مرت ستة أشهر من عمر الحراك سريعا.. وفي ما عدا عملية محاربة الفساد، واعتقال رموز العصابة غير الدستورية، التي قام بها الجيش، وصناعة بعض الوعي الحقيقي (الممزوج أحيانا بوعي مزيف)، فإن الحراك يراوح مكانه ضمن الشعار العدمي “يتنحاو قاع”. ما أفرزه الحراك بعد كل هذا الوقت، فئتان عظيمتان، تقتسمان الفضاء الطبيعي في الشارع، والفضاء الأزرق، الأولى تطالب برحيل الحكومة ورئيس الدولة، ثم ركبها الجنون والشطط، فزادت عليها قيادة الجيش، وفئة أخرى، انسحبت إلى البيوت، معتقدة أن تمترسها خلف طروحات الجيش، يجعلها في دائرة “البيات الصيفي” تخدم هذا الطرح، تاركة المجال لخصومها ليفعلوا ما شاءوا. الفئتان متضامنتان في شيء واحد، هو انتظار الحل من الجيش، فئة تطالب الجيش بالانسحاب وإعطائها السلطة تحت ذريعة “تسليم السلطة للشعب”، من منطلق هم الشعب وهم ممثلوه وغيرهم حركى (وليسوا حراكيين)، وفئة تطالب الجيش بالبقاء، والقيام بالمواجهة بدلا عنها، عبر تقديم البدائل السياسية وصناعة “دولة أفلاطونية” نوفمبرية، من دون أن يقدموا هم أي تضحيات. الطرف الأول، يتصور واهما أن ديكتاتورية الشارع التي يحاول فرضها، يمكن أن تبني ديمقراطية المؤسسات، ويتصور بخبث لا نهاية له، أنه بمجرد رفع شعار “ديقاج”.. سيهرب من يذكرون اسمه بعدها في أول طائرة للخارج، على طريقة بن علي هرب، في حين وجد الطرف الثاني نفسه ضحية سنوات التدمير الممنهج للدولة العميقة، حين أقصت من المشهد كل الوطنيين المخلصين، فلم يمارسوا سياسة، ولا تعلموا طرق النضال الحزبي والنقابي، ولا خبروا أبجديات التحرك الجماعي وتقديم المبادرات المؤثرة. بالنهاية، صرنا أمام طرفين، واحد متمرس لارتباطه بطرق النضال العتيقة التي وفرتها الأجهزة السابقة، وآخر مبتدئ يحاول أن يتعلم، ولا يجد الوقت الكافي للملمة شتات العقود الماضية. إلا أن الطرفين اقتنعا بهذه اللعبة، فصارت مرضا يأكل من عمر الجزائر، دون أن ينتبه لذلك أحد. المشكلة أن وقتا ثمينا يضيع في المهاترات، والمزايدات والتخوين والتخوين المضاد، بينما الحلول العبقرية غائبة بشكل مؤسف، بل إن الوجوه التي تتحرك هنا وهناك، بين المعارضة والموالاة، تزيد من حجم الإحباط، هل هذه نخبة يعتد بها لطرح البدائل وتقديم الحلول، خارج الدائرة الشعبوية؟ الكل مؤمن بالحوار كمبدأ للخروج من الأزمة، لكن كل طرف يفسر الحوار على طريقته، بل إن هناك من ينصب نفسه وكيلا عن الشعب، ويطالب النظام ب”التفاوض” معه، وتسليم السلطة له، لأنه هو الشعب والشعب هو ! من البداية، بحّ صوت المؤسسة العسكرية في الذهاب سريعا إلى الانتخابات، لكن عملية التعطيل التي حصلت مع موعد 4 جويلية الماضي، كان يفترض أن تقابل بقرارات سريعة، لتشكيل هيئة تنظيم الانتخابات من القضاة وأساتذة الجامعات المشهود لهم بالنظافة والكفاءة، لقد كان ذلك هو الخيار الأمثل لتفادي مزيد من المهاترات. لكن وبما أن لجنة الحوار باتت أمرا واقعا، رغم التشوهات “الخلقية والأخلاقية” التي ظهرت عليها، فالمطلوب الآن عدم تجاوز المهلة التي حددتها هي لنفسها، بعقد ندوة الحوار الوطني نهاية السنة الجارية، تمهيدا لطرح مخرجات الحوار وتشكيل هيئة تنظيم الانتخابات. بحساب بسيط، نحن بصدد تضييع أكثر من سنة كاملة من دون أن نضمن الحلول النهائية، فما الذي يجعلنا نبدع في فن تضييع الوقت هكذا؟ إن يوما واحدا يضيع في ما لا ينفع، وفي تكرار المكرر وعجن المعجن، يقابله ملايين الدولارات من الخسائر الاقتصادية التي لا يمكن لخزانة الدولة أن تواصل تحملها الى الأبد.. خاصة وأن الحركية الاقتصادية مرتبطة بحالة الاستقرار السياسي، كما أن رأس المال جبان، وهو غير قادر على المغامرة في بلد مضطرب. أما المخاطر الأمنية والاستخباراتية التي ترافق ذلك، فهي أعظم بكثير. إنها فرصتنا اليوم بعد هذه الشهور الستة للمراجعة، فما كان ممكنا في ثلاثة أشهر في الوضع الدستوري العادي، أصبح يحتاج الآن لأكثر من سنة كاملة، إذا ما كنا متفائلين في الإسراع بالخروج من الأزمة، أما إذا استكملنا فن تضييع الوقت أكثر، فإن الأمر قد يحتاج الى ثلاث سنوات لا قدر الله، يتم خلالها إعادة “زرع الألغام” التي تم تفكيكها، لتفجر في وجوه الجميع. من يعرف أقصر الطرق، وأكثرها أمانا، يغامر بحياته وحياة من معه، إذا اختار غيرها.