عند صدور القرار الوزاري القاضي بإغلاق المساجد، يوم الثلاثاء الماضي، كنتُ ممّن عارض القرار على اعتبار أنّه جاء مفاجئا لم يُراع بعض الخيارات التمهيدية أو البديلة، ولم ينظر في وقعه على النّفوس، لكن مع توالي الأيام، وزيادة عدد المصابين بالوباء، وتتابع الدول الإسلامية والهيئات العلمية في إصدار قرارات مماثلة، أيقنت أنّه إجراء لا مفرّ منه وشرّ لا بدّ منه، وقد زادت قناعتي بعد مطالعة ما كتبه بعض العلماء والدعاة الراسخين حول الموضوع. ربّما يرى بعض إخواننا الدّعاة وطلبة العلم أنّ النّازلة لم تصل في حِدّتها وشدّتها إلى الحدّ الذي يستدعي الإقدام على مثل هذا الإجراء، لكن بالنّظر إلى أهمّ خاصية في هذا وباء كورونا الجديد (COVID_19)، وهي انتشاره في صمت، بحيث يمكن ألا تظهر على من يصاب به أيّ أعراض لمدّة تصل 14 يوما، يخالط فيها الأقارب والأصحاب، وينقل إليهم العدوى في صمت، حتى أنّ بعض الدّراسات الأخيرة، تؤكّد أنّ إصابة فرد واحد بالوباء، تؤدّي بالضّرورة إلى إصابة 5 آخرين على الأقلّ؛ بالنّظر إلى هذا يتبيّن أنّ أيّ تأخّر في اتّخاذ القرار المناسب، ربّما تكون له عواقب وخيمة، وإذا كانت قطاعات وأجهزة أخرى قد تأخّرت في اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، فهذا لا يبيح أبدا لقطاع حساس مثل قطاع الشّؤون الدينيّة أن يتأخّر في ذلك، خاصّة وأنّ الاحتكاك والتقارب بين المصلّين في المساجد يكون أكثر من أيّ مكان آخر، علاوة على أنّ أفرشة المساجد التي يضع عليها المصلّون أيديهم وأرجلهم ورُكبهم وجباههم وأنوفهم، قد تكون من أخطر الأسباب المؤدية إلى انتشار الوباء. تعليق الجماعة وليس منع الصّلاة الصّلاة في الأصل ليست مرتبطة بالجماعة، فهي تكليف فرديّ، ونازلة كورونا تتعلّق بالاجتماع ولا تتعلّق بالصّلاة، فلا أحد زعم أنّ الصّلاة تؤدّي إلى الإصابة، بل المختصّون والعقلاء متّفقون على أنّ الاجتماع والتقارب من أهمّ أسباب الإصابة بالعدوى، وعلى هذا فليس إغلاق المساجد للضّرورة هو من باب منع بيوت الله أن يذكر فيها اسمه ولا من السّعي في خرابها، قال الشّيخ ابن عثيمين -رحمه الله-في تعليقه على صحيح البخاري: "إغلاق المساجد والكعبة وما أشبه ذلك للحاجة لا بأس به، ولا يقال: إنّ هذا من مَنْع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه؛ لأنّ هذا لمصلحة أو لحاجة أو لضرورة أحيانًا" (شرح صحيح البخاري، للشيخ العثيمين، كتاب الحج، ص308)، هذا في المصلحة والحاجة، كيف لو تعلّق الأمر بأرواح المسلمين، وقد قال النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- وهو يطوف بالكعبة: "ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه" (ابن ماجة)؟ وهكذا القول بأنّ إغلاق المساجد في هذه النّازلة محادّة لله، فهو قول بعيد ينزّل على غير مناطه، يقول الشّيخ محمّد الأخضر الطيباوي الجزائري: "القول بأنّ غلق المسجد محادة الله، مجرد تهويل لا حقيقة له، لأنّ السبب معلوم ظاهر، وهو معتبر سمعا وعقلا، بل ربما العكس هو المذموم شرعا لأنه تعريض للخطر من دون سبب، كمن يعلم –مثلا- أن السلطان يقتل كل من يدخل المسجد وأوجب على الناس الذهاب لحتفهم". لماذا لا تطهّر المساجد وتعقّم بدل إغلاقها؟ كنتُ عند صدور قرار إغلاق المساجد، كغيري من إخواني الغيورين على بيوت الله، أتساءل مستهجنا: بدل التوجّه مباشرة إلى إغلاق المساجد، لماذا لا يتمّ تطهيرها وتعقيمها واتّخاذ تدابير وقائية كالمباعدة بين الصّفوف وبين المصلّين؟ لكنّي أدركت بعدها أنّ هذه البدائل غير واقعية، فعلاوة على أنّه لن يكون في الإمكان تعقيم المساجد وتعقيم أفرشتها قبل كلّ صلاة، فإنّه وبالنّظر إلى واقعنا نحن الجزائريين،لا يمكن أن نتوقّع التزام كافّة المصلّين بالتّدابير الوقائية، وتهاونُ مصلّ واحد قد تكون فاتورته باهظة، ولذلك فالمراهنة على وعي رواد المساجد والتزامهم التدابيرَ الصحية، مراهنة في غير محلّها، في ظلّ استشراء ثقافة اللامبالاة بين عموم الجزائريين، فيتعيّن الأخذ بالاحتياط والحزم. بين المساجد والمقاهي! ربّما يتحجّج متحجّج بأنّ المصلّين في حال إغلاق المساجد سيتجمّعون في المقاهي والشّوارع، فيكون الإجراء من دون قيمة، وهذا تحجّجُ من يبرّر خطأً بوجود خطأ آخر مثله أو أشنع منه، وهو تبرير غير مقبول شرعا ولا عقلا، لأنّنا لسنا أمام مفسدتين يلزم وقوع إحداهما فنضطرّ إلى اختيار أقلّهما، وإنّما نحن أمام مفسدتين نسعى لدفعهما معا، بتوعية النّاس وإفهامهم أنّ إغلاق المساجد إنّما هو لدفع مفسدة التجمّع في هذا الظّرف، وإذا كنّا قد تركنا الاجتماع للصّلاة فمن باب أولى أن نترك الاجتماع في المقاهي والشّوارع، ونسعى لرفع وعي أصحاب المقاهي والمطاعم والمتاجر الكبرى، ليغلقوا أبوابها حفاظا على حياتهم وحياة إخوانهم. حتّى لا تتكرّر تلك الوقائع الأليمة! استدلّ بعض المعترضين على قرار تعليق الصّلاة في المساجد، بأنّه لم يحصل له نظير في تاريخ الأمّة، وهذا الاعتراض ليس صحيحا في عمومه، لأنّه وإن كانت المساجد لم تغلق اختيارا في التّاريخ الإسلاميّ، لكنّه حصل وأن تركت اضطرارا، ونحن لَأَنْ نغلق أبواب المساجد –مؤقّتا- مختارين، دفعا للمفسدة، أهون من أن يأتي علينا يوم نتركها مضطرّين، نسأل الله السلامة والعافية. من الوقائع الأليمة التي ترك فيها المسلمون المساجد مضطرّين، ما حصل في أوائل سنة 827ه، حيث اضطرّ النّاس إلى ترك المساجد بسبب الوباء الذي حلّ بمكّة يومها، يقول الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "وفي أوائل هذه السنة (827ه) وقع بمكة وباء عظيم، بحيث مات في كل يوم أربعون نفسا، وحصر من ماتوا في ربيع الأول فكانوا ألفا وسبعمائة، ويقال إنّ إمام المقام (الحرم المكّي) لم يصلّ معه في تلك الأيام إلا اثنان، وبقية الأئمة بطلوا لعدم من يصلي معهم" (إنباء الغمر بأبناء العمر، لابن حجر، 3/ 326). وحصل ما هو أسوأ من هذا في سنة 1215ه/ 1800م، حينما حلّ طاعون قاتل بمصر والشّام، مات خلاله في يوم واحد 600 شخص في أسيوط وحدها، ولهول الفاجعة، انشغل النّاس بالجنائز عن المساجد وعن رفع الأذان، يقول المؤرّخ عبد الرّحمن الجبرتي رحمه الله وهو يتحدّث عن هذه الواقعة الأليمة: "ومنها(أي من أحداث سنة 1215ه) وقوع الطاعون بمصر والشام، وكان معظم عمله ببلاد الصعيد. أخبرني صاحبنا العلامة الشيخ حسن المعروف بالعطار المصري نزيل أسيوط مكاتبة ونصه: ونعرّفكم ياسيدي أنه قد وقع في قطر الصعيد طاعون لم يعهد ولم يسمع بمثله، وخصوصًا ما وقع منه بأسيوط، وقد انتشر هذا البلاء في جميع البلاد شرقًا وغربًا وشاهدنا منه العجائب في أطواره وأحواله، وذلك أنه أباد معظم أهل البلاد وكان أكثره في الرجال، سيما الشبان والعظماء وكل ذي منقبة وفضيلة، وأغلقت الأسواق وعزّت الأكفان، وصار المعظم من الناس بين ميت ومشيع ومريض وعائد، حتى أن الإنسان لا يدري بموت صاحبه أو قريبه إلا بعد أيام، ويتعطل الميت في بيته من أجل تجهيزه، فلا يوجد النعش ولا المغسل ولا من يحمل الميت إلا بعد المشقة الشديدة، وأن أكبر كبير إذا مات لايكاد يمشي معه مازاد على عشرة أنفار تكترى، ومات العلماء والقراء والملتزمون والرؤساء وأرباب الحرف، ولقد مكثت شهرًا من دون حلق رأسي لعدم وجود الحلاق، وكان مبدأ هذا الأمر من شعبان وأخذ في الزيادة في شهر ذي القعدة وذي الحجة، حتى بلغ النهاية القصوى، فكان يموت كل يوم من أسيوط خاصة زيادة على الستمائة، وصار الإنسان إذا خرج من بيته لا يرى إلا جنازة أو مريضًا أو مشتغلاً بتجهيز ميت، ولا يسمع إلا نائحة أو باكية، وتعطلت المساجد من الأذان والإمامة لموت أربا بالوظائف واشتغال من بقي منهم بالمشي أمام الجنائز…" (عجائب الآثار للجبرتي، 2/ 242). هذه الوقائع الأليمة، كانت بسبب عِظم الوباء الذي لم يكن النّاس يومها يعرفون كيف يواجهونه، فكانوا لا يملكون إلا الاستسلام، لكنّ العلم في زماننا هذا تقدّم، وعرف النّاس حقيقة الأوبئة، وتوصّلوا إلى معرفة التّدابير الواجب اتّخاذها للحدّ من انتشارها واستشرائها، وهذه التدابير منها ما هو موجود في السنّة النبويّة، لكن لعلّ المسلمين في بعض الأزمنة لغياب الإمكانات لم يحسنوا إعمالها في النّوازل، وهي تدابير ملزمة لمن عرف مناطها، منها: حرمة دخول الأرض التي نزل بها الوباء لمن كان خارجها، وحرمة خروج من كان بداخلها، وكذا حرمة إدخال المريض على الصّحيح والصّحيح على المريض إذا كان ذلك يؤدّي إلى إصابة الصّحيح، بل ورفض مصافحة من به مرض معدٍ، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه كان في وفد ثقيفرجل مجذوم فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- "ارجع فقد بايعناك"، وأوصى بالبعد عن المجذوم فقال: "كلّم المجذوم، وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين". حافظوا على أرواحكم وأرواح أحبابكم قد نختلف حول ما إذا كان فيروس كورونا نازلة نزلت بالبشرية، عوقب بها قوم وابتلي آخرون، أم إنّه مؤامرة حاكها النظام العالمي، لإنقاص عدد البشر، خاصّة المسنّين، وإخافة النّاس ومن ثمّ السّيطرة عليهم، وإلجائهم إلى التّلقيح الذي تكون له مآرب أخرى.. قد نختلف بين هذا وذاك، وقد نتّفق على أنّ هناك تهويلا إعلاميا رافق انتشار الفيروس، لبثّ الذّعر في النّفوس، لكنّ كلّ هذا لا ينبغي أن يجعلنا ننفي حقيقة كون الوباء خطيرا في سرعة انتشاره، وإذا كانت الدّول الغربيّة تسعى إلى التخلّص من كبار السنّ الذين يشكّلون فئة كبيرة ترهق الضّمان الاجتماعيّ والاقتصاد عندهم، فإنّنا نحن المسلمين ينبغي أن نكون حريصين على أرواح آبائنا وأمّهاتنا وأصحاب الأمراض بيننا أكثر من حرصنا على أنفسنا، وإزهاق روح واحدة عندنا أعظم من هدم الكعبة، وإذا كان لا بدّ للجزائريين جميعا أن يلزموا بيوتهم شهرا كاملا لإنقاذ روح شيخ مسنّ أو امرأة عجوز أو مريض، فإنّه يتعيّن عليهم أن يفعلوا ذلك، كيف والأمر متعلّق بحياة العشرات، وربّما المئات أو الآلاف، لا سمح الله.. يقول الله تعالى: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)). أنا أهيب بإخواني الجزائريين أن يتّقوا الله بعضهم في بعض، ويحرص كلّ واحد منهم على سلامته وسلامة ذويه وإخوانه وأصدقائه وأحبابه.. ما دام المخرج في العزلة واجتناب الخلطة، فلنتوجّه جميعا إلى حظر التجوّل الإراديّ، وليسَعْ كلّ واحد منّا بيته، إلا للضّرورة.. ربّما لن تكون سوى 15 يوما نصبر فيها على ما نكره، ونخرج بعدها لنحمد الله ونفرح على انكشاف الغمّة، خير من أن نواصل استهتارنا، فنفاجأ بعد أسبوعين بما لا طاقة لنا به.