من الدّعاوى الكاذبة التي لا يفتأ العلمانيون وأشباههم في بلاد المسلمين يشيعونها ويسخّرون لإشاعتها الإعلام ببرامجه المختلفة، دعوى عريضة مفادها أنّ الالتزام بشرائع الإسلام وشعائره يعني بالضّرورة ترك الدّنيا بحلالها وحرامها والانشغال بما يصلح الآخرة ويدخل الجنّة من العبادات والطّاعات، ولا يتردّدون في تصوير المتدينين – خاصّة الملتحين والمحجّبات – على أنّهم أناس منقطعون عن الدّنيا بعيدون عن الواقع لا يفهمون في العلم والتقنية والحضارة شيئا، إذ لا شغل لهم إلا الحديث عن الآخرة والجنّة والنّار، ومناقشة مسائل الطّهارة والصّلاة، كما لا يتردّد هؤلاء العلمانيون في اتّهام المنابر في العالم الإسلاميّ بأنّ خطابها لا يخرج عن التخويف من النّار ومن عذاب القبر والترغيب في الجنّة، وأنّها لا تتحدّث أبدا عن إصلاح الدّنيا! مع كلّ أسف، فهذه الدعوى الكاذبة انطلت على كثير من عامّة المسلمين الذين أصبح الواحد منهم يرى بلسان حاله أنّ الالتزام بشعائر الدين وأحكامه يعني بالضّرورة ترك الدنيا والتفرغ للآخرة وللآخرة فقط، ولذلك فالمرحلة المناسبة للتديّن والالتزام ليست هي مرحلة الشّباب! لأنّ هذه المرحلة هي مرحلةٌ لبناء المستقبل الدنيوي، ومرحلة بحث عن السّعادة في المنصب الرفيع والمال الوفير والمسكن الواسع والمركب المريح، ولذلك فهي ليست المرحلة المناسبة للاهتمام بالآخرة والحديث عن الأعمال الصّالحة ونوافل العبادات والطّاعات، والوقت المناسب لهذه الاهتمامات هو مرحلة الشّيخوخة، حينما يملّ الإنسان من الدّنيا وتملّ منه! افتراءات ودعاوى باطلة هذه الدّعوى التي يشيعها العلمانيون، ربّما تَصدق في حقّ فئة من المتديّنين الذين لم يفهموا الإسلام على حقيقته وبشموله، لكنّها لا تصدق أبدا في حقّ من فهموا حقيقة الدّين وعرفوا حقيقة التديّن وتأمّلوا قول الله تعالى: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون))، وتمثّلوا قوله سبحانه: ((وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك)). الآخرة خير وأبقى، وأفضل سعي هو السعي لإصلاح الدّار الباقية، لكنّ من نعم الله جلّ وعلا على عباده أنّه جعل السّعي لإصلاح الدّنيا لا يتعارض أبدا مع السّعي لإصلاح الآخرة، متى ما كانت النية ابتغاء ما عند الله، بل إنّ الأجور التي تترتّب على إصلاح دنيا النّاس أعظم في كثير من الأحوال والأحيان من أجور العبادات، وأفضل النّاس عند الله هو من يصلح دنيا النّاس وهو يرجو بذلك ما عند الله، لا يرجو جزاءً ولا شكورا.. يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: “أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاس”، ولا شكّ في أنّ نفع النّاس لا يكون في دينهم فحسب إنّما يكون أيضا في دنياهم، بإعانتهم في قضاء حوائجهم وتيسير أمورهم وتسهيل حياتهم، وإذا كان من يقدّم نفعا لعبد من عباد الله ينال أجرا عظيما، كيف بمن يقدّم للبشريّة كلّها ما تنتفع به وتسهل به حياتها. الإسلام دين العلم لقد أشاع العلمانيون أنّ المسلم الملتزم بتعاليم دينه هو ذلك المسلم الذي لا يفقه شيئا في أمور الدنيا والحياة، ولا يقدّم شيئا للبشرية في دنياها، بل ربّما يصوّرونه إنسانا يكره العلوم والاختراعات، ويفرّ إلى الحياة البسيطة، وهذه فكرة خاطئة صدّقها بعض الملتزمين بسلوكهم، حينما ينظرون إلى المسلم المنشغل بالعلم الماديّ بأنّه يضيّع وقته ويعمل لدنيا زائلة، مع أنّه ربّما يقدّم للأمّة وللبشرية خيرا كثيرا، وربّما يكون بتفوقه ونبوغه سببا في إسلام كثير من الغربيين الذين انطبعت في أوساطهم فكرة خاطئة عن الإسلام أنّه دين التصوّف والبعد عن الدّنيا. لقد أصيب بعض شبابنا في هذا الزّمان بالهزيمة النفسية وهم يقارنون حال الأمّة الإسلاميّة بواقع الغرب، ويرون البون الشّاسع بين العالم الإسلاميّ والعالم الغربيّ في مجال العلوم والاختراعات والاكتشافات، وقد أشرب بعض هؤلاء الشّباب الوساوس العلمانية التي قالت لهم إنّ سبب هذه الهوة السّحيقة هو اهتمام المسلمين بدينهم، وإهمالهم لدنياهم، مع أنّ الواقع يشهد بأنّ المسلمين في هذا الزّمان لا هم أقاموا دينهم ولا هم أقاموا دنياهم، وأنّ التخلّف الذي تعيشه أمّة الإسلام في العقود المتأخّرة ليس سببه التمسّك بالدّين، إنّما سببه الزّمر العلمانية التي تسلّطت على بلاد المسلمين وحوّلتها إلى أسواق مفتوحة لما ينتج في الغرب وحاربت العلماء والمبدعين واضطرتهم للهجرة إلى بلاد الغرب. هذه الزّمر العلمانية التي رأت التقدّم والتطوّر في نقل ما عند بعض الغربيين من تفسّخ وانحلال ولم تره في المعامل والمصانع ومراكز البحث، ورأت الحضارة في حرية العري وحرية كسر الطابوهات ومهاجمة المقدّسات، وليس في حرية البداع وحرية انتقاد السياسات العرجاء والخيارات الخرقاء! علماء مسلمون أدهشوا الغرب وحتى يعلم شبابنا يقينا أنّ الإسلام ليس هو السّبب في تخلّف العالم الإسلاميّ، وأنّ المسلمين المتديّنين تديّنا حقيقيا لا يتغنّون فقط بأمجاد علماء المسلمين الأوائل الذين برعوا في شتى مجالات العلوم المختلفة، مثل ابن الهيثم والبيروني وجابر بن حيان والخوارزمي والدينوري والكندي والاصطرخي وابن النفيس وغيرهم، إنّما يفخرون كذلك بعباقرة مسلمين معاصرين برعوا في مجالات علمية مختلفة، بل إنّ بعضهم تفوّقوا على أقرانهم من علماء الغرب، حينما وجدوا الحاضنة التي تحضنهم في الجامعات ومراكز البحث الغربية.. من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: العالم المسلم الجزائري “كمال يوسف تومي”، أحد أشهر علماء ومهندسي الروبوتيك، ومخترع أسرع روبوت في العالم.. عالم الفيزياء الجزائري “نور الدين مليكشي”، أحد أشهر الباحثين في وكالة “ناسا” الأمريكية، قام بتطوير أجهزة التقاط الصور حول المريخ عن بعد، ويملك 14 براعة اختراع أغلبها حول الألياف البصرية المتطوّرة والصغيرة وسهلة الاستعمال.. العالم المسلم الجزائري “بلقاسم حبة” الباحث في مجال الكمبيوتر وتكنولوجيا الحاسوب والأنترنت في الولاياتالمتحدةالأمريكية.. العالم المسلم الجزائري “طه مرغوب” العامل في مركز علم المناعة ومكافحة السرطان “ميموريال سلاون” بأمريكا؛ أكبر مخابر العالم في مجال أبحاث أمراض السرطان.. العالم المسلم الجزائري “إلياس زرهوني”، الباحث ومدير معاهد الصحة الأمريكية التي تضم 28 مركزا، والتي تفوق ميزانيتها موازنة الجزائر في جميع المجالات، وهو منصب لم يصل إليه عالم مسلم عربي من قبل.. العالم المسلم الجزائريّ “نضال قسّوم” الفيزيائي والفلكي الباحث في فيزياء أشعة غاما وخطوط أشعة غاما النووية. ومن مصر، يكفي أن نشير إلى عالم الكيمياء المشهور “أحمد زويل” المتوفّى -رحمه الله- سنة 2016م، وعالم الفيزياء النظرية المصري “محمد النشائي” الذي تمكّن من تصحيح بعض الأخطاء والمفاهيم العلمية في نظرية النسبية العامة لآينشتاين، وهو صاحب “نظرية المقطع الذهبي في فيزياء الكم”، وصاحب أكثر من 100 بحث مسجل في الجمعية الأميركيةللرياضيات،.. من دون أن ننسى العالم المصري “مصطفى السيد”، أحد أفضل علماء الكيمياء في العالم. أمّا من فلسطين فيكفي أن نذكّر بالعالم منير حسن نايفة، البروفيسور الحاصل على 23 براءة اختراع في صنع جزيئات النانو سيليكون. ومن بلاد الحرمين السعودية يكفي أن نذكّر بعالمة الجراحة المشهورة البروفيسور “سامية ميمني”، التي وصلت إلى أبحاث وأبدعت اختراعات قلبت موازين الطب وأفادت العالم بأسره، وقد حصلت جميع اختراعاتها على براءة الاختراع من المجلس الطبي الأمريكي، وبسبب تفوّقها ونبوغها ورفضها المساومات اغتيلت سنة 1997م على يد عصابات الأدوية في أمريكا، رحمها الله رحمة واسعة.. ونذكر أيضا العالمة السعودية “حياة سليمان” أول امرأة عربية تحصل على الدكتوراه في التقنية الحيوية من جامعة كامبردج البريطانية، أبدعت اختراعات علمية مهمة جعلتها تتبوأ مكانة علمية عالمية رفيعة، كان من أهمها اختراع مجَسّ للموجات الصوتية والمغناطيسية، يمكنه تحديد الدواء المطلوب لجسم الإنسان، إضافة إلى أهميته في الصناعات الدوائية وفحوصات الجينات والحمض النووي الخاصة بالأمراض الوراثية، وكذا المشاريع البحثية لحماية البيئة وقياس الغازات السامة. وواقع هاتين العالمتين المسلمتين فيه ردّ ملجم على العلمانيين الحانقين الذين ينظرون إلى كلّ امرأة تلتزم الحجاب الشّرعيّ على أنّها امرأة متخلّفة لا تصلح إلا للمطبخ، مع أنّ هناك عشرات النّماذج المعاصرة لنساء مسلمات لم يمنعهنّ الحجاب من النّبوغ والتفوّق في مجالات علمية مختلفة ومن تقديم أبحاث قيّمة في جامعات عالمية مرموقة. كما لا يتردّد العلمانيون وأشباههم في بلداننا العربية في الحكم على كلّ رجل ملتحٍ ملتزم ببعض شعائر دينه الظّاهرة على أنّه رجل متخلّف لا يفهم شيئا في هذه الحياة، مع أنّ هناك كثيرا من الباحثين في أرقى الجامعات لم تحل اللّحى بينهم وبين النّبوغ، وهم الآن يجدون كلّ الاحترام والتقدير في الأوساط العلمية الغربيّة، ولا ينظر إلى لحاهم ولا إلى مظاهرهم على أنّها علامة على التخلّف. ومن هؤلاء البروفيسور وعبقريّ الرياضيات التونسيّ “نادر المصمودي”، الذي لا يتجاوز من عمره 45 سنة. هذا العبقريّ أظهر نبوغا وتفوقًا في الرياضيات منذ صغره، مكّنه من المشاركة في أولمبياد الرياضيات الدولي، حيث حاز على المرتبة الأولى في مشاركته الثانية عام 1992م، ليكون بذلك أول عربي إفريقي يفوز بالميدالية الذهبية في هذا الأولمبياد العلمي، وفي العام 1996م تخرج من المدرسة العليا للأساتذة في فرنسا في اختصاص الرياضيات، بعد أن أحرز المرتبة الأولى في مسابقة الالتحاق بهذه المؤسسة العلمية.. في العام 1999م، حاز المصمودي على شهادة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة “باريس دوفين” بأطروحة علمية تناولت موضوع “المسائل المقاربة في ميكانيكا الموائع”.. انتقل المصمودي -إثر تميزه العلمي- ليعمل أستاذا في قسم الرياضيات في معهد “كورانثت” للعلوم الرياضية في جامعة نيويوركالأمريكية منذ العام 2008م، وفي العام 2011م حصل على ميدالية أفضل مقال علمي نُشر في “أنالس هنري بوانكاريه”. في العام 2015م بدأ العمل أستاذا في جامعة نيويورك، وشارك في عدة مشاريع بحثية مثل “علم أنساب الرياضيات”، وقد بلغ عدد أبحاثه وأوراقه العلمية نحو 350 ورقة علمية منشورة في مختلف المؤسسات العلمية المتخصصة في مجال الرياضيات.. في العام 2017م، حصل على جائزة “فيرما” جنبًا إلى جنب مع زميل ألماني لتميز بحثه العلمي في مجال “هيدروميكانيكا الموائع”.. كما حصل على كرسي التميز من مؤسسة باريس للعلوم الرياضية خلال الفترة 2016- 2018م، وقد قامت الجمعية الفرنسية للرياضيات “فيرما” في العام 2018م بتكريمه لقاء أبحاثه المتعددة وإبداعه في مجال تحليل المعادلات غير الخطية التفاضلية الجزئية، ومشاركاته في التوصل إلى حل دقيق يعالج مشاكل الاستقرار الهيدروديناميكية. وبعد … هكذا، يظلّ أصحاب الهمم العالية من أبناء هذه الأمّة يقدّمون الصّفعة تلو الأخرى للعلمانيين الذين يتمثّلون شعار “رمتني بدائها وانسلّت”؛ يتسلّطون على بلاد المسلمين فيضيّقون على العلماء والباحثين ويضطرونهم للهجرة، ويفتحون الأبواب على مصاريعها للشّهوات والتفاهات والتّرهات ويحوّلون بلدان المسلمين إلى أسواق مفتوحة لما ينتجه الغرب، ثمّ يشيرون بطرف ظاهر أو خفيّ إلى الدّين أنّه سبب تخلّف الأمّة عن اللحاق بركب الحضارة العلمية. لا تسمعوا يا شبابنا للدّعاوى الكاذبة وتذكّروا أنّ الطّريق التي سلكها علماء المسلمين في محاضن الغرب لا تزال مفتوحة وسالكة.. طريق النّجاح يا إخواني الشّباب تحتاج إلى همم عالية وإلى تحدّ للواقع التعيس الذي تعيشه الأمّة.. هناك أسباب كثيرة للتفوّق والنبوغ تنبع من داخل الإنسان، ويصنعها التحدّي والإصرار والصّبر وتكرار المحاولة.. نادر المصمودي أو سامية ميمني أو حياة سليمان أو كمال يوسف تومي، نشؤوا في واقع صعب مثل واقعكم، لكنّهم تحدّوا وصبروا حتى وصلوا بفضل الله إلى ما وصلوا إليه. ديننا هو الدّين الحقّ الذي يصنع الحياة ويرغّب في قيادتها ويحثّ على العلم ويجعل للعلماء مرتبة سامية في الدّنيا قبل الآخرة، متى ما أخلصوا علمهم لله وكان هدفهم نفع عباد الله، يقول الله تعالى: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير)).