه ولا استهتاره بدمائهم، فقد كان كما يقول ابن الأبّار في وصفه:
"عفيف السّيف والذّيل، مخالفًا لأبيه في القهروالسّفك، والأخذ بأدنى سِعاية. إلاَّ أنّه كان مولعًا بالخمر، منغمسًا في اللّذات،عاكفًا على البطالة، مخلدًا الى الرّاحة ". وذاع صيته كملك شاعرٍ واشتهرما كان منقطعًا اليه من أيّام إمارته بمدينة شِلب من حياة اللّهو والتّرف".
فطغت صورة الملك الشّاعرالماجن عذب القريحة، وبديع النّظم، ورقيق الحاشية وارتسمت في الذّاكرة الإسلامية الى جانب الملك الخامل الضّعيف الّذي لا صواب عنده ولا بصيرة، مثله مثل باقي ملوك الطّوائف.
وبقى في التّاريخ الإسلامي شخصيّة جدليّة تثيرالإعجاب والعطف وتثيرالسّخط والحنق في آن واحد. شخصيّة تستيقظ نخوتها أحيانًا فتظهرمن مواقف البطولة والرّجولة ما تُظهر، وتغشاها المهانة والمذلّة أحيانًا فيسلك مسالك الخيانةٍ والغدرمع إخوانه المسلمين ويُمالي ألفونسو السّادس ويتحالف معه ويدفع له الجزية ولا يجد في ذلك غضاضة في سبيل تحقيق أطماعه وطموحاته.
وكان لسجيّته الأدبيّة أعظم الأثرفي ذلك فهوالملك الوحيد الّذي كان ينظم شعرًا يثيرالإعجاب والإستحسان، وكانت حياته شعرًا حيّا، وتزوّج من الجارية اعتماد الرميكية وكان لزواجه منها قصّة طريفة فقد ذكرالرّواة أنّ المعتمد ركب يوما النّهرمع وزيره ابن عمّاروقد زردت الرّيح النّهر فقال لابن عمّار أجز: "صنع الرّيح من الماء زرد"، فارتج على ابن عمّار، فتلكّأ فأجازته هي على البديهة: "أي درعٍ لقتالٍ لو جمد " فتعجّب من حسن ما أتت مع عجزابن عمّار ونظراليها فاذا هي صورة حسنة، فأعجبته، فسألها: " أذات زوجٍ هي؟ فقالت: " لا! " فتزوّجها وتكنّى بكنيتها.وصوّر شغفه بها في هذه الأبيات الخالدات:
حب اعتمادٍ في الجوانح ساكنٌ…..لا القلبُ ضاق به ولاهو راحل.
يا ظبيةً سلبت فؤاد محَمدٍ….. أولم بُروَعك الهزبرُ الباسلُ.
من شكَ أنيَ هائمٌ بكِ مغرم….. فعلى هواك له علىَّ دلائلُ.
لون كسته صفرةُ ومدامعٌ …….هطلت سحائبها وجسم ناحل.
فصارت قصّتهما من مفاخرالأدب العالمي ومصدرالهام للكثيرمن الإنتاجات الأدبيّة التي تُضفي الخيال على كلّ ماهو تاريخي. جاء في كتاب "حكايات الكونت لوكانور" لصاحبه الدّون خُوان مانويل ابن أخ الملك ألفونسوالعاشرالملقّب بالحكيم، حكايتين اسبانيّتين شعبيّتين للمعتمد بن عبّاد وزوجه اعتماد بعنوان " ما حدث للمعتمد ملك اشبيليا مع زوجته الرُّميكيّة ":
1 "حنين الرّميكية لرُؤية الثّلج": حيث يُقال أن اعتماد طلبت من المعتمد أن يريها الثلج فزرع لها أشجار اللوز على جبل قرطبة حتى إذا نوّر زهره بدت الأشجار وكأنها محمّلة بالثلج الأبيض.
2 " ولا يوم الطّين": حيث اشتهت اعتماد المشي في الطين، فأمرالمعتمد أن يُصنع لها خليط من المسك والكافوروماء الورد حتى عاد كالطين، فخاضته برجليها.وحدث أن غاضبها المعتمد ذات يوم ، فأقسمت أنّها لم ترمنه يوما حسنا، فقال لها: ولا يوم الطين ؟ فأصبح مثلا للمرأة التي تنكر نعم زوجها
كما كان المعتمد لا يستوزر وزيراً ولا يُعيّن كاتبًا إلا إذا إستوثق من أدبه وشعره أمثال ابن زيدون وابن عمّار وأبي بكربن اللّبّانة. وقد غطّت هذه العبقريّة الأدبيّة والشّعريّة والخلال الإنسانيّة الرّقيقة عن مساوئه وخطاياه السّياسيّة وخياناته، واجتلب اليه أعلاق العطف ودُرر الحمد خاصّة بقصيدته التي صوّربها محنة الأسرالتي عاشها آخرأيّامه عندما قال يرثي حاله:
غريب بأرض المغربين أسير ……سيبكي عليه منبر وسرير.
وتندبه البيض الصّوارم والقنا ……وينهل دمع بينهن غزير.
سيبكيه في زاهيه والزاهرالندى……وطلابه والعرف ثم نكير.
إذا قيل في أغمات قد مات جوده……فما يرتجى للجود بعد نشور.
مضى زمن والملك مستأنس به……وأصبح عنه اليوم وهو نفور.
وهكذا قضى المعتمد بن عبّاد غريبًا في أرض المغرب وكانت خاتمته من أروع المآسي التي خلّدها هو نفسه بقصيدة أوصى أن تُكتب على قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي….حقًا ظفرت بأشلاء ابن عبّاد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت….بالخصيب إن أجدبوا بالرّي للصادي
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه…….إن الجبال تهادى فتتوق أعواد
قال ابن خلكان:" ومن النّادرالغريب أنّه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب بعد عظم سلطانه، وجلالة شأنه، فتبارك من له البقاء والعزّة والكبرياء".
قضى ابن عبّاد غريبًا في أرض المغرب بعيدًا عن إشبيليا. لكنّ اشبيليا أُنقذت وأنقذت معها الأندلس وتوالى على حكمها المرابطون فأبلوا في الدّفاع عنها واستشهد خيرة قادتهم في سبيلها فلمّا ذهبت دولتهم خلفهم الموحّدون فحصّنوا المدينة واتخذوها عاصمة ملكهم بالأندلس، وفي عهد خلفائهم انفتحت اشبيليا على كلّ مظاهرالتزيين والتفخيم والمبالغة في التّفاخر.
2- اليتيمة والأيتام
كانت اشبيليا مدينة أثيرة الى نفس الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، حبيبة عليه، وأقرب الى قلبه من عاصمة ملكه مرّاكش.قضى فيها ردهًا من شبابه واليًا على الأندلس فراقت له مظاهر الحضارة التي كان عليها أهل الأندلس. ذكرصاحب كتاب المنّ بالإمامة أنّه "هو الذي مصّر اشبيليا وأمرببناء سورها من جهة الوادي من ماله بعد هدم السّيل العظيم له في عام 564ه"
ولنا أن نتخيّل كم كان انزعاجه كبيرًا لمّا رأى أنَّ جامع عمربن العدبّس باشبيليا قد ضاق بأهله حتّى صاروا يُصلّون في رحابه وأقبيّته وفي حوانيت الأسواق المتصلة به، فعهد على الفورالى واليه على الاندلس أبوداود يلول بن جلداسن ببناء جامع كاد يقارب جامع قرطبة في اتساعه وارتفاع منارته، قبيل حملته الى شنترين بالبرتغال عام 1184م. قال صاحب كتاب المنّ بالإمامة: "وفي هذه السّنة من شهررمضان إبتدأ أمير المؤمنين باختطاط موضع هذا الجامع العتيق الأنيق..وكان الّذي دعا أمير المؤمنين الى بنائه ما خصّه الله به من الورع والدين..وأنّ جامع مدينة اشبيليا المعروف بجامع العدبَّس قد ضاق بأهله".لكنّ بناء الصّومعة تعطّل بموت أبي يعقوب أثناء عودته من غزوته وموت واليه أبي داود ستة أشهرمن بعده.
وماكاد الخليفة الجديد يظفر بالبيعة حتّى أوكل الى الوالي الجديد محمّد بن أبي مروان الغرناطي الإشراف على مشروع أبيه وإعادة بناء منارة تتجاوز في علوّها منارة مسجد قرطبة. فشرع العريف احمد بن باسة ببناء المنارة.لكنّ المنية وافته هوالآخرفناب عنه علي الغماري عام 1188م. ثمّ تعطّل بناؤها مرّة أخرى الى أن انتصرالموحّدون في معركة الأرك على جيوش قشتالة في 10 يوليو 1195م فعقب هذا الانتصارأمرالخليفة أبويوسف يعقوب المنصوربإكمال العمل بالمنارة وبناء مثيلتيها لجامع الكُتبيّة بمرّاكش وجامع حسّان بالرّباط تخليدًا لذكرى الانتصاروعمل أربع تفافيح تكابد زعازع الرّياح وصدمات الأمطار ثمّ رفعها في أعلى المنارة.
كتب صاحب كتاب المنّ بالامامة يصفها "وهذه الصّومعة الفايت وصفها للنّاطقين،السّابق حديثها الى المخبرين، لا صومعة تعدلها في جميع مساجد الأندلس: سموّ شخصٍ، ورسوّ أصلٍ، ووثاقة عمل، وبنيان بالآجر،وغرابة صنعة، وبدائع ظاهرة، قد إرتفعت في الجوّ،وعلت في السّماء.."
وكي يصدح من فوق سطح برجها المؤذّن ويدعو المؤمنين الى بارئهم. فكّر المهندس المُسلم في أمروصول المؤذّن الى برجها فوجد أنّ تسلّق السّلم شاق عليه، ويرهقه صعودًا، فشيّد بدل السُّلّم مُرتقًا لولبيّ الشّكل الى أعلى البرج، يسلكه المؤذّن على ظهر جواده ومن هناك يمكن أن يلقي نظرةً شاملةً على المدينة ودورها وحدائقها وقصورها وساحاتها الى الوادي الكبير وأحواضه ومساقيه.
وقد كانت المنارة مغطاة بقبة كروية مصنوعة من النحاس إلا أنها سقطت عقب زلزال ضرب المنطقة عام 1365م، فقام المسيحيون باستبدال القبة بصليب وجرس. وفي القرن السادس عشر الميلادي، قام المعماري هيرنان رويز بتصميم برج ناقوس وعلى رأسه تمثال يعبر عن العقيدة المسيحية ليحول المنارة إلى برج للأجراس. وضع هذا التمثال على قمة الخيرالدة عام 1568م، أربعة أمتار طولا دون قاعدته وبها يبلغ السبعة أمتار. كان يطلق على التمثال اسم جيرالدا (أي دوارة أو محددة اتجاه الريح)، ومع مرور الوقت أصبحت المنارة تعرف بهذا الاسم، أي جيرالدا، فيما أخذ التمثال اسم جيرالديللو.
وظلّت هذه الصّومعة مثاراعجاب النّاظرين اليها من المسلمين والنّصارى حتّى أنّه عندما فاوض المسلمون على تسليم المدينة سنة 1248م بعد سنة ونصف من الحصارطلبوا من ملك النّصارى أن أن يترك للمسلمين الحق في هدم مسجدهم الجامع وتقويض مئذنته أجابهم فرديناندالثالث بحدّة: " سأقطع رقابكم جميعًا لو مسستم حجرًا من هذه المنارة "
ليست الصّومعة هي الأثر الموحّدي الوحيد الّذي بقي من اشبيليا فالى جانبها لا زال برج الذّهب الذي تفخربه أشبيليا اليوم يُذكّرالمارّين بها بماضيها العربي وهومن إنشاء آخرأمراء الموحّدين بالأندلس أبوالعلاء ادريس الكبير.ففي سنة 617ه /1221م وبعدما استبدّ به الخوف من هجمات الإسبان عقب هزيمة حصن العقاب،وعملاً بوصيَة والده الخليفة يعقوب المنصور الّذي عندما تغشّاه الموت وقبل أن تجود نفسه ساعةً أوصى وعيناه تذرفان الدّموع فقال:
أوصيكم بتقوى اللّه تعالى، وبالأيتام واليتيمة
فقال الشّيخ أبو محمّد عبد الواحد:
ومن الأيتام واليتيمة يا أمير المؤمنين؟
فقال المنصور:
اليتيمة جزيرة الأندلس، والأيتام سُكّانها المُسلمون، وايّاكم والغفلة فيما يصلح بها من تشييد أسوارها وحماية ثغورها وتربيّة أجنادها وتوفيررعيّتها.
فلمّا ولي أبو العلاء أمراشبيليا أمرببناء هذا البرج وقصد من ذلك أن يكون نقطة دفاع حصينة عن قصره تضاف إلى سورين متعاقبين،أحدهما أطول يحيط بمباني أشبيلية واخرخارجي أقصر يلاصق النهر.ويقع البرج على ضفّة نهرالوادي الكبير،وتمتدّ منه سلسلة حديديّة ضخمة عبرمجرى النّهر فتربطه ببرج آخرعلى الضّفّة المقابلة، ليمنعا سفن الأعداء من المرور في النّهر. واختلف في سبب تسميّته ببرج الّذهب بين رواية عربية ترجع ذلك الى جدرانه الخارجية التي كانت مكسوّة ببلاطات خزفيّة ذات طلاء ذهبي، ورِواية اسبانيّة تزعم أنّ الملك بِدرو الأوّل أودع كنوزه ومنها الذّهب بهذا البرج.
لم يبق اليوم من ماضي المدينة العربيّ الاّ القليل من الآثار كالقصروالمئذنة وبعض الأسوار الأبراج من العهد الموحّدي. لكن رغم كلّ ما فقدته من ماضيها العربي الاّ أنّها تبقى أكبروأجمل وأغنى مدن اسبانيا، لكن تبقى بها منارة المسجد الكبيرالّذي بناه السُّلطان الموحّدي أبو يعقوب يوسف المنصو،ثمّ هدمه ملوك النّصارى بعد استلائهم على المدينة وشيّدواعلى أنقاضه الكاتدرائيّة الكبيرة الأثرَالقيّمَ لهذا الماضي العظيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.