قبل 22 فبراير من هذا العام، لم يكن الإدلاء بأيّ تصريح لوسائل الإعلام “رياضة وطنيّة” يتسلّى الجميع بممارستها خوفا من تبعاتها، أو إيثارا للسّلامة تحت واجب التحفّظ، أو تدثرا بغطاء الانضباط الحزبي والسّياسي والعسكري.. وفجأة صار الكلُّ يتكلّم، ويحلّل، ويُصدر الأحكام، ويقترح المبادرات، ويشكّك في مسارات الرّجال، ويسعى في تلميع صور البعض وتشويه سمعة البعض الآخر، وتنصيب فلان لقيادة الدّولة أو لعضويّة “المجلس الرّئاسي” واستبعاد “الوجوه القديمة” من فرصة المشاركة في المرحلة الانتقاليّة، ودعوة الجيش إلى المرافقة دون التدخّل في الشؤون السياسيّة حمايةً للدولة المدنيّة من العسْكرة.. هكذا صارت الجزائر بلد ال20 مليون محللّ لظاهرة الحراك الوطني، كما كانت قبل عشر سنوات بلد ال40 مليون مدرِّب للفريق الوطني في ملحمة “أم درمان” وما بعدها. حيثما تولّي وجهك تسمع من يهدّد ومن يتوعّد، ومن يرسم الخطط، ومن يقترح أو يبادر، ومن يحاول ركوب الموجة، ومن يعمل على “تبييض” صورته وإعلان توبته وبراءته، ومن يرشّح من له فيهم مصلحة بعيدة، ومن يصفّي حساباتٍ قديمة.. تحت عناوين كثيرة أهمّها: ناشط سياسي. ناشط حقوقي. مدوّن فايسبوكي. شباب الحراك. خبير دولي. مفكر استراتيجي. مختص في كذا وكذا.. وهكذا صار الجميع يُنظّر ويقترح وينصّب ويخلع ويتعصّب لقومه وفئته وجهته.. وكثرة التصريحات ليست ظاهرة صحيّة، فالمبالغة في الحديث يحوّله إلى تهريج يطمس الحقيقة، وكثرة التحليلات والقراءات تعوِّم المطالب، وكلما ارتفع السّقف زادت المخاوف وزادت نسبة التأهّب لاحتمالات الانزلاق والخروج عن السّلميّة. الذي حدث في الجزائر لا يمكن قراءتُه إلاّ باستدعاء الأسباب التي تراكمت عبر عشريّةٍ كاملة ليكون قرار من رشّحوا عبد العزيز بوتفليقة لعهدةٍ خامسة القطرة التي أفاضت الكأس وأخرجت الشّعب الجزائري عن صمته ليرابط في كل شبر من تراب الجمهوريّة ويهتف بصوت واحد: لا.. للخامسة! ثمّ توالت الأحداث وتوالى معها ارتفاع السّقف ليصل إلى ذروة المطالبة برحيل الجميع تحت شعار: “ترحلوا.. قاع”. حقّق الحراكُ الشّعبي جملة من المكاسب، يمكن الإشارة إلى أهمها ليعلم الرّأي العام أنّ في الحركة بركة، وأنّ السّلميّة أقوى من كل عمل عنيف، وصوتَ الشّعب أعلى من كل مؤسسة، وفوق كل رأس، وقبل كل رئيس.. وأنّ أكبر المغرّر بهم هم بطانة الرّئيس السّابق الذين غرّروا بالرئيس بوتفليقة بدفعه إلى الثالثة والرّابعة وأغروه باستكمال الخامسة. فطفح الكيل، وتحوّل الاحتجاج إلى حراكٍ شعبي عارم ثمّ صار استفتاءً، حتّى صار الدّستور أضيق من مطالب الشّعب، وأنّ “العلبة السّوداء” في تركيبة النّظام كانت عصابة تتحكّم في أقوات الشّعب وحرّياته وسيادته.. وفي مصادرة حقوقه والتحكّم في رسم خريطة حاضره ومستقبله. – كسْر حاجز الخوف والتردّد، ونقل المعركة من مقرّات الأحزاب والفضاءات المغلقة إلى السّاحات العامّة في كل شبر من أرض الوطن وعلى مستوى الجاليّة. – إحياء الرّوح الوطنيّة بتلاحم وجداني واسع وعميق، دافعه الأساس الشعور بالمهانة والاحتقار والاستخفاف.. الذي مارسته السّلطة على شعبها مدّة طويلة. – انتشار الوعي السياسي والدستوري والقانوني.. على جميع المستويات، حتّى خرج تلاميذ المدارس يطالبون بالتّغيير..! وصارت بعض المواد الدستوريّة محلّ نقاش شعبي عامّ داخل القطر وخارجه. – إعادة الثّقة في إمكانيّة الحلّ عن طريق التّظاهر السّلمي، والضّغط على الأنظمة الفاسدة للرّحيل باستخدام أدوات دستوريّة تردّ للشّعب سيادته المغصوبة، وتتيح له فرصة لاسترجاع التّفويض الذي منحه للحاكم وبطانته عن طريق الاستفتاء والانتخاب. – ردّ هيبة الشّعب وهبّته لمحْو الصّورة المتداولة التي رُوّجت عن الجزائريين، من صفات التسرّع، والعنف، والخشونة في التّعامل مع المخالِف… ورسم لوحة جماليّة بارعة استلّت إعجاب العالم كلّه، حتّى صار كثيرٌ من المقهورين في الأرض يتمنّون أنْ لو كانوا جزائريّين. – سدّ جميع المنافذ التي كان يتسلّل منها نهّازو الفرص في الدّاخل، وحماة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج، وغلق الباب أمام محاولات التدخّل الأجنبي بتكامل جهود الحراك مع المؤسسة العسكريّة، وبحُسْن التعامل مع أجهزة الأمن.. وإحياء سلطة الرّقابة على المال العام بفضح اللصوص والمختلسين ونهّابي أموال الشّعب.. – كشف زيف الأحزاب التي كانت هياكل فارغة تستند إلى شرعيّة المؤسسة العسكريّة في استمرار وجودها بذريعة أنها هي الدّولة، وهي المصلحة الوطنيّة، وهي الموالاة الضّامنة للاستقرار والاستمرار.. وغيرها لا حقّ لهم في عيرٍ ولا في نفير.. وتعريّة رموز النّظام وإسقاط الجهويات والمحسوبيات ولوبيات احتكار الثّروة والسّلطة. وغير هذه المكاسب كثير، وسوف تتراكم المكاسب المعنويّة التي يتغيّر بموجبها ثقافة الجزائريين، إذا حافظ الحراك على سلميته ولم تستفزّه سلوكات محتملة الحدوث، بعد جلوس السيّد رئيس مجلس الأمة على عرش المرادية رئيسا للدّولة، فبين استقالة بوتفليقة وأخذ البرلمان بغرفتيْه علما بشغور المنصب، كان منصب رئيس الجمهوريّة شاغرا، أما وقد تمّ شغله فالمتوقّع أنّ الخطاب سوف يتغيّر، والمعاملة سوف تتجّه إلى ردّ هيبة الدّولة، بالمفهوم الإداري الذي يضع كل فرد أمام مسؤولياته، فالإصرار على رفع السّقف قد يفتح في الجدار المتماسك للحراك حتّى الآن ثغرة يصعب سدُّها، هي ثغرة تحكّم رفض كلّ شيء وتحوّل المطلب إلى أبيض أو أسود. – إما أن يتحقّق التّغيير الجذري، باختفاء القديم كلّه وميلاد الجديد. – أو التحوّل التّدريجي من المطالبة بالتّغيير إلى العصيان المدني. بعيدا عن تزكيّة الأشخاص أو الطّعن فيهم، وبعيدا عن التحدّث باسم زيد للتّحامل على عمرو.. دون إيغال في التفاصيل أو تطلُّع إلى الغيب لاستشراف المستقبل.. يبدو لي واضحا الآن أنّ الحراك قد حقّق نجاحا باهرا على مستوى التعبئة والتحشيد. وقطع شوطا معتبرا في اتّجاه التعبير عن المطالب ورفْع رسائله لمن يعنيهم الأمر. وهذا مهم. ولكنّ المرحلة الأهم هي مرحلة الحوار والتفاوض حول مستقبل الجزائر الجديدة التي صارت حلم الجميع. فإذا تلكّأ الحراك في تسقيف مطالبه واستمرّ سقفُه في ارتفاع بعد كل جمعة، وأصرّ على أخذ الكلّ أو لا شيء، فإن اليد الممدودة إما أن يأتيها أمرٌ بأن تُقبض، أو يُسقِطها الحراك. وفي كلتا الحالتيِن لن يجني ثمارَ موسم التّغيير سوى الأقليّات النّافذة التي تترصّد لحظة التّعفين لتتساقط على الجرج كما يفعل ذباب الجيّف، فقد علمتنا دروس الماضي أنه من السّهل على الشّعوب هدْم كل قديم، ولكنْ من الصّعب عليها تجسيد أحلام البناء الجديد، ما لم تصنع الأحداث لها قائدا.