1 القاعدة والمنطق والإستثناء. في نهاية القرن ال19 وبالتحديد سنة 1880م لخّص الأديب الأمريكيّ مارك تواين تجربته مع اللغة الألمانية بأسلوب فكاهيّ في كتيّب بعنوان ” اللغة الألمانية الفظيعة ” والحقّ أني تلقّيت الكتاب بلهفة ولوعة في السنوات الأولى من تعلّمي للألمانية حتّى أنّي استعرت منه عنوان مقالي. لأنّي وجدته يشرح بالتفصيل ويسرد الوقائع والمجهود الشخصي الذي بذله لتعلم اللّغة الألمانية في 9 أسابيع وخيبة الأمل والفشل الذين مني بهما. ليكتب خلاصة ما وصل إليه في عبارته المشهورة: ” بسبب دراساتي اللغوية صرت مقتنعا أنّ الإنسان الموهوب يمكن أن يتعلم الإنجليزية في ثلاثين ساعة،والفرنسية في ثلاثين يوما، أما الألمانية فإنه لن يتعلّمها في أقلّ من ثلاثين سنة “. إن أسطورة صعوبة اللغة الألمانية قديمة قدم اللغة الألمانية نفسها وبخاصة قواعدها فهي أكثر تعقيدا وصعوبة حتى إنه ليصعب على المرءالتحكم فيها.فإلى ما ترجع في الواقع هذه الصعوبة. إنّ أوّل صعوبة يواجهها الطالب الأجنبي وهو يحاول فهم قواعد اللغة الألمانية هي جنس الإسم فاللغة الألمانية بخلاف لغات العالم الأخرى كالإنجليزية التي لا تجد فيها مكانا لجنس الاسم أو الفرنسية والعربية اللّتين يُميّزفيهما بين المذكّر والمؤنّث،فإنّ بالألمانية جنس ثالث وهو المحايد. بمعنى ما لا يعرف جنسه، وهوما يجعل الطالب في حيرة من أمره. إن المرأة إسم مؤنث والرّجل مذكّر، والابن مذكّرأيضا،لكنّ البنت غير محددة الجنس رغم ما يدورفي أخيلة الرّأس من أنها مؤنثة، وهي قضية منطقية فالبنت تقابل الابن مثلما أن المرأة تقابل الرجل، لكنّ إضافة حروف التّصغير تجعل من البنت إسما محايدا أو ذات قيمة دنيا. ويعلّق مارك تواين على هذا ساخرًا: ” إن البنت في الألمانية لا جنس لها بعكس الجزرة البيضاء فإنها معلومة الجنس بما يعني ذلك التقديرالعالي للجزرة والحطّ من إعتبار البنت” حالة أخرى تحيّر العقل ولا تجد لها تفسيرًا وحتّى اذا سألت أكبر أساتذة اللّغة الألمانيّة فإنّه سيردّ عليك” رجاءً لا تسألني،لا أعرف، إنّها القاعدة ، فأحفظها وأعمل بها “.فالحافلة والسّيارة مركبتان اصطناعيتان وكلاهما تجري بوقود ومحرّك. لكنّ السّيّارة وان كانت في أعين النّاس شيئًا جميلا يتنافسون على اقتنائه فهي في اللّغة اسم محايد ذو قيمة دنيا. بعكس الحافلة التي لا يركبها الإنسان إلاّ اضطررا فإنّها اسم مذكّر ذو قيمة. إنَّ ما يتعب القارئ أوالمستمع أكثر أنَّ معظم كلام الألمان بين حاضنتين، (ربّما هذا ما جعلهم ينصتون اليك جيّدا ولا يقطعون عليك كلامك). وليس المقصود هنا بالحاضنتين ما تداولنا على معرفته عند الكتابة ولكنّ المقصود هنا هو طريقة بناء الجملة باستعمال الفعل المساعد أو بادئة الفعل و أداة الظّرف أو الفعل المركّب من فعلين. إنّه بخلاف اللّغات الأخرى فإنّ الفعل في الألمانيّة اذا كان في الماضي أو كان له بادئة أو أداة ظرف أو كان فعلا مركّبا من فعلين فإنّ عليك حصر كلامك بين مساعد الفعل أو بادئته أو الأداة الظرفية والفعل ذاته أو بين الفعلين، على أن تذر الفعل الثّاني في بداية الجملة والفعل المساعد والفعل الأوّل في آخرها. فيسترسل محدّثك في الكلام أو يكتب فقرة وقد تضطرّ أنت مرّات عديدة أن تقلب صفحة الكتاب حتى تصل الى الفعل أوأداة الظرف لتفهم مراده. والطَّامّة الكبرى فهي مع البادئة وأداة الظّرف الّتين تجيئان في أوّل الفعل وعند الكلام أوالكتابة تنتقلان الى آخر الجملة أو الفقرة وتخيّل أنت عدد الجمل والعبارات التي ستسمعها وعدد الأسطرالتي ستقطعها حتى تصل الى نهاية الكلام فتجد بادئة أوأداة ظرفٍ لم تكونا في خيالك فيتغيّر لك المعنى وتستغفر ربّك عن سوء ظنّ وجدته في نفسك وتعذرمحدّثك. كما أنّي لا أريد أن أحدّثك عن الجمل من أربعة أفعال ثلاثتهم متتالية ومصدرية في آن واحد. لكن عليّ أن أذكّرك أنّك اذا أردت أن تكون مؤدّبا فتخاطب النّاس باحترام فعليك أن تستعمل ضمير الغائب للجمع و الّذي هو ضمير الغائب للمؤنّث فلا تقل له أنت أو أنتم بل قل: هي وهم! وأختم لك بالأدهى وهو تلك الكلمة الطّويلة والمركّبة التي يتجاوزعدد أحرفها الخمسة و الثّلاثين حرفًا والتي تأخذ سطرًا كاملا في ورقة. كيف ستقرأها أو تترجمها إن طُلِب منك ذلك فلربّما تحتاج الى فقرة كاملة لشرحها واذا كنت محظوظًا الى كلمتين أو ثلاثة. لكن أحمد اللّه فمثل هذه الكلمات لم نعد نعثرعليها إلاّ في محطّات القطارأو وكالات البنوك والإدارات الرّسميّة. عاد مارك تواين في 21 نوفمبر من سنة 1897م الى فيينّا بدعوة من نادي الصّحافة النّمساوي ليلقي كلمة بألمانيّة سليمة وجميلة بعنوان ” أهوال اللّغة الألمانيّة ” ويقترح كعادته باسلوب فكاهي اعتماد فكرته لإصلاح قواعد اللّغة الألمانيّة وتحسينها و تحبيب الألمانية الى شعوب العالم. وممّا جاء في كلمته:” إنّي أعتذر أمامكم أيّها السّادة فأنا لا أجيد الكلام بالألمانيّة رغم أنّ الكثير من الخبراء هنا طمأنوني أنّ ألمانيّتي حسنة…” ثمّ دعا الحاضرين الى اعتماد قواعد أخرى بسيطة مثل قواعد الانجليزية والفرنسية في بناء الجمل والعبارات. 2 شعوب وقبائل ولغة. لم تبتعد معاناتي مع اللّغة الألمانيّة كثيرا عن معاناة مارك تواين غير أنّ المنطقة التي كُتب لي القرارفيها أضافت معاناة أخرى الى معاناتي السّابقة. فبعد عامين من اقامتي بشتوتغارت لم أعد أشكّ فيها البتّة أنّ نفسي قد تهيأت للفهم وأنّ الأيام قد عملت عملها، وأنّ سحاب الغموض قد إنجلى من أمامها كما تنجلي سحائب الصّيف. وأنّ إشارة من فكري ستطلق لساني ليقول بالألمانية ما يشاء.إلتبس عليّ الأمر يوما و دون سابق انذار وتنكدتّ أمالي وتبيّن لي أنّي ما زلت بعيدا وأن ّ درايتي كانت توهمني أنّها استوعبت كلّ شيئ. وهي لم تستوعب شيئا. في نهاية الأسبوع الأوّل الّذي بدأت فيه العمل وفي السًاعة الأخيرة تُقرِّرأن يجتمع بنا صاحب العمل وأن يخطب فينا. فينذرويشكرويذكّر بنقائص عملنا وكماله كعادته من كلّ شهر. ألقيت اليه سمعي مثل باقي زملائي، لكنني لم أفهم شيئا اللّهم إلاّ كلمات قليلات. ثمّ نظرت حولي في وجوه زملائي فوجدت كلّ منهم يحرّك رأسه ايماءً بالفهم والاستيعاب. اضطربت وأحسست بالصّدمة وبالخجل ودبيب نمل يسرى الى جسدي وضيقًا في نفسي. وإمتلأ قلبي أحزانا وشجونا وأشفقت أن أسأل زميلا عربيّا إن كان فهم شيئَا فيسخرمنّي ويقول لي مضى عليك عامان ولم تستوعب اللغة بعد. فصرفت عنه فكري وإستغرقت في حزني، لكنّي عدت بعد طول تردّد وقلت معذرة يا صديقي هل فهمت شيئا مما قاله؟ فتبسّم وقال هوّن عليك ولا تكترث، لا أحد هنا فهم شيئا مما يقول! سرى الى قلبي انشراحا فقلت دون رويّة: أمرهم غريب ولما لا يستوضحون؟ فردّ غير مكترثٍ: وأيّ غرابة في ذلك، نحن متعوّدون عليه وعلى لكنَتِه. إنّه يتكلّم لهجة المنطقة ولا أحد من الأجانب وحتى من الألمان يفهمها. غير أنّنا لا نريد وجعا لرؤوسنا. فنحن لم نأت إلى هنا لنستمع إلى دروس، نحن جئنا لنعمل ونمضي إلى بيوتنا ونستريح. أنا عن نفسي لا يعنيني هراؤه شيئا. لكنّك قلت لهجة المنطقة؟ أي نعم! أنت هنا في شفابيا، أو بلاد الشفاب وهم يتقنون كلّ شيء إلاّ الحديث بالألمانية. … يا إلهي وأنا الّذي ظننت أنّي بمجرّد تعلّم بعض الكلمات من الألمانيّة ستفتح لي الأبواب لأدخل من أيها شئت وجدتني اليوم في متاهة لغويّة مركّبة. وجدتني أمام لكنة سكّان مدينة يصعب حلّ شفرتها وعامّية في الشّارع وألمانية أجانب كلّ أفعالها مصدرية لا فرق بين ماضٍ ومضارع وبين مصرّف ومبني للمجهول. ثمّ عليّ اليوم أن أضيف الى كلّ هذا لغة أخرى (لهجة)، أي ذاكرة ستحفظ كلّ هذا؟ عندما أعدت التفكير في جواب زميلي في العمل ” إنّك في بلاد الشفاب ” تملّكني فضول معرفة الفرق بينها و بين باقي المقاطعات. فلم أجد أمامي من حلّ إلاَّ أن أذهب الى مكتبة المدينة وأبحث عن أطلس البلدان أو أيّ مرجع يساعدني في جلاء سحائب الغموض. ويا لهول ما وجدت! جاء في كتاب قواعد اللّغة الألمانية (دودن) أنّ كلمة دُوتَش لا تعني كما قد يتبادر الى الذّهن شعبًا أو أمّة أو أرضا وانّما هو مفهوم لغويّ يراد به تمييز اللّغات الجرمانية العامّية عن اللّاتينيّة لغة العلم والدّين وهي العامّية التي تتكلّم به تلك الشّعوب التي تعيش على حدود فرنسا اللّاتينيّة. ولمّا بدأت هذه القبائل الجرمانية (الألَمَان والشفابن والفريزن والبفاريون والسَّكسَن والتورينغن والفرانكن والهيسن) في التوحّد وتشكيل أمّة رضوا بهذا النّعت(الدُّوتَش). الذي عرّفتهم به الكنيسة في روما. والطّريف أنّنا لم ننتبه يوما الى أنّ كلمة دُوتش لاند لا نسمعها ولا نعثر عليها إلاّ في الوثائق المكتوبة بالألمانية ووثائق الشعوب التي تتكلّم الألمانية. وأنّ الفرنسيين والعالم اللاّتيني والعربي يسمّونها ألمانيا والعالم الأنجلوسكسوني يعرّفها بجرمانيا وفي الدّانمارك يقولون لها سكسونيا. والحقيقة أنّ هذه التسميات هي أسماء القبائل الجرمانية التي كانت فيما مضى تعيش على حدود هذه الدّول وأكبر هذه القبائل الأَلَمَان (الغابة السّوداء، البادن، سويسرا، والألزاس.) الّذين تواجدوا في الجنوب الغربي من ألمانيا واندمج بعضهم مع الشفابن الّذين جاؤوا من بحر البلطيق كما نزح البعض الآخرالى مناطق الألب ليشكّل سويسرا الناطقة بالألمانيّة. ويسمّي الدانماركيون ألمانيا سكسونيا نسبة الى قبائل السّكسن الجرمانية التي كانت تعيش في الشّمال قريبا من الدَّانمارك. أمّا انجلترا فعندما استقرت بها قبائل الانجل والسّكسن لم تنس موطنها الأوّل في قلب أوربّا (جرمانيا). لا تثريب عليّ من اليوم، فلا أحد هنا يتكلّم اللّغة الألمانية الفصيحة و حتّى من ظنّ نفسه ألمانيا سيتعثّرعند قواعدها. فهذه اللّغة التي نتعلّمها في المدارس ونقرأ بها الجرائد ونسمع بها الأخبار هي لغة منطقة هانوفر وهي اللّغة التي ترجم بها الرّاهب مارتن لوثر الكتاب المقدّس و رضيت بها باقي الشعوب أداة تواصلٍ فيما بينها. 3 نفخة راهب وهمسة شاعر. حتّى العقود الأولى من القرن ال16ميلادي وفي الوقت الذي ظهر فيه الرّاهب الانجيلي مارتن لوثركان يُتكلّم في ألمانيا ب20 لهجة. وكان على هذا الرّاهب الشّاب أن ينشر أفكاره المعادية لبابا روما . تقول الرّواية أنّه في سنة 1521م أعلنته الكنيسة الكاثوليكية خارجًا عن طاعتها فأحسّ بالخطر واختفى بفارتبورغ وترجم العهد الجديد من الكتاب المقدّس في بضعة أسابيع. كيف تمكّن من ذلك يبقى هذا لُغزًا. كتب الشّاعر الألماني هاينريش هاينه بعد ذلك بقرون: ” من أين امتلك مارتن لوثر كلّ هذه الثّروة اللّغوية التي ترجم بها الكتاب المقدّس، إنّه يبقى بالنسبة لي و الى اليوم أمراعجيبا. ومع ذلك فإنّ هذه اللّغة المكتوبة هي التي وحدت ألمانيا المفتّتة سياسيًّا ودينيّا “. لم يكن هاينريش هاينه وحده من المعجبين بلغة مارتن لوثر بل كان أيضًا غوته وانجلز ونيتشه وحتّى غوت فريد هاردر كتب عنه قائلا:” لقد أيقظ عملاقًا من نومه، وفكّ أغلاله “. تزامنت ترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدّس مع ظهور المطبعة فعمّت جميع الأراضي النّاطقة بالألمانية واطّلع عليها الفتيان والرّجال والفلاّحون والأقنان كما اطّلعت عليها النّساء والجواري. و رغم أنّ اللّغة الألمانية الفصيحة كانت قد انتشرت في القرى والمدن وبين القلاّحين والعمّال إلاّ أنّها بقيت بعيدة عن بلاط الأمراء وقصور الأثرياء أين هيمنت اللّغة الفرنسية على خطاباتهم وفي تعاملهم ولم تتحوّل الى لغة رسميّة إلاَّ مع بدايات القرن التّاسع عشر. فعندما نشر غوته مسرحيّته ” غوتز فون بارليشنغن ” وسمع بها القيصر فريديريك الكبير ولم يكن يعرفه ولا قرأ له سخر منه. فقد كان في ظنّ القيصرأنّ ما عدا الأدب الفرنسي فإنّ باقي الآداب تفاهة ومسخرة وأنّ اللّغة الألمانية أعجز من أن يكتب بها شعرأو مسرحيّة أو رواية. لكنّ غوته قبل التّحدّي وكتب الشّعر والرّواية والمسرحيّة باللّغة الألمانيّة وتبعه في ذلك شيلر وكورنر وهاردر… إلاّ أنّ ما يميز فولفغانغ فون غوته عنهم أنّه أكثرانتاجا وجدّية وشاعرية وأنّه وحده كان يحفظ 90 ألف كلمة ألمانية حتّى نال بجدارة في زمن ألمانيا القيصرية لقب” شاعرالوطن ” و” حكيم ألمانيا ” ونسبت اللّغة الألمانية اليه فصار يُقال ” لغة غوته “.