يطرح الأديب الجزائري أمحمد بن ديدة أفكارًا جديدة عن أدب الرعب والإثارة، والأدب البوليسي والغموض والجريمة، كما يتعاطى بعمق مع عوالم البارانورمالوجيا وأزمة الاقتباس والدراماتورجيا والثقافة بالجزائر. وعشية توقيعه لعمليه الروائيين الشائقين “تعويذة في قبر الشيطان” و”مذكرات اللغز المسموم” هذا الاثنين في معرض الجزائر الدولي ال24 للكتاب (الجناح A25، دار النشر للعالمين)، يكشف بن ديدة في هذا الحديث الخاص ب”الشروق أونلاين”، عن حقيقة الميليشيات الثقافية، ويقترح وصفات الإصلاح. تابعوا النص الكامل للحوار: تزدان رفوف المعرض الدولي للكتاب بروايتيك “تعويذة في قبر الشيطان” و”مذكرات اللغز المسموم” في طابع أدب الرعب والإثارة، والأدب البوليسي والغموض والجريمة.. هل لك تقدّم للمحة عن عمليك الجديدين؟ بالنسبة إلى روايتيَّ الجديدتان الموسومتين بالعنوان “تعويذة في قبر الشيطان” و”مذكرات اللغز المسموم”، إنما تُشكلان تجربة نصية خاصة وفريدة في كل الزخم القصصي الذي كتبته، من منطلق ما يحتويه النصّان من خوض مسائل للتجربة الإنسانية الجديدة في مضمار فلسفي يُعالج أبعادا لمعضلة الوجودية وقيمة الإنسان، ففي “تعويذة في قبر الشيطان”، تحملنا سيميائية العنوان إلى مواجهة ما هو عجائبي سحري وغامض، ولعل هذه العوالم عادة ما تطرق جانبا من الأسئلة الحرجة للإنسان في صراعه مع مواقف العوالم الخفية، وهي ذات المسألة الجوهرية التي واجهها الإنسان في وجوده المعتم الأول من عقيدة الطوطم إلى العقد الاجتماعية والنفسية التي يواجهها اليوم. وتعالج الرواية قصة فتاة أفريقية تدعى بلغة البامبارا “دجينيموسو” بمعنى المرأة الجنية ، التي تنشأ في ذهنها تهيؤات بأنها سليلة زواج الجن بالإنس، تأتي إلى الجزائر في رحلة ما، تقيم بتمنراست ثم تمتد سفرياتها بأسباب يتيحها المكان والزمن القصصي إلى منطقة القبائل الكبرى، حيث تقيم مرة أخرى في دشرة تدعى ” ثاوريرث آذرار أبوذفل ” باللغة الأمازيغية ، بمعنى قلعة جبل الثلج. وهنا، وفي توليفة للتقاليد البربرية وطقوسية المكان وسحريته، تظهر خوارق للعادات في تصرفات الفتاة، مما يستدعي فتح تحقيق علمي مبني على الهندسة الوراثية، الذي يُفاجئ هؤلاء العلماء بأن هنالك جينة للمخلوق الغريب في الطاقم الوراثي لهذه الفتاة، وكذا التحقيقات البارانورمالوجية، وتحريات المخابرات، كلها تستدعي الرّجوع إلى تحقيقات الأنتربول، بأن هذه الفتاة كانت تعاني في طفولتها من عقدة نفسية جرّاء اليتم والتشرد والاغتصاب الذي تعرضت له بالبيدوفيليا، فكان يوهمها مغتصبها بأنه جني من عالم آخر، وبأنها من سلالته، وهكذا تتدافع الأحداث في سلسلة من تأزم حبكة النص تحبس الأنفاس في الكثير من مواقف المواجهة لما هو غريب عن المألوف.. أما بالنسبة إلى نص “مذكرات اللغز المسموم” فيحكي قصة عالم من ولاية تاهرت، متخصص في التوكسيكولوجيا، نشأ في ظروف حساسة في العشرية السوداء، ضمن أخوية سرّية كانت تتخفى في دهاليز مظلمة لها تخطيطها لمآربها المستقبلية، وكانت تنفذ اغتيالات إرهابية بشكل أثار تحقيقات المخابرات وبقية الملفات في خزائن “سرّي للغاية” تنفجر خبايا هذا الصندوق الأسود في السنوات اللاحقة. وحصل هذا الباحث على درجة الماجستير من جامعة وهران في الكيمياء الحيوية، ثم نظمت له تلك الأخوية سبيل الدراسة بأمريكا ليحصل في النهاية على درجة الدكتوراه في تخصص علم السموم، لكن هنالك عُقد نفسية وذهنية وفلسفية تنتاب هذا العالم لتأثره بالكثير من الأفكار المشبوهة، فيقع في الترويج لنبوَّة سقراط قتيل السُّم في التاريخ، جرّاء فلسفته الكبرى، فيؤسس هذا العالم التوكسيكولوجي دينا جديدا يدعوه ب ” ديانة الذيفان المقدس “، في تاهرت لما يجده من تاريخ طويل للمذاهب في هذه الأرض، وتبقى ديانته تلك تمارس طقوسها الغريبة الغنوصية، في دهاليز سرّية، حتى تكشف المخابرات الجزائرية ما يجول في الكواليس. وتنفجر القضية جرّاء ما يحدث من اغتيالات متكررة كلها تطيح بالضحايا عن طريق القتل بالسّم فداء لسقراط والتمرد عن الأنظمة القديمة، وتجتاح كامل الأحداث خلال الحبكة الحيّة بالتفاعل للأكشن، تحقيقات جنائية يهيمن عليها عامل التشويق بتشريح الجثث والمواجهات الصعبة للأزمات النفسية والقلق المعرفي في فلسفة العرفان والانتقام بين الذهنيات المختلفة، صراع فلسفي وذهني يجتاحه التمرد.. ولعل أولى خامات رواية “تعويذة في قبر الشيطان” تعود إلى سنة 2015، أما “مذكرات اللغز المسموم ” فهي رواية كتبتها من سنة فقط. تندرج “تعويذة في قبر الشيطان” في صنف أدب الرعب والبارانورمالوجيا، وتتضمن توليفة غرائبية أنثرولوجية فلسفية في جو يمخر فيه صميم الرعد معزوفة الموت، ويتنهد في أعصاب سمائه البرق الرهيب، ماذا عن الجدليات التي سيواجهها القراء في حكاية تثيرها عوالم البارانورمالوجيا أو علم خوارق العادات؟ أجل، هنالك جدليات فلسفية جادة يواجهها المتلقي مع ما ينبجس من تداعيات النص الخفية التي ستعمل عملها حتما في استنطاق كوامن الحياة اللاشعورية المفعمة بأكداس من حمولات الماضي المكبوت في تطعيم المجتمع للذهن الطفولي لدينا في مجتمعاتنا المقدسة دوما لما خفي وغامض، بزرع الخرافات والتهويل للبارانورمال والروحاني المتستر. هنالك سيظهر لدى كل قارئ يقع بين يديه نص ” تعويذة في قبر الشيطان ” مدى ما يمكن لموضوعها أن يتيح له من خوارزمية الجدل المتشعب الأسئلة، لأن أدب الرُّعب عموما والظواهر الخارقة للعادة يفتح في الذهن تساؤلات فلسفية تكمن في تحديد فضاء الجدل الكوني والوجودي للإنسان، كنوع السؤال على نحو، لماذا نعتقد دوما في وجود قوى روحانية لها أثرها على توجيه مصيرنا في غالب المواقف التي نتعايش معا؟.. أو كيف نفسر ما لم يضع العلم يده لحد اليوم على تشريح خباياه مما هو غير مبرر في المنظومة العقلانية للكثير من الحوادث التي تثير فزعا وجوديا لدى أغلب الناس كظواهر المس الروحاني بين الحقيقة والخرافة؟.. وغير ذلك من العجائبي المدفون في ذهنيات تختلف في تقبله أو رفضه، فلا ننسى أنّ ما تعانيه جميع الشعوب من اضطهاد ذهني غير مفسَّر في العالم، وبالأخص الشعوب العربية منها والمغاربية على وجه أدق. مسألة الرجوع إلى التسليم بما هو خارق للعادة على انه قوة كونية خفية يمكنها مثلا مساعدتنا على تحسين الحظ في مستخدمات التمائم والخلطات السحرية، وما ينجم عنها أحيانا من ظواهر خارقة قد لا نجد لها تفسيرا، أو الخوف من أرواح العوالم الخفية على أنها قادرة على أذيتنا، فلو أننا ننزل إلى الشارع اليوم بتحقيق إحصائي جاد لما يمكن رصده من قوة تأثر بما هو بارانورمالوجي، لوجدنا أن الظاهرة مستفحلة تعمل عملها الرّهيب في عقول أغلب الناس. لذلك، موضوع فكرة تعاطي الإنسان لعوالم الجن والخوارق العجيبة إنما يفتح جدليات ذهنية كبرى لها مواجهاتها العلمية والدينية والأخلاقية الفردية والجمعية، وكل ذلك في نص تعويذة، ملوّن بجماليات فنية وإثارة تحمل القارئ إلى فتح دماغه نحو كثير من التساؤلات، خاصة وأن توليفة هذا النص في الأحداث المروية، تعتمد التحقيقات العلمية بشكل ينفذ إلى صميم المحاولات الجادّة للتفسير التجريبي، مما يُتيح للقارئ مواجهة تلك الجدليات الغامضة باندفاعة وحماس فلسفي وعلمي لا يأفل طوال تعاطي مادة هذا المنجز الروائي حال القراءة الرّاغبة في ذلك. كيف تقاربون التعاطي الراهني مع أزمة الاقتباس ونقل السرد الروائي إلى البنية المسرحية؟ بالنسبة للبنية المسرحية، التي تدعى في المصطلحية العلمية للوصف الخصوصي للنص، ب “الدراماتورج “، وهذا الأخير له ملامحه وأساسياته الأكاديمية لتشييده، والتي تختلف تماما عن الأجناسيات الأخرى في تحديد أوجه النص، وما يتعرض له من نحت تجديدي يسبك سباقه لمكتسبات الرّاهني في أروقة الحداثة وما بعد الحداثة، في كل ما تثيره الأكاديميات من أزمات تعترض هذا الكائن الأدبي والفني على وجه الخصوص والذي هو الدراماتورج، حيث أن مقاربة التعاطي الرّاهني على وجهيه لدى الكاتب المسرحي من جهة والمتلقي للعرض الأخير. من جهة ثانية، من حيث توليفة الاقتباس الرّوائي بإعادة استنساخ وراثي مع التعديل الجيني إن صح هذا التشبيه ، للسرد القصصي المتاح في هيكل رواية ما، إنما يُشكل ذلك أزمة كبرى، أحد جوانبها يثير فزع الخوف من أزمة نصوص مسرحية حقيقية تفتقد لها الساحة بشكل مربك، فكل المخرجين يرددون بأنه لا توجد نصوص ترقى إلى مستوى الكتابة الدرامية الحقيقية في كل ما يُكتب على أنه نص مسرحي، وقولهم ذاك صواب، فأغلب ما يوجد، إنما هي نصوص أدبية ممسوخة هزيلة بليدة مائعة لا يمكن تصنيفها في ملامح الدراماتورجيا القابلة للإخراج. وهذا ما عاينته شخصيا حال امتهاني لجنة القراءة في المسرح المحترف، في مقابل ذلك يُجازف بعض المخرجين إلى امتهان الكتابة الدراماتورجية، ولكن بالرجوع إلى المسند الإقتباسي، فتجدهم يحولون الرّواية إلى دراماتورجيا، ولكن مهلا، هنا معضلة أكبر من أزمة عدم وجود نصوص مسرحية في الساحة، لأنه في النهاية يثير الاقتباس المسرحي للرواية أبُّوة هجينة للمنتج النهائي، تتجمّع في بؤرة خانقة بين صاحب الرّواية وقرّائها الذين هضموا النص قرائياً ومعرفيا بشكل عميق، هذا من جهة، وبين ما يمكن لهذا المخرج من جهة ثانية ، أن يُقدمه في لوحة اقتباسه تلك، فتجد أغلب المخرجين يهرعون إلى تعاطي الروايات التي أصحابها مشاهير. وهنا تأتي مشكلة أخلاقية عميقة، في أنهم يقدمون للمتلقي فقط اللعب على اسم هذا الروائي الشهير أو ذاك، بغية جلب جمهور أوسع، وللمقاربة نستذكر ما حدث مع نص “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي، حين تم إخراجه لمسلسل تلفزيوني، بالرغم من أنّ مؤسسة الإنتاج كبيرة عربيا وشهيرة، ودعمه المالي كبير جدًّا، والمخرج كبير أيضا، إلا أنّ الفشل كان ذريعًا، فماذا لو أنتج هذا النص الرّوائي مثلا في مسرحية؟.. حتما سيفشل، مهما كان المخرج الذي يقدّمه، وهنا نضع في الواجهة مشكلة الكتابة الروائية في أساسها، فأغلب كتابها لا يشيِّدون صروح نصوصهم وفق هندسة الحبكة التي تتأزم في هيكل قابل للمسرحة أو الاقتباس المسرحي، لأنّ الروائيين لدينا في الغالب يشتغلون على اللغة ودغدغة المشاعر، ولقد مسخوا المتلقي على تلك العادة السيئة في تذوق الرواية، والإسهاب في عاطفية راكدة لا تتحرك ضمن الفعل الدرامي، ينقص الكثير من كتاب الرّواية لدينا أكانوا لامعين أو مبتدئين ، القدرة على تعبئة شحنة الفعل الدرامي ضمن كتاباتهم، فأغلب الأحداث القصصية لدينا في نصوص أدبنا المسمى اعتباطا روائي، لا تتحرك.. وهنا المعضلة، لأن المسرح هو واقعة مشهدية، تحتاج إلى سخونة الحركة وتنشيط الفعل الدرامي وليس اللغوي، غير أن هنالك بعض المخرجين القليل تواجدهم في الساحة إلى درجة الندرة، يعرفون مفاتيح تحليل هذه المعادلة، فتجد لديهم القدرة على تحويل الروايات العميقة إلى دراماتورجيا، ولقد سبق لي أن تناولت هذا الموضوع في دراسة مفصلة حول ما أثاره الروائي واسيني الأعرج مؤخرا فيما تعلق بالاقتباسات المسرحية الجزائرية لنصوصه الروائية، وقد نشر ذلك في مقاله له بعنوان “لا سيما ” نساء كازانوفا ” التي اقتبسها للمسرح المخرج محمد مراد ملياني، و”سيدة المقام ” من اقتباس المخرج “شوقي بوزيد”.. ولقد نشرت تلك الدراسة في الصحافة. تحدث عدة ناشطين في القطاع الثقافي بالجزائر عن “فساد معمّم”، ما قولكم بشأن ما يسميه فاعلون “الميلشيات الثقافية المهيكلة والمنظمة” ؟ بعيدا عن المسميات والأوصاف التي أطلقت خلال فترة ظهور تبديد المال العام، وما في لغة الحراك، بل وما بعد الحراك أيضًا، أكانت مصطلحات مُمنهجة وفقًا لخارطة مصممة على أساس تنفيذ مشروع إصلاح، أو أنها تسميات اعتباطية أفرزها الحدث لمخاض قاموس سوسيو سياسي، تلقائيًا لانفجار حالة كبت طويلة لمعاناة الشعب تحت ظل اضطهاد الفساد، على أنها معطى لحالة استثنائية لتشخيص الأوضاع الرّاهنة، وغربلة الوضعيات والأشخاص والمواقف، كمصطلح ” العصابة”، و”ميليشيات” الثقافة المهيكلة والمنظمة، وغيرها من جملة النعوت التي تصف الفساد وفاعليه وأفعاله. إلاّ أنّ الأهمّ هو تدقيق تشخيص الحالة، ولعل ما في قطاع الثقافة يضربه الفساد حدّ النخاع، ولكن ما يجب أن نفهمه جيّدا، هو تحديد أنواع هذا الفساد.. والتي منها الفساد المالي، الذي لا يخفى على أحد من أيام الوزيرة السابقة خليدة تومي، إلى عز الدين ميهوبي، كمشروع إنتاج فيلم الأمير عبد القادر، الذي أهدرت فيه المليارات كالهباء، ولم ير النور، وما فعله ميهوبي في دعم أعماله الشخصية.. منها الروائية، دون أن يبالي بأنه يأخذ ذلك على حساب حقوق فنانين أجدر منه بالظهور ودعم أعمالهم، وكذا ما سخره من مال للوحاته الزيتية على أنه أيضا فنان تشكيلي صنع لنفسه هذا الإسم فترة وزارته، و” أوبيرا حيزية ” التي افتتح بها مهرجان المسرح العربي في وهران (شتاء 2017). أسرار الريادات المزيّفة هذا فقط ما كرّسه لنفسه، فما بالك الذي أهدره هنا وهناك في غير محل لما يُبذل فيه مال الثقافة لدعم مشاريع حقيقية، بينما تم تعطيل الكثير من الأعمال التي كانت جديرة بالظهور، وهذا من فعل الميليشيات التي تسطّر البرامج كما تشاء، ولو أن بعض الأعمال الاحترافية في المسرح خرجت إلى الظهور، لكان ذلك سيشرّف الجزائر أكثر، لكنها بعد مهرجان المسرح المحترف الذي سبق مهرجان المسرح العربي بشهر، استغرقها الغبار حتى الموت. وهنالك الفساد الأخلاقي بمفاهيمه الأيديولوجية، فماذا عن ظهور “المثلية” في الجزائر بشكل مدعّم ثقافيا يُوفر لها الترويج ويفتح لها آفاقا، مثل كثرة المنتجات الروائية التي تتناول حقوق المثليين، وكذلك بدعمها ثقافيا وماليا على مستوى المواقع الإلكترونية الجزائرية، وتبنّي الكثير من الأدباء والفنانين هذه الأيديولوجيا المنافية للطبيعة البشرية والإنسانية، وخصوصية المجتمع الجزائري المحافظ عموما، وكذلك الفساد الخالق لصراع الأجيال، وإيهام الشباب الجديد بريادات ثقافية مزيّفة، مثل ترويج عز الدين ميهوبي الذي هو رأس الميليشيات ، ل”وقاحات ريفكا” ودعمه المبتذل لطفل من الصحراء على أنه روائي كبير أتى من بيئة بسيطة كي يُغطي فضائحه لرفع مقام “ريفكا ” وإعلائه على حساب مقامات كبار الفنانين، كما حدث لدعمه بأن يُنتج فلما مشتركا له مع صالح أوﭭروت، والحمد لله أنه لم يحدث ذلك، وكذا فساد تكريس الرّداءة، وغيرها من ألوان تمييع وجه الثقافة الجزائرية، بإنتاج جوائز وهمية كجائزة ” الجزائر تقرأ ” وأخرى بليدة تستحوذ عليها فئة معينة تفوز بها في كل موسم، وهذا كله مبتذل لغرض تصغير قيمة الفنان والأديب الجزائري الحقيقي وقتله وتغييبه، ولكل ذلك رعاية بأيدي ما يُطلق عليه ميليشيات الثقافة، أو مافيا الثقافة، فهي أشبه حالاً بالخلوات السرّية، التي يتم فيها تسطير بروتوكولات للهيمنة على مال الثقافة أساسا، ثم توجيهه لمشاريع تخدم خلفية ما يريده هؤلاء تحت ظل المشروع المتاح في خارطتهم المستقبلية، وبعضهم له دعم خارجي لتفعيل هذه الكواليس المقصودة بغرض إفساد الفنان الجزائري ومن ثمة إفساد الإنسان عموما. الإصلاح مرهون بسياسة جديدة كيف تتصورون سبل إصلاح الوضع الثقافي في الجزائر؟ بعدما وصل القطاع إلى “أقصى درجات البؤس والانهيار”. إصلاح الوضع الثقافي في الجزائر من إصلاح الوضع السياسي، ولا يمكن لأي عارف بالحقائق الخفية أن يتصور كيفية واضحة لإصلاح الوضع الثقافي ما لم تظهر سياسة جديدة تختلف تمام الاختلاف عما كان في الماضي، وتكون راشدة ولها خبراء يرعون كل كبيرة وصغيرة بالتحكم فيها نحو توجيه سليم يخدم المثقف في كل تطلعاته، فالفنان الجزائري الحقيقي ما يزال هو أفقر كائن على وجه الأرض، كل حقوقه مهضومة، فماذا تنتظر منه أن يحقق كقيمة إصلاحية بفنه؟.. ولعل ما يتغنى به الديوان الوطني لحقوق المؤلف مثلا، ما هو إلا حبر على ورق، فكيف بك تقف مثلا على بطاقة المؤلف التي يُكابد لأجلها الفنان عمرًا طويلاً حتى يحصل عليها، في النهاية تجد مكتوبا عليها ملاحظة: ” هذه البطاقة لا تخوّل صاحبها أية صفة مهنية “.. يعطيها لك وقد ألغى مفعولها تماما، هذه إهانة باسم القانون في حق الفنان؛ وقس على ذلك.. ولعل الإصلاح يبدأ من مراجعة دقائق الأشياء والمشاكل التي تمس بالفنان وأعماله والمشاريع الثقافية العامة والكبرى، ما نزال بعيدون كل البعد فيما يتعلق بحفظ مقصد كرامة الفنان وحقوقه، فكيف بنا نتكلم عن إصلاح عام للثقافة؟.. وبالفهم العام للثقافة على أنها لا تمس شريحة الفنانين وحدهم، بل هي وعاء إنساني شامل؛ هنالك مسألة يجب أن تؤخذ بعين الصميم في جوهر منهجية الإصلاح الثقافي، وهي مراعاة الجيل الجديد للفنانين الشباب، ما هي تطلعاتهم؟.. ما خصائصهم الفنية؟.. يجب تأطير البعد الإنساني الثقافي لرؤيتهم المختلفة تماما، هنا بيت القصيد، إنهم يعيشون أزمة تبعثر ثقافي، كتاباتهم عشوائية، ويجدون من يدعم عشوائيتهم تلك دون أن يُصحح مسارها، بل يعمد إلى تكريس تشوهاتها من غير معالجة، وغناؤهم كله هموم وانتحار وانكسار. وباعتبار أن الثقافة هي العقل الجمعي الذي يسيّر المنظومة الذهنية والفكرية والأخلاقية للمجتمع ومستقبله المحلي والإنساني، فإنه يجب دراسة هذه الوضعية بشكل جدّي مبني على أساس علمي يحلل الظاهرة ويقف لها على حلول. لطالما نادى متابعون بإحياء الثقافة وابتعاث الحياة الإبداعية في الجزائر عبر ترسيخ معالم صناعات ثقافية شاملة ومستدامة، كيف يمكن تجسيد هذا التصور؟ إنّ تجسيد صناعات ثقافية بشكل مستدام، إنما يعتمد أساسا على آليات مدروسة وفق دراسات مخبرية في أنثروبولوجيا الثقافة والواقع الاقتصادي والسياسي، يجب أن تقوم ببحثها مخابر الجامعة المتخصصة، والوصول إلى توصيات يجب العمل بها وتنفيذها بحذافيرها، وذلك ببحث خصائص الإنسان الجزائري وتفاعله مع مشاريع الثقافة. وهذا يعتمد أساسا على مفهوم تسويق ما هو ثقافي، فخلق سوق للفنانين مثلا بمشروع معرض تجاري للوحات تشكيلية والمزايدة على ابتياعها، إنما هو أسلوب يصنع ثقافة اقتناء الفن بالقيمة التي تليق به، مما يفتح باب مشاركات لها معناها، فالفنان التشكيلي مثلا، والذي لا يجد سبيل بيع لوحاته يموت في النهاية، وتهجر أعماله وتضحي مملة، وهذا ما يعاني منه جلّ الفنانين الجزائريين، لأنها ستبقى مشاركة بشكل مجاني في المناسبات المبتذلة فقط، مما يُفقدها قيمتها بالكامل. وكذلك الأمر بالنسبة للصناعة المسرحية والسينمائية، فمثلا ليس ببعيد، كان يُطالب فنانون مسرحيون ذوي خبرة كبيرة في المجال، بأن تتم خصخصة قطاع المسرح بالكامل، ويرون بأنّ الخواص يمكنهم فتح مجال مشاركات مسرحية بقيمتها وجلب الجمهور إليها عن طريق الترويج التجاري، وكذلك صناعة السينما، والحقيقة ملموسة في منتجات القنوات الخاصة مثلا، أضحت تنتج مسلسلات رمضانية أقرب كثيرا إلى الجمهور مما قد تعيق حركته المؤسسات العمومية للإنتاج الثقافي التلفزيوني المبتذل بسبب التوجيه المفروض في سياق أيديولوجي مقنّن. الفن عندنا يشكو “تمييزًا عنصريًا” لو عدنا إلى ذات المثال عن سوق الفنان التشكيلي التي بادر بها عز الدين ميهوبي كمشروع كان له في البداية صداه، إلا أنه فشل في النهاية، لما كان فيه من تمييز عنصري للفنانين بحسب منهج التوصيات والفساد، وليس بحسب ما يمكن الترويج له لقيمة اللوحة بغض النظر عن صاحبها، والتي هي في الأصل ذات بعد يستحق أن يُثمّنها. ولأنّ المسارح الجهوية مثلا، تنتج عملا محترفا واحدا في السنة، تبذل له أموال معتبرة، ولكنه في النهاية لا يدور سوى دورات قليلة في مسارح ما، يُعرض أحيانا في قاعات فارغة من الجمهور، ثم في النهاية يرمى في درج النسيان قبل أن يستوفي من عمره سنة كاملة، ولكن بالنسبة للخواص، فإنّ مشروع إنتاج مسرحية قد يخرج عن سياقه الفني إلى التجاري، ولكن هنا أيضا تظهر مسألة الغرض من هذا الإنتاج التي ينشده رجل الأعمال المتبني للمشروع الثقافي التجاري؛ لأنه قد يدخل في حملة ترويج لمشاريع أخرى، وتفعيل العملية الإشهارية للمؤسسات الإنتاجية، وهكذا.. وحتى بالنسبة للصناعة الثقافية الشاملة والمستدامة، قد تخرج عن سياقها الذي يضمن الجودة، لأن كثرة ممارسي الفن اليوم أضحوا يخرجون وينسلون من كل حدب وصوب، وتكوينهم ضعيف، لكن حظوظهم سريعة الوصول مقارنة بما قد لا يجده فنان كبير قتلته الوحدة في بيته لما يُعانيه من الاستبعاد، وهذا يعيق كثيرا أن تنجح مشاريع شمولية الثقافة للكل، بل النخبوية هنا لها أيضا قيمتها ومعناها دون أن تتحول إلى دكتاتورية الاستحواذ، وكان لي أن عرفت مرّة فنانًا تشكيليًا في الأصل لم يُمارس هذا الفن من منطلق روح فنية، بل عمل برلمانيًا في سنوات الرّيع، واستطاع أن يدعم جمعيته الثقافية بالمال، وصارت الكثير من مؤسسات الدولة تبتاع لوحاته بأثمان باهضة، بالرّغم من أنها ليست سوى خربشات مبتذلة، على حساب الشباب المنخرط لديه في تلك الجمعية الثقافية، هكذا تم توجيه بعض مال الثقافة في غير محله.. ومن هنا لا يمكننا الوثوق في مصطلحات مجرّدة على نحو ” ابتعاث الحياة الإبداعية للفنان الجزائري ” و ” إحياء الثقافة ” .. وغيرها من هذا النوع الغامض للدلالة المصطلحية، إذ يفتقد إلى التكييف الآلي لكيفية بحثه علميا وعمليا. الرّواية الجزائرية تعاني أعقد أزمة اضطرابية ما مقاربتكم لراهن الرواية في الجزائر؟، ماذا عن التحولات الطارئة نمطيًا وموضوعاتيًا، وأسئلة الرواية الجزائرية في سائر المنعطفات من الكلاسيكية إلى أنساق التجريب المختلفة تاريخياً وواقعياً؟ راهن الرّواية الجزائرية يعاني أعقد أزمة اضطرابية عرفها تاريخها منذ أولى الباكورات المتميّزة لها في زمن محمد ديب وكاتب ياسين وبن هدّوﭭة مثلا.. إذ نجد اليوم اختلاط أجيال روائية، ولا أقول صراع أجيال، فمثلا تجد واسيني الأعرج يقع في منافسات على جميع الأصعدة المادية والمعنوية، مع من هم ليسوا من جيله، بل هم كتاب جدد حديثي العهد بولوج هذا العالم، ومنافسات أمين الزاوي لهم وصراعه معهم كذلك؛ وحتى بوجدرة، إذ يبحث أمثال هؤلاء القدماء على تموقع في ظل الرّاهن الذي يبدو أنه لا يشبههم ويسبقهم، فهم يخافون على تماثلهم للاضمحلال، في ظل ما هو هجين لدى هذا الجيل من مصطلحات ما بعد الحداثة كما يشاع لذلك، فجيل الرّواية الجديدة اليوم هو من جيل مصطلحات “الزومبي” مثلا، وعوالم عبادة الشيطان و”التاتواج” بمفهومه الموضة الحالية، وعوالم السفر عبر الأبعاد المتوازية، وقضايا مسخ الهويات.. كل هذا التنوع المضطرب نحو خلق عفن جديد لإنسان غريب ما بعد حداثي، أفعم الرّواية بتلوين اضطرابي غير متحكم فيه، لأنّ السعة العلمية لدى الكاتب الروائي الجزائري الشاب الصغير، لا تمكنه من رصد مخزون علمي “أنسيكلوبيدي” مشحون بالطاقة المعرفية المتحكم فيها، فتجده يُعاني عشوائيات سلوكية اضطرابية مرضية وهوسية، يضرب الدين، وهو لم يدرس الدين أصلا، تنفلت في غياب رقابة الوعي لديه، أو هي فقط مخاض لا شعوري، أهلاسي.. لا يراقب أنظمة الرّواية في هندسة النص الخاضع لعلومه الدقيقة، يكتبون من غير أن تكون لديهم أصول الكتابة الروائية، وحتى في الكتابات الجنسية للمبتذلين، تجد تلك الأزمات الضبابية لتمييع الرّواية، والذين يريدون إقحام جيلهم شبه القديم ضمن أنفاس الجيل الشباني الجديد، والتي أخذت طابع الشذوذ الجنسي المتعمق في انسلاخه عما هو فطري وطبيعي في الإنسان، والمروّج له على أنه الطابو الأبدي الذي يجب كسره، بينما الرّواية ما بعد حداثية في الغرب متحكم فيها ولها عقلها الذي يصبو إلى تحقيق هدف علمي وإنساني، كحال فلسفة “الأفاتار” من منظور حداثي وما بعد حداثي، له دلالة تحقيق قوى الإنسان الخارق الذي يبحث عن إكمال العقل في الكرونولوجيا الوجودية لديه، والذي لا تقف أمامه الحدود.. الكتابة النسوية “تأحلمت” لعل هنالك في راهن الرّواية الجزائرية أيضا معضلة ما يُطلق عليه الكتابة النسوية، إذ أن الكل، أو الأغلبية الساحقة للكتابة النسوية أضحت مسخًا واستنساخًا لأحلام مستغانمي، فكل كاتبة جزائرية جديدة تلج عالم الرواية فإنها تجد نفسها قد تأحلمت ، تكتب فقط عن صراعها النكراني للرجل، وعقدة البوح الكوني لصارعها مع جسدها، ومواضيع الخيانة والهروب من المجتمع الذي تمّ تمرير صورة قاتلة في كيان المرأة على أنها يجب أن تتمرد عليه. والكثير من صناعات هذا النوع المنظم بكواليس لها صُناعها في الرّعاية الخارجية والدّاخلية لتوجيه الأدب المحلي بتطعيمه بالدخيل على ما هو مخصوص بالثقافة الجوهرية الحقيقية، وبذلك فإنك لن تجد “أجاثا كريستي” جزائرية مثلا، لأنّ الكاتبة الجزائرية خاصة الجديدة ، لا تفكر إلاّ في قلبها المنكسر وأرقها الذي لا ينام، وإفرازاتها الهرمونية المشحونة بالسخط ضد المجتمع والرّجل. وهذا كرّس كثيرا لقتل عقل المرأة الذي فيه الكثير من مراسي العلم والمعرفة واستبداله بمشاعر مريضة في الغالب وموهمة.. كما أن تمييع كثرة النشر العشوائي وغير المعالج سرطنت الوضع حد التعفن، من الناحية الموضوعاتية والنمطية، حوَّلَ الرّواية إلى كائن مادي، موجه فقط للبيع، إذ يمكنك وضع رواية في صندوق إسكافي وترقب كيف تفوز دلالة الحذاء في معانيه المجتمعية وفلسفته التي تحفر في بحث الطريق أحسن مما قد تحققه دلالة النص الروائي الجديد، الذي ستملّ من قراءته في أول صفحة له. فقط أستثني من نوع هذا التشبيه بعض النوادر من الكتاب الذين ما يزالون في الظل أو أنه خطط لإبعادهم من الساحة بأساليب ملتوية قهرية، ولعله قد أضحى من هبّ ودبّ يُسمى اليوم نفسه روائيا ولا يصعب عليه إيجاد ناشر، الراهن في الرواية الجزائرية مريض جدّا حدّ العُضال. ضبابية الأفق ما موقفكم من السياسة الثقافية المنتهجة في الجزائر، وكيف تتصورون أفق المسألة الثقافيّة في الجزائر؟ أما عن موقفي من السياسة الثقافية المنتهجة في الجزائر، فهي موجهة بحسب النظام الذي يحكمها، لا توجد استقلالية ثقافية من المفترض أن يديرها المنهج الفني والفكري المتنوع، فمثلا نشر الثقافة الأمازيغية كان في البداية ترعاه سياسة النظام السابق لغاية لديه في كسب جمهور واسع يناصره ويؤازره. ولكن ما بعد الحراك أضحى هنالك تحفظ في أصعدة كثيرة على الثقافة الأمازيغية، بالرّغم من أن هذه الثقافة تشكل جزء هاما من الأنثروبولوجيا للتكوين الإنساني في زخم التنوع الجزائري، ولكن تسييس الثقافة وإخراجها من طابعها الهوياتي يجعلها دوما محل اضطراب واستهجان وتحقيق أغراض الصراع الإثني والقبلي في مختلف خوارزمية التنوع الثقافي. وهذا يشكل ضررًا جسيمًا لخلق الهوّة والتباعد بين أفراد المجتمع الثقافي، وبالتالي فإنّ السياسة الثقافية في الجزائر تعمل دوما بنظام خلق المفاجآت الذي تتحكم فيه الأنظمة الحاكمة من مرحلة إلى أخرى، فكل نظام لمرحلة سياسية يلوّن السياسة الثقافية بحسب ما يخدم مصلحته. والضحية دومًا المتلقي لتلك الثقافة، ولعلنا نتصور أفق المسألة الثقافية على أنه أطروحة فلسفية بحاجة إلى تعرية حقائقها ومناقشتها من دون وضع حدود للخوف من سياسة التسيير الثقافي بدوس العنق المراد تسييرها، وهنا تجدر الإشارة بالذكر إلى أن أفق الثقافة في الجزائر ضبابي ومعتم، أفق متعثر جدّا. أتوقع كشفًا قريبًا للأقنعة الرعناء والمزيّفة هل هناك أزمة نخب في الجزائر، وما صحة انعزالها عن السياق العام؟ لا توجد أزمة نخبة في الجزائر، إذا أشير إلى أنّ مفهوم النخبة هو تميّز الفنان والكاتب والمثقف عموما باحترافية عالية، بمفهوم أنّ التميّز هو الذي من شأنه خلق الجديد المبتكر والمبدع والعبقري، فهنالك من لديهم تلك الميزة، وليس بمفهوم أن النخبوي هو من يجلس في هيئة المثقف على سدّة يرتفع بها عن عموم الناس. غير أنّ أزمة النخبة، كاصطلاح نُحِتَ بهذا الشكل، قد ظهر مع “الحراك الشعبي”، فأخذ المراقبون الذين خلقوا لمثل هذه المهام ، يُنزلون كل مثقف بحسب درجة تموقعه وتموقفه وأدلجة كتاباته وفنونه وأغانيه في ظل الحراك، وكانت وسائل التواصل الإجتماعي هي المحكمة الفصل لتصوير هؤلاء النخبة، كما حدث الأمر بالنسبة لأمين الزاوي، هاجمه مجتمع الفايسبوك بأنه غاب عن الحراك، ولكنه بعد فترة أبدل عباءته وظهر. وزاد ذلك من تشويه صورته أكثر، واختفاء رشيد بوجدرة عن الموضوع تماما، وهو الذي استغله سعيد بوتفليقة يوما بعد منحه وسام الاستحقاق الوطني في ظل كاميرا خفية مصطنعة وضعت بوجدرة في مقام جديد في ظل ما يُعرف بأسلوب ” البحث عن فضيحة لغرض زيادة الشهرة “.. ولكن هنالك نخبة حقيقية كتبت عن الحراك وخرجت إلى الشارع، من منطلق نضال حقيقي يقع في قلوبهم بإيمان راسخ.. نخبة مؤمنة بالتغيير للنظام الفاسد والإطاحة به، فقد كان هؤلاء منذ سنوات مضت يُحافظون على مواقفهم وما بدلوا تبديلا، وهنالك نخبة الانتهازيين، هؤلاء الذين كتبوا عن الحراك من منطلق طمعهم في منصب سياسي أو إداري ما في الثقافة لفترة ما بعد الحراك أو العهدة الجديدة للرئيس القادم، ومنهم من لم يكتب إطلاقا عن الحراك ولا خرج فيه، ولكنه يدّخر قلمه لكشف الحقائق في مرحلة ما بعد الحراك، وهي الأهم في تحديد الحقيقة من الزيف لأغلب ما في النخبوية وتموقفها بشكل دقيق وواضح، فليس كل من خرج في التجمهر من النخبة وكتب في صفحته الفيسبوكية هو مناضل نخبوي حقيقي، بل أتوقع أنها ستكشف الأقنعة الرعناء والمزيفة قريبا لكل من ابتذل أو نافق أو انتهز الظرف لصالح مصالحه المبيّتة. ما المسافة الفاصلة الآن بين الثقافة والشارع الجزائري، هل هي أزمة هوية أم مرجعيات وفي أي سياق تقحمون تراجع المقروئية موضوع المسافة الفاصلة بين الشارع والثقافة في الجزائر يتشكل في هيئة مرض ناجم عن فقر عوامل الدهشة المثيرة لاقتبال ما هو ثقافي يميّزنا، فنحن نخجل من تكويننا الثقافي الأصيل، وأغلب النساء لدينا يعانين من عقدة التمشرق، فتجدها تكلمك باللهجة السورية مثلا، في مقابل أنّ تراثنا الوهراني أو العاصمي أو التلمساني أو الشاوي والأمازيغي والتارﭭي.. لا يثير فينا أي دهشة للحرص عليه، خاصة الأجيال الجديدة، ترى في القطيعة مع الماضي الثقافي ضرورة لتحررها. ومن جهة ثانية هنالك استحواذ للماضي لما في يده من سلطة حكم فيفرض القداسة التي يمارسها الأصيل المبتذل في أغلبه بتعطيل الحاضر، وهنا تنكشف مسألة المسافة بين الشارع الجزائري ومعترك الثقافة على أنها إشكالية أصالة ومعاصرة، والمؤلم في الموضوع أن كلاهما مريض أو مطعّم بالزيف والتدليس في أغلبه، مما قد يزيد من توسيع الهوّة بين الثقافة والشارع في عدم التماسك، فنزولنا إلى نهج بطول مائة متر فقط، في أي مكان من الجزائر، سيفاجئنا بتنوع مضطرب يصوّر لنا هوية مشوّهة في تركيبها اللساني والأزيائي، حتى المستجدي الجزائري يطلب مالاً من اليد الرحيمة باللهجة السورية، هنا نجد أنّ شارعنا الجزائري لا يحمل إلينا أي تميّز ثقافي يمكن أن تقول من خلاله أن هذا الفرد جزائري، أو هذا المقهى ذا أصول ملامح جزائرية، وهذا راسخ منذ عقود طويلة، ولا المرجعيات ثابتة، ففي كل مرجعية دينية مثلا على أن بعض ما في الدين هو تراث إسلامي يختص بالسمة الثقافية، نجده متداخل ومضطرب لا يعطينا تميّزا يخصنا بمرجعية ثقافية ليس فقط في التراث الديني فحسب، بل حتى التراث الشعبي بدأنا نمله ونبتعد عنه، بالرّغم من أن أغلب الأقصوصات الشعبية التي تحفظ هويتنا منشورة في الخارج باللغة الفرنسية والألمانية؛ وهذا عاينته بنفسي.. ولعل الأمثال الشعبية بحكم أنها تحفظ لسان الهوية الثقافية لأسلوب العيش والتعايش مع الأوضاع أخذت تتشوه صياغتها من جيل إلى آخر، المعضلة كبيرة وهي متعلقة بالهوية بين الأصالة والمعاصرة. ما مقاربتكم للواقع الإبداعي في الوطن العربي وسط المساجلات بين ثقافة الورق والالكترون، وماذا عن ارتسامات الخارطة الإبداعية العربية من حيث بنية الفكر والوعي والفاعلية؟ العالم العربي اليوم يصطدم باحتمالات كثيرة في مواجهة رهانات العصر، ولكنه يُحاول بجدّية يدعمها تظافر جهود العقول المتفاعلة بين الأجيال، خاصة في الجانب المعرفي الواعي بالقضايا العربية، في كل ما تقدّمه الهيئات التي تهتم للكتاب والنشر بنوعيه الورقي والإلكتروني، وهي بذلك تثير إستراتيجيات جادّة للتحكم في آليات تضبط نبض التسارع الذي يواكب مصائر الإبداع الأدبي بين المنشور الورقي والإلكتروني، حيث أنه يصنع حركية فاعلة ذات بعد متوازن فيما يوفره التوزيع الإلكتروني لإشهار ما هو ورقي، وللنشر الإلكتروني المباشر. وهذه خدمة متميّزة يقدمها عالم التكنولوجيا اليوم للكتاب، فالكثير من الإبداع الأدبي العربي اليوم يصل المتلقي في أي مكان بتسهيلات إلكترونية تخدم التفاعل بسرعة الدولاب الذي يدور به العالم.. وهو لا يضر بالقيمة التفاعلية للقارئ كما يتوهم من يعانون فوبيا المعلوماتية الحديثة ، ، بل على العكس تماما، فهو يزيد من تعزيز الطاقة الخلاقة للإبداع، ويواكب العالم الورقي بجميع أحاسيسه، ولعل الكثير من صفحات الكتب على الفايسبوك والمواقع الإلكترونية متحكم فيها بشكل جيّد تصنع للقارئ صرحا ثقافيا لا بأس به. ولعل الخارطة الإبداعية العربية اليوم تتضح معالمها بشكل فعّال وجاد، خاصة في الجانب الأكاديمي، إذ أن هنالك دراسات كثيرة تنشر كل عام كنتائج بحث معمق في ملتقيات دولية وأكاديمية تنظمها الجامعات العربية والهيئات العلمية والفكرية في مختلف الأوطان، هنالك اهتمام لا بأس به يبشر بخير، ولعل الوعي العربي من الناحية النظرية موجود ومحيط بكل القضايا التي تشغل الإنسان العربي ويشتغل عليها، ولكن تطبيق ما تنتهي إليه توصيات تلك الدراسات دوما يبقى أسير ضباب التخوّف. وهذه هي المعضلة التي يُعاني منها العالم العربي، أجل، الوعي وفي مقابله خوف سياسي دائم بالدرجة الأولى لخوض المواجهة، فكل ما يكتبه المفكرون العرب والعلماء، هو عميق وجاد وعارف بكل المسائل، ولكن الخيانة السياسية في جوانب كثير من الكواليس المعتمة أضحت تفرض على الكتاب الذي يحمل الحقيقة قيدا من الإجحاف في حقه، فلا تكرس له الأهمية ولا يُستثمر.. في النهاية، هي معضلة استثمار للوعي والفكر والإبداع في العالم العربي.. فكل ما يُنتج يُكدّس في النهاية ويُنسى، هذه هي معالم الخارطة الإبداعية العربية. ما الكيفية لإيصال ثقافتنا نحن كعرب بتنوعها واختلافها إلى الغرب؟ عملية إيصال ثقافتنا نحن كعرب، المشكلة أولا في تلك “الكاف”، التي تلحقنا نحن الجزائريون والمغاربة، بكلمة “عرب”.. فقبل أن نفكر كيف نوصل ثقافتنا إلى الغرب.. لا بد أولا أن نتجاوز عراقيل إيصال ثقافاتنا إلى بعضنا البعض، وقبل ذلك نسأل أنفسنا من نحن؟.. فالعرب المشارقة يروننا “عرب درجة ثانية ” .. ولا أدري حقا كيف خاطوا هذا الاصطلاح وألبسوه لنا، ومصطلح “نحن أمازيغ عربنا الإسلام” .. ومعضلة أننا أمازيغ تقتضي أنه يجب أن نوصل ثقافتنا إلى العرب، ولعلنا نقول في كلامنا ” نحن كعرب “.. فهل هي كاف تشبيه، أي أننا ربما نشبه العرب.. الحقيقة أننا ما نزال نتخبط في إيصال ثقافاتنا إلى بعضنا البعض، وحين نتخلص من هذه الأنانية الطاحنة بيننا والتشكيك في جواهر هوياتنا، والاتفاق على هوية حقيقية لنا، فلتكن عربية، إذا تأكدنا من أننا حقا عرب لنا ملامح العرب في كل إبداعاتنا، وليس نحن المغاربة فحسب، بل حتى العرب المشارقة، هل لديهم ملامح العرب في مسرحهم وأدبهم وموسيقاهم اليوم؟.. كل شيء أضحى هجينا لدينا، ولا أعتقد أننا نستطيع ان نوصل شيئا من ثقافتنا إلى الغرب، فهل نستطيع ان نروج للقفطان التلمساني في أمريكا وتلبسه فتاة أمريكية وتقتنع به كما تلبس فتاتنا اليوم سروال الأمريكية الممزق في وسط الفخذ ؟. إن فكرة إيصال ثقافتنا إلى الغرب تبدأ أولا من إيصالها إلى بعضنا البعض وأن نقتنع نحن أولا بثقافتنا.. بعد ذلك سنفكر في التعامل مع الغرب، ولعلّ سرعة الدولاب التي يتحرك بها العالم لا تسعفنا أنفاسًا حتى نحدّد من نحن في ظل رهانات العصر.