“حاجيتك ماجيتك.. كليت عشاك وخليتك”، مقدمة كانت تستهل بها جداتنا قصصهن المروية بالتراث والمسقية بالتقاليد، بعد الصلاة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- تبدأ القصة بتفاصيلها، الحبكة جزائرية والعبرة عالمية تتخطى حدود الزمان والمكان.. الشروق العربي، تجمع أندر القصص والمحاجيات الجزائرية، لترويها لكم في ليلة مباركة من ليالي رمضان. كانت القصص والمحاجيات تواكب سهرات رمضان في سطح الدار أو في الحوش أو في أي مكان تجتمع فيه العائلة بعيدا عن صخب المقاهي الرجالية بالشاي والنعناع والدومين. قصص بدأت تندثر رويدا رويدا، بعد أن كان تراثنا يزخر بالكثير منها، أصبح لا يتذكر جيل اليوم سوى بعضها وبالاسم فقط، طبعا لا أحد يعرف تفاصيلها والعبرة منها. لتقصي هذه النظرية، سألنا بعض الشباب عما يعرفونه عن محاجيات زمان، فكانت الصدمة، فمثلا سهام، 18 سنة، تقول في الموضوع: “كانت جدتي- رحمها الله- تروي لنا بعض القصص قبل النوم، وأنا في الخامسة والسادسة، مثل لونجة بنت الغول، التي كنت أعشقها وأطالبها بها في كل مرة نبيت في بيتها… الآن نسيتها بعد أن رحلت جدتي”. أما عماد، طالب في كلية الطب، فكان له رأي مختلف: “لا أحب القصص والمحاجيات، لأنها لا تمت للواقع بصلة ولا تعلمنا شيئا”، وعندما سألته: هل كان هناك من يروي له هذه القصص فأجاب بالنفي. أما بسمة، ولحسن حظنا، فتجيب على ماهية المحاجيات في تربية الطفل لكونها طالبة في علم النفس: “القصة أو المحاجية أو الخرافة، تنمي الخيال، وتعلم المبادئ، وتنبهنا إلى قوى الخير والشر الموجودة في الطبيعة البشرية، وتعطينا نظرة مسبقة عن قسوة الحياة، وتغرس في نفوسنا قيم الشجاعة والصبر والمثابرة… والمحاجيات الجزائرية تحمل كل هذه العناصر من غيلان وأمراء وبنات طيبات وخيال واسع يضاهي خيال الكاتب تولكيان صاحب روائع سيد الخواتم”. سماّع الندى ولونجة من القصص المندثرة، التي كانت جدتي تحكيها لي في السهرات الرمضانية أو الشتوية قصة الشجعان وبنت السلطان التي سرقها الغول، وكل كان لديه قدرة خاصة، أي القصة سبقت الأبطال الخارقين أو الأنفجزر في هوليوود منهم “سماع الندى” و” دڤاڤ الأرض” و”سلاك الشعرة من العجين”، واستعمل كل منهم موهبته لإنقاذ بنت السلطان. أما أسطورة لونجة، فهي أشهر من أن تحكى، تلك الجميلة الفاتنة التي يضرب بها المثل في الجمال، ومن تحسب نفسها جميلة تقارن بلونجة “واش حاسبة روحك لونجة بنت الغول”.. رواية لونجة تعرضت للكثير من التحريف مع الوقت، خاصة على الإنترنت، وأصبح من لا دراية له يكتب عن لونجة وعن حبها لمقيدش، غير أنهما شخصيتان مختلفتان تماما… كانت جدتي تقول في روايتها القديمة لهذه القصة إن القراب والأواني و”الڤصعات” كانت تتكلم، وتأتي صاغرة لتضع لها الغولة أم لونجة الحناء، وإن القصعة الكبيرة التي كان يختبئ تحتها وليد السلطان، الذي وقع في حب لونجة، رفضت أمرها لتنقذهما من بطش الغولة، وتهرب في النهاية لونجة مع الأمير وتنتهي القصة بسلام بعد مغامرات أخرى. وين تهرب يا لي وراك الموت من القصص القديمة التي يرويها الأجداد، هذه المرة، قصة رجل كان يخاف الموت، فهرب منه، فراح يسافر ويرحل من مكان إلى مكان، عله ينجو من المنية المحتومة، وفي أحد الأيام، صادف امرأة فائقة الجمال في سوق إحدى المدن، فتبعها بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، فدخلت قصرا كبيرا بينما بقي هو ينتظرها عند البوابة، وأمضى الرجل الولهان ليلته في الانتظار، حتى بزغ شعاع الفجر، فتجرأ على طرق الباب، لكن بدل الفاتنة فتحت له الباب عجوز في غاية القبح، وحين سألها عن جميلة السوق، أخبرته أنها الموت الذي كان يهرب منه… وبقيت القصة خالدة باسم “وين تهرب يا لي وراك الموت”. حكاية “عيشة إذا صبرت” محاجية أخرى، يقال إن أصلها أمازيغي، هي قصة “عيشة إذا صبرت”، تروي قصة حطاب لديه سبع بنات، ذهب يوما ليقتطع الحطب، فأراد أن يجتث شجرة قديمة من جذورها، فخرج منها عفريت اسمه “سرور”، أهدى الحطاب سلة عجيبة مقابل ألا يقطعها، وكانت هذه السلة تحمل كل ما لذّ وطاب من الطعام، واكتشفت جارته سرها بعد أن أخبرتها عيشة ابنته الصغرى الساذجة، فاستبدلتها بسلة مزيفة. بعدها، عاد الحطاب إلى العفريت، فأهداه هذه المرة طاحونة عجيبة، تخرج الدقيق عند الطلب، وأخذتها الجارة الجشعة مرة أخرى. في المرة الأخيرة، طلب العفريت من الحطاب أن يترك عيشة تفتح الباب إذا طرقها سائل.. وفعلا فتحت عيشة الباب، لكنها وجدت نفسها في قصر كبير، وعندها خدم وجوار يخدمونها، ومرت الأيام، ضجرت فيها عيشة، وحنت إلى والديها وأخواتها، فطلبت من سرور أن تزور عائلتها… فأخبر سرور صاحب القصر المتواري عن الأنظار قائلا: “عيشة حبت تشوف خواتتها سبت حيرتها”.. وعادت عيشة إلى بيتها، فغارت منها أختها الكبرى لما رأته من جمالها وثيابها الغالية، فحرضتها على معرفة صاحب القصر، وكان من عادة صاحب القصر أن يقول عند حلول الظلام: “اطفي المصباح ياسرور.. وخلي الخيال يزور” في ذات الليلة، خرجت عيشة بشمعتها الباهتة، تجوب القصر، فوجدت في إحدى الغرف أميرا فائق الوسامة أمام سريره درج سري، فنزلت عيشة بفضولها المعهود لاكتشافه، فوجدت حرفيين من أمهر ما رأت عينها يحيكون الڤندورة ويصنعون خيط الروح، وكلما سألتهم لمن هذه الهدايا يجيبون لعيشة إذا صبرت” وعندما همت بالخروج من الغرفة انسكب الشمع الساخن على وجه الأمير النائم، فاستيقظ فزعا، فضرب بيده عيشة فوجدت نفسها في قصر ملكة الغيلان وبناتها السبع… وعاشت عيشة خادمة في هذا القصر، وكانت صاحبته تأمرها بغسل الأرض بدموعها وتنهاها عن فتح علبة المرح “حوكة الزهو”.. وفتحتها عيشه الفضولية فرأت مجموعة من الموسيقيين يغنون “هذا عرس علي بن غول”، فعاقبتها الغولة بإعطائها شمعة لتنير لبناتها وهن يضعن الحناء على أيديهن الخشنة.. واستغرق وضع الحناء ساعات طويلة حتى ذابت الشمعة فأحرقت يد عيشة فصرخت “كية في علي بن غول”… وعندها وجدت عيشة نفسها مرة ثانية في قصر الأمير علي بن غول، وانتهت القصة كعادة القصص الجزائرية، بزواج عيشة من فارس أحلامها. من قصص القصبة… فاطمة المعكرة من قصص حي القصبة العتيق، التي حكتها لي إحدى العجائز التي قابلتها هناك، وهي لالة باية، وأنا أتجول قصة بيت في زنقة بن فارس عن فتاة جميلة يتيمة، تدعى فاطمة المعكرة، أي “المزوقة”، من فرط جمالها كان يظهر للعيان أنها تضع كحلا وحرقوسا.. وكان لها أخت كبرى تدعى صليحة لم تكن على قدر من الجمال.. وورثت كل منهما نصف الدار أو “الدويرة”، كان لفاطمة صوت عذب كانت تطرب به كل الجيران، فاشتغلت “مسامعية” بينما عملت صليحة في النسج والطهي… في أحد الأيام، حضرت صليحة طبقا من المثوم، فوصلت رائحته العبقة إلى بيت الجارة الفقيرة التي كانت تنتظر مولودا، فاشتهت أكله، لكن عزة نفسها منعتها من السؤال، فراحت تطلب من فاطمة من السطح بعض الجميرات لإشعال كانونها، وكلما تشعله ينطفئ وتعود لتطلب الجميرات مرة أخرى، فتفطنت فاطمة إلى الأمر، فطرقت بابها ودخلت تتفحص بيتها المتواضع لتجد الكانون خامدا ولا يوجد أكل فوقه، فسارعت إلى أختها تطلب طبقا من “المثوم” لجارتها فرفضت ذلك.. فعرضت عليها عرضا غريبا، أن تعطيها الطبق مقابل حصتها من البيت… فقبلت صليحة الجشعة العرض المغري كي تتخلص من العار الذي وصم عائلتها باشتغال أختها كمسامعية، بينما أخذت فاطمة طبق المثوم مزهوة فرحة… كانت فرحة الجارة بهذا الطبق لا توصف، ودعت لجارتها الطيبة، أن يكتبها الله مع المؤمنات الصالحات… تقول الرواية إن فاطمة توفيت ليلتها، وعثرت عليها أختها مسجاة في الحرير، وكانت غرفتها تفوح مسكا… ولم تغادر دويرتها إلا إلى مثواها الأخير. خليلة فضة… قصة سندريلا الجزائر هذه المحاجية القديمة تشبه قصة سندريلا، للكاتب شارل بيرو، ولكنها أقدم تاريخيا، هي قصة امرأة عاقر كانت تحلب بقرة، فدعت الله أن يرزقها بفتاة أصفى من بياض الحليب، فاستجاب الله لدعائها ورزقها ببنت بهية الطلعة… سمتها “خليلة فضة”… ماتت الأم بعدها وتزوج والدها من امرأة قاسية جدا، كانت تسيء معاملتها، وكانت تغار من فضة بشكل لا يوصف، وكان من عادتها أن تطل من النافذة مخاطبة الشمس: “يا شمس طلي وإلا نطل شكون الزينة أنا وإلا أنتِ”، وترد الشمس عليها: “أنت زينة وأنا زينة بصح خليلة فضة هي الزين والحيلة”… ضاقت زوجة الأب ذرعا بجمال “ربيبتها”، فلجأت إلى حيلة للتخلص منها.. أعطتها كبة كبيرة من الصوف، وطلبت منها أن تساعدها في فرد خيوط الصوف، وألا تتوقف حتى تأمرها.. وبدأت “فضة” بفرد الخيوط والابتعاد عن البيت حتى وجدت نفسها تائهة وسط البراري.. واختبأت قرب كهف رأت فيه نورا غريبا، وإذا بسبعة فرسان يدخلون الكهف، بعد مغادرتها دأبت فضة على تنظيف المكان والطهي ثم الاختباء بعيدا عن الفرسان… لاحظ الفرسان التغيير الذي طرأ على المكان، فكلفوا أصغرهم بمراقبة المكان في غيابهم… في الصباح الباكر، ظهرت فضة والشاب متوار عن الأنظار، فأعجب بها أيما إعجاب، وأخبر إخوته بما رأى: “شفت حورية من الجنة، العين الزرقا والخد ورقة”.. لم يصدقه أحد، فقرر كبيرهم تقصي الأمر بنفسه، وظهرت فضة كالمعتاد، فصاح بها: “إنس وإلا جان” فردت: “إنس وخير الجنس، ونقول لا إله إلا الله”، وقصت له “خليلة الفضة” حكايتها.. فقرر الفرسان تبنيها وعاشت معهم بسلام… زوجة الأب كعادتها سألت الشمس عن جمالها فأجابتها: “إن فضة التي تعيش في الكهف هي الزين والحيلة”، فأرسلت ابنتها للتخلص من عدوتها، فغرزت مشطا مسموما في شعر رأسها… فغاصت فضة في غيبوبة، حزن الفرسان عليها وأركبوها ناقة تدعى “عيني” وراحت تجوب بها البلاد، وصادف أن صرخ ولد صغير: “عيني عيني”، فتوقفت الناقة، وأسقطت حملها، فخرج المشط من رأس فضة، وأفاقت لتجد نفسها في حضرة سلطان البلاد، الذي أعجب بها وتزوجها بعد ذلك. ضحكني سردوك البارح من المحاجيات المتوارثة، هذه المحاجية الطريفة، لرجل تزوج حديثا من امرأة جميلة وخجولة جدا، لا تجرأ على مد يدها إلى الأكل، وكان من “العوايد” القديمة أن يأكل الرجل وحده، بينما تجتمع النسوة في ما بينهن.. ولسوء حظها، كان لها سبع سليفات يتربصن بها، وحين يجلسن للأكل يقلن بصوت واحد: “شبعنا وشبعت قطتنا وبقات غير كنتنا”، فتستحي الكنة وتبيت جائعة.. مع مرور الأيام، شحب وجهها، ونحلت كثيرا، فلاحظ زوجها ذلك، غير أنها لم تخبره عن سبب علتها، فطلب المشورة من “مدبر” المدينة الذي نصحه بأخذ ديك منزوع الريش إلى البيت… وحين دخل الزوج بالديك امتلأ البيت بالضحكات والقهقهات سخرية من شكل هذا الديك الغريب، ماعدا الزوجة التي بقيت صامتة مبهمة… فعاد الرجل إلى الإمام فقال له: الليلة ادع زوجتك إلى الأكل معك… وهذا ما فعله الزوج فعلا، فاندهش من منظر زوجته وهي تلتهم طبق الكسكسي بنهم، وعندما انتهت راحت تضحك ملء شدقيها، وحين سألها زوجها قالت له: “ضحكني سردوك البارح”. قصة لڤيمة ياتاقة، هي الأخرى من القصص القصيرة الطريفة، تروي قصة متسولة فاتنة تزوجت ملكا، غير أنها كانت في كل ليلة ترتدي أسمالها القديمة، وتضع طبقا تحت نوافذ القصر وتتسول قائلة: “لڤيمة يا التاقة”، وعندما سألها السلطان صارحته بأنها تحن إلى حياة التسول بين الحين والآخر، رغم كونها زوجة سلطان.