غادر الشّيخ المغامّي وعينه تقطر من الأسى على المدينة الّتي أباحها للكفر جُبن عبد القادر ذي النّون وخُذلان ملوك الطّوائف. وولّى وجهه شطر اشبيليا. غادرها وقلبه يتفطّرعلى خزائن الكتب التي حوتها مساجد المدينة ومدارسها ودورها، تلك الكتب التي صادرها جدّ ابن ذي النّون وضمّها لمكتبة قصره يوم أراد أن يتباهى بملكه ويُزاحم ملوك الطّوائف. والكتب التي جمعها الحَكَم المُستنصر سنين حكمه بمكتبة الزَّهراء و ونجت من نار الحاجب المنصور عندما أراد أن يكسب وُدّ العامّة فأحرق بعضها وأيضًا الكتب التي نجت أيّام الفتنة البربريّة قبل إنتهاء الخلافة الأمويّة، وباعها الفتى واضح العامري لقراصنة الكتب، فحملوها الى طليطلة. ولم يكن له من عزاء إلاّ كما ذكر ابن شكوال في كتاب الصِّلة أنّه أوقفها على طالبي العلم. فذلك كان عزاؤه الوحيد. لقد شاءت الأقدار أن تكون طُليطلة أولى كبرى الحضائر الإسلاميّة وأقواها وأعظمها التي تسقط في أيدي نصارى الشّمال الإيبيري وتتحوّل الى أهمّ معبر تتسرّب منه أنوار الثّقافة الإسلاميّة الى باقي أوربّا. وإنّه من حسن حظّ الغرب أن تسقط هذه المدينة العظيمة رغم حصانتها في أيدي ألفونسو السّادس ملك قشتالة وليون فيتيح سقوطها للغرب أن ينهل من معين المؤلّفات العربية في ميادين الطّب والفلسفة والفلك والطّبيعة والزّراعة، ويقتبس من أنوار الحكمة الإسلامية. كان أغلب ساكنة طُليطلة قبل السّقوط من الأسالمة المولّدين(المسلمين) والنّصارى المُستعربين واليهود. وكان من شروط التّسليم أن يحافظ العرب والمستعربون نصارى ومُسلمين على اللّغة العربيّة في عباداتهم وتعاملاتهم فلا يستبدلونها بغيرها وهو الشّرط الّذي وُفّي به، فبقي النّصارى المستعربون يُؤدّون شعائرهم الدّينيّة وطقوسهم الكنسيّة باللّغة العربيّة واللاّتينيّة الى أوخر القرن السّادس عشر الميلادي. كتب المؤرّخ الاسباني خواكين بالبيه: أنَّ اللّغة العربيّة بقيت لغة رسميّة في طُليطلة لأكثر من 350 سنة وأنَّ هناك أكثر من ألف وثيقة تمّت كتابتها باللّغة العربيّة في المدينة بعد سقوطها. أي إلى أن أصدر الملك فيليب الثّاني في 7 نوفمبر 1566م قانونًا يحظر بموجبه الحديث باللّغة العربيّة ويمنع التّقاليد الإسلاميّة. أدرك الملك ألفونسو السّادس ومن جاء بعده قيمة الثّروة الفكريّة والعلميّة التي تجمّعت بالمدينة من أوّل أيّام الفتح الى يوم السّقوط المشؤوم، وبدل أن يردّ المسجد الكبير الّذي حوّله الرّهبان السُّود الى كنيسة أمر بأن تُؤسّس بداخله مدرسة لترجمة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة الى اللّغة اللاّتينية و من بعدها القشتاليّة، ثمّ فتحها للباحثين فتوافد عليها المتعطّشون للمعرفة والحقيقة من كافّة أنحاء أوربّا. وممّا ميّز تاريخ مدرسة التّرجمة بطليطلة أنّ اغلب الذين عملوابها كانوا أجانب نقلوا ما ترجموه الى أوطانهم وبلدانهم. فقد كان أوّل المتحمّسين لترجمة الكتب العربيّة القسّ رايموند دي ساوباتيت الفرنسي أسقف طليطلة الّذي استعان بالمستعربين وبلغت الكتب التي ترجمها أكثر من 75 كتابًا وموسوعة. كما عرفت التّرجمة ونقل الثّقافة العربيّة الى اللاّتينية اللّغة الرّسمية للشعوب الأوربيّة أوج ازدهارها في عهد الملك ألفونسو العاشر الذي اعتلى العرش القشتالي سنة 1245م والّذي أحاط نفسه بالكثير من العلماء المسلمين حتّى سُمّي بألفونسو الحكيم (العالم) فاقتفى أثر الخلفاء العرب وفعل ما كان يفعله الحكم المستنصر بقرطبة، كما واصل الإستفادة من تركة العرب الثّقافية وآدابهم وعلومهم، فأشرف بنفسه على أعمال التّرجمة والتّلخيص والشّرح والتّحرير، وأنشأ مدرسةً للدّراسات بمورسية وأوكل أمرإدارتها للفيلسوف المسلم محمّد بن أبي بكر الرّقوطي. وتُرجم في عهده كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وبعض مؤلّفات ابن رشد التي انتقلت الى الجامعات الأوربيّة فأحدثت فيها ثوررات على التّعاليم الكنسية، كما أمر بنقل جميع كتب الفلكي الأندلسي الزّرقالي ومسلمة المجريطي الى اللاّتينية، واعتمد الطّريقة الحوليّة الإسلاميّة في تدوين التّاريخ التي استند متّبعوها الى مصادر تاريخية عربيّة مثل كتاب " البيان الواضح في الملمّ الفادح"المفقود لابن علقمة البلنسي الذي نقل عنه بعض المرّخين العرب أمثال ابن عذاري المرّاكشي وابن الابّار و ابن الخطيب. كما استفاد منه صاحب كتاب"السّيد القمبيطور" الذي يُعدّ أوّل ملحمة اسبانيّة ألّفت بالقشتاليّة في القرن الثّالث عشر ميلادي. 3- سيدي حامد بن الأيّل في نجدة مؤلّف الدّون كيشوت رغم أنّ عمليّة الإستفادة من الفكر العربي الإسلاميّ انطلقت مبكّرا من طُليطلة في شبه الجزيرة الايبيريّة إلاَّ أنّ أنواره امتدّت الى باقي أوربا فأحدث ثورتها هناك وبقيت اسبانيا والبرتغال بلدين متخلّفين مقارنة بباقي اوربّا، لم يستفيدا كثيرا من التّركة العلميّة والفكرية العظيمة التي تركها العرب، غيرأنّ تأثير الثّقافة الاسلاميّة في الأدب الاسباني تبدو للعيان واضحة في ميدان الشّعر والموسيقى وأدب الأمثال و الملاحم والفروسية. ويرى الباحث الاسباني فرناندو دي لاجرانخا أنّ العديد من الأعمال الأدبية الاسبانيّة قد أتت على شاكلة الأعمال الأدبيّة العربيّة. مثل حكاية " حبّات التّين الثّلاثة " للأديب الإسباني لويس دي نبيدو في كتاب " النّوادر " التي جاءت مشابهة لحكاية في كتاب " حدائق الأزهار " لابن عاصم الغرناطي(1426). كما يُشير فرناندو دي لاجرانخا الى حكايات أخرى جاءت في كتاب " الأيكة الإسبانية " مثل" حكاية الجامع" وهي قصَّة فكاهيّة تجد أصولها العربية في كتاب " الأذكياء " لأبي الفرج بن الجوزي. أمّا صاحب كتاب " مغامرات السّيد القمبيطور" المستعرب المجهول الّذي يُشار اليه باسم "عبّاد. ب" من طليطلة فيبدو تأثّره بالأسلوب العربي في كتابة الرّواية التّاريخية جليّا، ففي الكثير من صفحات الكتاب يعثر القارئ على مواقف بطولية وإنسانية ترجع في جذورها إلى بيئة أخرى غير بيئة الحروب الصّليبية، إنّها ترجع إلى أدب الفروسية الّذي نشأ في الصّحراء العربيّة، ووصل الى أوربّا عبر اسبانيا. لكنَّ أكثر ما سيُصيب القارئ الشّغوف بالرّوايات التاريخية والإسبانية بصفة خاصّة بالذّهول عندما يصل الى الفصل التّاسع من رواية الدُّون كيشوتي للأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا. أين يتوقّف الرّوائي عند الموقف الّذي يتقاتل فيه الدون كيشوت مع البشكونشي، ففي هذه اللّحظة الحرجة تنقطع الرّواية ولا يجد الرّاوي لها خاتمة. يقول ثيربانتس: " رأينا في اللّحظة الحرجة أنّ القصّة اللّذيذة قد بترت عند هذا الموضع دون أن يدلّنا المؤلّف أين يمكن أن نجد خاتمتها، فاستوقد هذا الأمر غضبي لأنّ اللذة التي ظفرت بها من قراءة هذه القصة قد تحوّلت الى مضايقة وتملّكني اليأس من العثور على مابقي ناقصا من هذه القصة الشّائقة….لكنّي فكّرت انّه من المستحيل أن ألاّ يظفر مثل هذا الفارس الطّيب بحكيم يحتسب لنفسه العناية بكتابة أفعاله المجيدة. وشاءت الأقدار أنّي كنت ذات يوم في درب القناة في طليطلة فشاهدت صبيّا أتى تاجر أقمشة حريرية ليبيعه كرّاسات قديمة. فدفعني فضولي الى أن تناول احدى الكرّاسات التي كانت بيده فوجدتها مكتوبة بحروف عربية ولمّا كنت فضويّا و لا أعرف قراءتها فكّرت فيما إذا كنت أستطيع العثور على عربي متنصر يمكن أن يقرأها لي. فساق لي القدر مترجما أعربت له عن رغبتي وناولته الكرّاسة، ففتحها في الوسط ولم يكد يقرأ منها بضعة أسطر حتى إستغرق في الضّحك فسألته عن السبب فقال: إنّه يضحك من حاشية وضعت على هامش هذا الكتاب. فالتمست منه أن يقول لي ما فيها فقال وهو لا يزال يضحك هذا هو المكتوب في الهامش: " دالثينيا دل توبوسو" هذه التي يرد ذكرها كثيرا في هذه القصة يقال إنّها تملك أحسن يد لتمليح الخنازيرفي اقليم لامانشا." فلمّا سمعت اسم" دالثينيا دل توبوسو" بقيت مدهوشًا حيرانا اذ تصوّرت في الحال أنّ هذه الأوراق تتضمن تاريخ الدون كيشوت دي لامانشا وتحت تأثير هذه الفكرة حثثته على قراء العنوان فقال يترجم إلى الاسبانية إنّه:" تاريخ دون كيشوت دي لامانشا: تأليف سيدي حامد الأيلي المؤرّخ العربي". فانتزعت على الفور الكتاب من يدي بائع الحرير واشتريت كل الكرّاسات القديمة من الصبيّ بنصف ريال، وابتعدت انا والعربيّ الى رواق الكاتدرائية ودعوته أن يترجم كل لي هذه الكراسات الى الاسبانية أوعلى الأقلّ ما يتعلّق بالدّون كيشوت، فأتم ترجمة هذا التاريخ على النحو الذي طلبنا في ستة أسابيع. واستطعت بهذا أن أعثر في الكرّاسة الأولى على بقية القصّة في الموضع الذي تركت فيه الدون كيشوتي مع البشكونشي ". ولعلّ أيّ قارئٍ عربيّ مرّ بهذا الفصل سيجد نفسه في متاهة من الظّنون والتأويلات والتّساؤلات عمّن يكون سيدي حامد الأيلي الرّاوي العربي الّذي جعله سرفانتس يتقاسم معه كتابة الجزء الثّاني من هذه الرّائعة العالميّة، والّذي لولاه ما استطاع سرفانتس أن يكمل سرد المعركة التي جرت بين البشكونشي والدّون كيشوت. ولولم يعثر سرفانتس على هذا النص الذي كتبه سيدي حامد لبقي العالم محروما من المتعة التي يمكن أن يتذوقها من أتمّ الرّواية الى آخرها. هل كان سيدي حامد الأيلي شخصيّة حقيقية أم متخيّلة أراد سرفانتس أن يزيد بها من عنصر التّشويق والإثارة لروايته. إنّنا ندرك أنّ الأدباء الإسبان استفادوا كثيرا من ترجمة الأدب العربي أمّا كيف استفاد سرفانتس فإنّه يبقى أمرا يكتنفه الغموض والإبهام ومجالاً يحتاج الى بحث عميق و أدلّة كافية. ففي الزّمن الّذي كتب فيه سرفانتس رائعته كانت الحرب على أشدِّها بين العالم الإسلامي واسبانيا النّصرانية، كما أنَّ السّلطات السّيّاسية والكنسية في ذلك الزّمن اتخذت موقف الاستيلاء المباشر على منتجات الثقافة الاسلامية والتنكّر لحقّ أصحابها وطمس أثارها في كلّ شبه الجزيرة الإيبيريّة. الثّوب ينسلّ من الوسط 1- أوّل الغدر واصل الشّيخ المغامي مُقرئ طليطلة وحافظها في هذا اليوم من ديسمبر من عام 1085م قراءة آخر الآيات من سورة براءة بالمسجد الجامع. كان الجنود القشتاليون يحيطون به من كلّ جانب، لكنّ الرّهبة منعتهم من الإقتراب منه، فلم يقدروا أن يقطعوا عليه قراءته، ولا أن يستعجلوها، وكلّ الّذي فعلوه أنّهم تركوه يتّم تلاوته الى الحدّ الّذي أراده اللّه أن يختم به. كانت الرّهبة قد استولت على قلوبهم وهم ينصتون اليه وهو يتلو آيات اللّه في خشوع. وكانت تلك الرّهبة هي نفس الرّهبة التي تسيطر على الظّالم عندما يرى ثبات المظلوم و وصاحب الحقّ، أوعند سماع آيات الحق فتخشع روحه طوعًا أو كرهًا. إنّها الرّهبة التي تملّكت فرعون عندما سمع موسى يصدع بالحقّ أمامه فتوجّست نفسه واضطربت أساريره فقال للملأ حوله " ذروني أقتل موسى وليدع ربّه ". لكنّه لم يجرؤ أن يمدد إليه يدَا. عندما أتمّ الشيخ قراءته، أطبق مصحفه، ووضعه بين يديه ثمّ خرج الى الشّارع متّسمًا داره بأعالي طليطلة بعد أن ودّع المسجد وداع الحبيب المفارق. برزت جموع المسلمين هائجة وساخطة من كلّ فجّ ودرب أمام ساحة المسجد الجامع ترسل اللّعنات على القادر باللّه يحي بن ذي النّون الّذي سلّم الحاضرة لألفونسو ملك قشتالة دون قتال بعد أن فاوضه بأن يُمكّنه من تملّك بالنسيا مملكة عبد الملك بن عبد العزيز حفيذ المنصور بن عامر، وكانت الجموع ساخطة أيضا على باقي ملوك الطّوائف الّذين تركوهم الى مصيرهم، وحانقة على المعتمد بن عبّاد الّذي ذهب أبعد من ذلك فعقد مع النّصارى عقدًا بأن يذرهم وشأنهم في طليطلة. ولم ينجو من لعناتهم إلاّ المتوكل بن الأفطس الذي أرسل ابنه في جيش كبير لنجدة المدينة المحاصرة لكنه تعرض للهزيمة أمام جيش قشتالة. كانت وجوه المسلمين تتقلّص من الألم وعيونهم تنظرمشدوهة بامتعاضٍ وبؤسٍ الى أولئك الغرابيب السّود يتقدّمهم الأسقف برناردو كبيررهبان ديرسهاغون يمشي في خيلاء كي يحوّل المسجد الجامع الى كنيسة. وفجأة سمع الشّيخ المغامي صوت شاعرٍ ينطلق من بين أزقّة المدينة الضّيقة ينادي في تلك الجموع: يا أهل أندلس حثّوا مطيّكم فما المقام بها إلاَّ من اللّغط الثّوب ينسلّ من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولا من الوسط ونحن بين عدوّ لا يُفارقنا كيف الحياة مع حيّاتٍ في سقَط. فاضت عينا الشّيخ بالدّمع فلم يزجرها ولم يكفكفها، لكنّه واصل سبيله بين دروب المدينة الجميلة الى داره فوجد أهله في انتظاره فركب معهم الى اشبيليا في كمدٍ وحسرة. كانت طُليطلة أولى حضائرالإسلام الكبرى التي تسقط في يد نصارى الشّمال بعد انفلات عقد الخلافة بالأندلس. وكانت فيما مضى عاصمةً للقُوط، افتتحها طارق وموسى بن نصير سنة 712م صُلحا، لكنّ المسلمين لم يتخذوها عاصمةً لدولتهم بل اختاروا مكانها اشبيليا ومن بعدها قرطبة. وتقع المدينة على مرتفع منيع تحيط بها أودية وأجواف عميقة تتدفّق فيها مياه نهرتاجه الّذي يحيط بالمدينة من ثلاث جهات. وقد تكلّم الحميري عن موقع طليطلة في كتابه الرّوض العطّار فقال: "هي على ضفة النّهر الكبير، وقلّ ما يرى مثلها إتقانا وشماخة بنيان،وهي عالية الذرى،حسنة البقعة…ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة، وقلاع منيعة، وعلى بعد منها في جهة الشمال الجبل العظيم المعروف بالشّارات". ولِي يحي اسماعيل بن ذي النّون أمر طليطلة سنة 1043م بعد وفاة أبيه اسماعيل الطّافر وتلقّب بالمأمون، واستطال عهده الى ثلاثين سنة، لكنّه بدل أن يوجّه جهوده الى مجابهة ممالك الشّمال النّصرانية تحالف معهم وقوّى شوكتهم وحارب بهم ومعهم أمراء بني هود وبني الأفطس وبني عبّاد وجميع ملوك دويلات الطّوائف، وخلال الخمسين سنة التي حكم هو وأحفاده طليطلة لم يترك مدينة ولا قرية مسلمة ولا قلعةً ولا حصنا إلاَّ غزاه، حتّى أنهكت الحرب قواته وأنفذت أموال الجزية التي كان يدفعها لملوك النّصارى خزائنه فانكمشت رقعة دولته، و فقد موارده. فلمّا مات، حاصر ألفونسو ملك قشتالة المدينة فلم يقوَ حفيده عبد القادرعن الدّفاع عنها ففاوض الملك القشتالي على التّسليم، ثمّ فتح أبواب المدينة لألفونسو السّادس وجنوده بعد أن حصل لأهلها من الإسبان على عهود بحفظ أنفسهم و أموالهم و أهليهم و دنيهم و شريعتهم وأن يحتفظوا بقضاتهم ونظمهم و تقاليدهم وأن يحتفظوا بالمسجد الجامع لطليطلة الى الأبد. وممّا جاء في بنود الإتفاقية: 1- أن يسلّم القصر الملكي وحدائقه للملك القشتالي. 2- أن يذهب الملك المُسلم حرّا الى مدينة بالنسيا وأن يمكّنه ملك قشتالة من الإستيلاء عليها. 3- أن يُؤمّن أهل المدينة في المال والنّفس فلا تؤخذ أموالهم ولا أمتعتهم ولا أملاكهم. 4- أن يبقى المسجد الجامع بيد المسلمين الى الأبد يقيمون فيه شعائرهم. 5- أن يُقسم الطرفان كلّ وفق تقاليده على احترام هذه العهود. لم يمض أكثر من شهرين على سقوط المدينة بيد الغزاة النّصارى، وبعد أن غادرها الملك ألفونسوفي زيارة رعائيّة الى أراضي ليون أقدمت زوجته الفرنسية كونستانس و برناردو كبير رهبان دير سِهاغون على اتخاذ قرار تحويل مسجد المدينة الجامع الى كاتدرائيّة خلافا للعهود والمواثيق الصادرة عن ألفونسو السادس، بالرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها حاكم المدينة سِسَندو، ومن امتعاض سكّانها من المسلمين فقد تمت عملية تحويل المسجد بتهديم محرابه وإقامة مذبح مكانه، كما رُفع جرس على مأذنته بحضور جمع كبير من مقدمي ووجهاء الإسبان النصارى. ورغم أنّ المؤرّخين الاسبان يُؤكّدون أنّ ألفونسو السّادس استشاط غضبا عندما عرف بتحويل مسجد طليطلة إلى كاتدرائية وأنّه قطع رحلته عائدا إلى عاصمته الجديدة إلا أن كلّ شيء بقي على حاله وصار برناردو فيما بعد رئيسا لأساقفة إسبانيا. فهل كانت زوجته و من حولها من رهبان أقوى منه و أكثر نفوذا فتغلبوا على إرادته، أم أنه في أعماقه كان موافقا على ما فعلوه و راضيا بما استحدثوه؟ كان هذا أوّل الغدر، فقد أدرك الشّيخ المغامي أنّ احتجاجه لن يُغنيَ شيئًا وأن لا حياة له بعد اليوم وسط هذه الحيّات وأنّ ساعة الرّحيل قد أزفت فأستأنف سيره يُهمهِم بهذه الأبيات وينظر الى أسوار المدينة التي حوت أرضها أرواح أبائه لمئات السّنين: لثكلك كيف تبتسم الثغور ……….سروراً بعد ما سبيت ثغور طليطلة أباح الكفر منها ……….حماها إن ذا نبأ كبير فليس مثلها إيوان كسرى…….. ولا منها الخورنق والسدير محصّنة محسّنة بعيد…………..تناولها ومطلبها عسير ألم تك معقلاً للدّين صعباً……….للذّلة كما شاء القدير وكانت دار إيمان وعلم………. معالمها التي طمست تنير مساجدها كنائس !أي قلب……..على هذا يقر ولايطير مضى الإسلام فابك دماً عليه…..فما ينفي الجوي الدمع الغزير. لا تزال كاتدرائيّة طليطلة العظمى في وسط المدينة والتي أعيد بناؤها في مكان المسجد الجامع القديم الّذي أمر بهدمه الملك فرديناندو الثّالث سنة 1227م وأمر أن تُبنَ مكانه الكاتدرائية مقرًّا الرياسة الدينية العليا للكنيسة الإسبانية. كما لا تزال الكثير من الجوامع التي تحوّلت الى كنائس محافظة على شكلها الأندلسي الاسلامي مثل جامع باب المردوم وكنيسة سانت رومان و مسجد الفخّارين (ترنرياس) الّذي تحوّل الى متحفٍ للصناعات التّقليدية. كما يُمكن للزائر رؤية أسوار المدينة العربية القديمة التي بقيت على حالها تقاوم صروف الدّهر و جُرم الإنسان.