يقدم الباحث في الفسلفة، هشام قاضي، في كتابه الجديد، "كورونا: نحو موت الأيديولوجيا وميلاد الإنسان الجديد،" عن دار خيال للنشر والتوزيع، جملة من المفاهيم والتصورات لواقع العلاقات الإنسانية اليوم، في ظل تأثير الجائحة الصحية كوفيد 19، والمفاهيم المستجدة التي أفرزتها، وجعلت العالم اليوم يعيد النظر في كثير من المسلمات والبديهيات. للوهلة الأولى، يبدو العنوان تجاريا محضا، فما الدافع العميق الذي تبررون به للقارئ الكتابة في هذا الموضوع الآن بالذات؟ الكتابة بالنسبة إلي حق لا يمكن أن يرتبط بزمن معين أو مكان بالذات. في الكتابة فقط أمارس وجودي وكينونتي، وأتماهى مع الواقع بخيال غير محدود. فالكتابة هواية قبل أن تكون تجارة. لهذا، لا أكتب لمجرد الربح، بل أكتب لأقول كلمتي وأمارس حريتي الفكرية عن طريق تأملاتي في قضايا الآن وقضايا مجتمعي الإنساني الكبير، بغض النظر عن الحدود الوهمية التي ترسمها الأيديولوجيات. اما لماذا كتبت في هذا الموضوع الان بالذات لانه موضوع وقضية الساعة. ولأن المشهد الذي نعايشه يوميا، ونحاول أن نتعايش مع مآلاته، يفرض هذا الموضوع، وأنا كباحث دكتوراه، مهتم بمسألة الأيديلوجيا، وعلاقتها بالعلم، كان لا بد أن يكون لدي إسقاط أو محاولة جمع بين اليومي والفكر.. بين ما نتناوله في حدود الكتب النظرية وما نراه في حياتنا اليومية. يجب أن أعترف بأن وباء كورونا كان له تأثير عميق على واقعنا وعلى أمتنا العربية الإسلامية والإنسانية ككل. فكتابي لا يشكل استغلالا للوضعية العالمية التي يعيش فيها العام من موت وعجز ويأس وألم، وإنما يشكل محاولة مني لإعطاء صورة لحقيقة طالما حاولت المجتمعات أن تتستر عليها، أو تخفيها باسم الدين أو التوجهات الأيديولوجية أو حتى السياسية. فجاءت الجائحة وقالت كلمتها فأسكتت الجميع، فأصبحت طقوس الموت بكماء، ودخلت مختلف دور العبادة في حداد وصمت لم تألفه كل الأديان منذ نشأتها.. فهاهي دور العبادة تغلق دون استثناء مساجد وكنائس… إلخ، لتحرم الإنسان حقه في العبادة وممارسة طقوس معتقداته. ويمكن أن يكون سؤال بوجهة أخرى لم أطلقت على هذا الكتاب كورونا نحو موت الأيديولوجيا وميلاد الإنسان الجديد، ستكون الإجابة: لأنني أعتقد أنه- بعد هذا الوباء -ستتلاشى أو تضعف الكثير من الأيديولوجيات. طبعا، يقابل هذا ميلاد أو انتعاش أيديولوجيات أخرى. فكورونا لا دين لها، فعقيدتها الوحيدة هي الإبادة والقتل والحزن والعزلة، فلم تفرق حتى بين الأديان، بل جعلت كل الأديان معزولة عن معتنقيها، ليس روحيا، وإنما على مستوى الممارسات والطقوس اليومية. فكما لا يمكن للإنسان أن يعيش دون وطن، لا يستطيع العيش أيضا دون ممارسة طقوس دينه. هناك عدة مفاهيم ذكرتموها في نصكم، على غرار العدالة السائلة، ماذا تقصدون بها؟ وما هي إسقاطاتها على الواقع الجزائري اليوم؟ إن كورونا زمن المعاني المقلوبة بامتياز. فمن مجتمعات الوفرة إلى مجتمعات الاغتراب. ومن التقارب إلى التباعد. ومن قرصنة الذهب الأسود إلى قرصنة الكمامات. ومن زمن الاتحاد إلى زمن العزلة. ومن زمن العدالة إلى زمن العدالة السائلة. كما يقول جيل دلوز، الفلسفة إبداع مفاهيم. ومفهوم السيولة من إبداع سيجموند باومان الذي ابتكر مفهوم السيولة وجعل منه محور قراءته الفلسفية لمشاكل عصره.. من خلال الحداثة السائلة.. الحب السائل.. الشر السائل… إلخ. أما في زمن كورونا، فنحن نشهد ميلاد العدالة السائلة. وهي تلك العدالة التي نعتقد شكليا بأنها منصفة من خلال القول بأن وباء كورونا استطاع أن يساوي بين جميع البشر. وبذلك، ما لم تحققه عدالة البشر بينهم حققته عدالة كورونا. ولكن هذا مجرد تفسير ظاهري، سطحي، وسائل لطبيعة العدالة التي توصف بها عدالة كورونا. ولكن الواقع نقيض ذلك، لأنه ليس هناك حديث عن أي عدالة في مواجهة الجائحة. فعلا، الكل مهدد مهما كانت وضعيته الاجتماعية، طبيبا، مهندسا، محاميا، فلاحا، نجارا.. بالإصابة بالجائحة، لأنها لا تفرق بينهم. ولكن تأثيرات الجائحة ومآلاتها على الواقع المعيش شيء آخر، يمكن اختصاره في أنه في النهاية دائما الضعفاء والفقراء والمعوزون هم من يدفع ثمن النزاعات والحروب والأوبئة، ولنا صورة عن ذلك في انعكاس الحجر المنزلي، أو كما سميته في كتابي السجون الناعمة، على ذوي الدخل البسيط والعمال غير الإجراء، من مهنيين وحرفيين لم ينجوا منها، حتى المحامون ومكاتب الموثقين والمهندسين. فالحجر المنزلي تأثرت به الطبقة التي تشتغل بسواعدها في ورشاتها ومحلاتها… إلخ أما إسقاط ذلك على الجزائر، فله حدوده وأبعاده، فنحن، الحمد لله، مازالت الدولة تأخذ على عاتقها حماية المواطن على جميع الأصعدة، فكانت هناك قرارات من الرئيس بتقديم مساعدات، كما وعد بإيجاد حلول وصيغ عملية لتعويض أصحاب الحرف والمتاجر وكل المتضررين. فنظامنا الاجتماعي، بغض النظر عما قد يوجه إليه من انتقادات، فهو نظام يجب أن نعترف بأنه يقوم على التكافل والتضامن، ولكم في البليدة مثال عن ذلك، أثناء الحجر الكلي عليها. كما أن السلطة الجزائرية لم تكن غائبة، وخطابات الرئيس كانت حاضرة، للرفع من معنويات المواطنين، والمجتمع المدني كان بارزا وبقوة، من صناعة الكمامات في البيوت، إلى توصيل المساعدات إلى الولايات المتضررة. بغض النظر عن إنسانية واجتماعية مخلفات كورونا اليوم، ما هو في نظركم البعد الجديد للخطاب الفلسفي العالمي؟ للمعنى بعد زمن كورونا فلسفيا روحه الجديدة. فبعدما كنا نعيش في زمن اللا معنى، حيث أصبح للامعنى معنى، نحن سنشهد اليوم وبعد الوباء معاني جديدة للأخوة، الإنسانية، الجوار، العلم، الحياة.. الأيديولوجيا نفسها ستتحول إلى الكورونوديولوجيا، التي ستتثقل بالأفكار، أو البنيات الفكرية التي ابتكرتها الإنسانية أثناء وباء كورونا. وليس فقط عالم الأفكار، بل حتى نمط الحياة الثقافية الجديدة للإنسان الجديد، إنسان ما بعد كورونا.