التفكير حول الدين ضمن الحدود الإنسانية للمعرفة بقلم: أ/ بن علي لونيس أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبي جامعة بجاية ( الجزائر ) يعتقد الباحث الجزائري ( إسماعيل مهنانة ) أنّ الفكر العربي لم يدشّن بعد عصر " التفكير " في معضلاته الفكرية والفلسفية والأخلاقية والجمالية، بل بدا في هذه المرحلة بالذات أنّه قد أجّل " التفكير" إلى أجل غير معلوم، خاصة مع عودة ظاهرة " التدين " بشكل ملفت إلى الحياة الاجتماعية، وصعود التيارات الدينية إلى الواجهة السياسية، وما سينجر عن ذلك من حظر للفكر، وحجر للإبداع، واستلاب للوعي باسم الدعوة إلى التوبة ، والعودة إلى حظيرة الايمان والاعتقاد. لقد انطلق " مهنانة " في كتابه ( العرب ومسألة الاختلاف )من التمييز بين ( التفكير ) و ( الاعتقاد )، حيث جعل منه عتبة أساسية لأجل فهم أصل المعضلات الوجودية والفكرية والسياسية والثقافية التي تواجه الإنسان العربي بل وحتى الغربي؛ فالثقافة الإنسانية اليوم في مشرقها ومغربها أصبحت تميل أكثر من أي وقت سابق نحو العودة إلى الدين، وإحياء الروابط من جديد بين الإنسان ومنظومات العقائد المختلفة، وهو مؤشر يُنبئ بانحصار متزايد لمساحة العقل والتفكير لصالح المشاعر الدينية والعقائدية التي أضحت تلعب دورا خطيرا في إذكاء الصراعات بين الثقافات والقوميات، إذ كثيرا ما يلعب المتصارعون على وتر المشاعر الدينية لتغذية و تبرير المواقف التي تتخذها ثقافة من أخرى أو دولة من أخرى؛ فيكفي أنّ ما حدث في 11 سبتمبر 2001 قد تمّ تأويله بأنّه حرب صليبية من طرف المسيحيين، وأنها جهاد إسلامي من طرف المسلمين، حيث تبدو المشكلة في جوهرها تأويلية، تنصب ضمن معضلات فهم الدين ثم توظيفه كجهاز إيديولوجي. مأزق التفكير في عصر عودة المكبوت الديني في ظل هذا الأفق يجد الباحث نفسه في مواجهة أسئلة أفرزتها الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية، والتي سمحت بصعود الحركات الاسلامية بشكل ملفت للانتباه، والأهم من ذلك بروز " التدين " كموضة اجتماعية سواء في سلوكيات الناس، وفي المظاهر الاجتماعية أو في الإعلام العربي حيث أصبح للفقيه والمفتي والداعية سلطة قوية ومؤثرة على الجماهير المغلوب على أمرها. فالسؤال الأساسي الذي يمثل رهانا حقيقيا للفكر هو: ما المساحة المتاحة للمفكر العربي لكي ينقد الدين، وينتج فهما جديدا ومغايرا للظاهرة؟ إنّ عمل الفكر – يقول مهنانة – يقوم على ربط التفكير بالواقع التاريخي والإنساني الذي تنبثق منه أسئلته ومشكلاته، فلا وجود للتفكير دون ذلك الإحساس بالمعضلات، ودون أن تعايش الذات المفكرة لتلك الأسئلة.(( إنّ ما يسمى تجاوزا؛ بالفكر العربي/ الاسلامي محكوم في لغته وعدته المفهومية بسلسلة لا متناهية من العقائد، والعادات اللاشعورية، والكيانات التراثية التي يُحسب أنّها " مفاهيم " متعالية عن التاريخ ولا يطالها نضوب أو فناء، بينما المفاهيم كلها تاريخية، وهي تعمّر وتموت في الزمن. )) (01 ) يركّز الباحث على ضرورة نقل المفاهيم من سياق متعالي إلى سياق تاريخي لتُفهم في تاريخيتها باعتبارها وليدة لحظة زمنية معينة. إنه يتقصّد التساؤل: هل استطاع الفكر العربي أن يسائل عدته المفاهيمية واللغوية؟ إنّ شرط التفكير إذن هو إعادة تنظيم الحدود الإنسانية للمعرفة، وجعل كل تفكير هو نشاط إنساني يهدف إلى فهم وتأويل الخطابات البشرية حول الظواهر بما فيها الدين، فالفهم هو نشاط إنساني، وإدراك للذات الإنسانية لما حولها من ظواهر ترسّخ فيها الرغبة في فهم أبعادها المختلفة، بوضعها في سياقاتها التاريخية والسوسيولوجية. يتموقع سؤال الفهم ضمن الإشكاليات المحورية التي تواجه الفكر المعاصر، و يعرف مهنانة الفهم بأنه القدرة على تقريب أسئلة التراث إلى الوعي المعاصر. لكن بأي عدّة؟ وبأيّ أدوات؟ وبأيّ لغة؟ فالفكر العربي في مراحل بنائه لمشاريعه النهضوية والحداثية سقط في أتون التقليد والتمذهب والإخلاص للمناهج الوافدة، ووجد نفسه متوهما بأنّ الإقبال على ذلك المنجز العلمي والفكري الوافد يمثل حلا لمشكلات الإنسان العربي والإسلامي، غير أنّ مشكلته تبدو أكثر تعقيدا، فهو كثيرا ما يجد نفسه بين مطرقة المناهج الغربية وسندان التراث التأويلي الاسلامي وبينهما سقط الفكر في النسيان كما يقول مهنانة. (( الفكر هو أن ننجح في مقاومة النزوع نحو اعتقاد ما بالكشف عن أصل كل اعتقاد ممكن أو موجود، وأن ننجح في التفكير خلف كل المذاهب بأن نكشف عن السلطة الكامنة خلف المذاهب والأنساق والعنف المبيت في ثناياها.)) (02 ) وفي رأي مهنانة هو الرهان الذي فشل فيه المفكر العربي، بسبب مواقفه التي مالت في أغلب الوقت إلى سياسة المهادنة والتراجع عن الآراء والتنازل عنها والاعتذار عنها، فأكثر المفكرين تحررا، يقول، تجدهم فقهاء حتى النخاع. (؟ ) نفهم من هذا، أنّ نقد الدين هو جزء من مشروع نقدي يمس كلّ الأنساق المهيمنة بما فيها المناهج والنظريات والايديولوجيات والأنظمة السياسية، وسيكون هذا النقد استجابة لأسئلة الواقع التاريخي، ولابد أن يستند إلى أدوات جديدة ومختلفة يستمدها المفكر من معايشته ومكابدته لهذا الواقع،و التي تجعل مهمة التفكير تحمل أبعادا أنطولوجية بالدرجة الأولى. أشباح ماركس وأونفري من الواضح أنّ الباحث " إسماعيل مهنانة " قد كتب هذا الكتاب من وحي مقولة " كارل ماركس" حول " نقد الدين "، الذي قال (( أنّ نقد الدين هو الشرط الأوّل لكل نقد )) (03 ) لأنّ نقد الدين هو تحرير للفكر وعتبة للدخول في تجربة الأنوار واستفاقة الوعي من استلابه التاريخي بفعل ما تمارسه الايديولوجيات من حصار على الفكر. كما أنّ ممارسة النقد هي استعادة لحيوية العقل الإنساني، ولقدرة الفرد على انتاج معرفة بما يحيط به من ظواهر، وما يلاحقه من أسئلة وهموم، فالأنواري إذا ما عدنا إلى البيان الكانطي هو ذاك الإنسان الذي يُعمل العقل ويفكر بنفسه ويواجه معضلاته الإنسانية بشجاعة وجرأة. ما يحتاج إليه الفكر العربي اليوم، وهو ما يلمّح إليه مهنانة أكثر من مرة، هو هذه الجرأة وهذه الشجاعة في التطرق إلى القضايا المسكوت عنها في الثقافة العربية، طالما أنّ المشكلات المطروحة حتى لو اقترنت بالدين ومظاهره هي إنسانية، تنتمي إلى عالم الإنسان لا إلى التاريخ المقدس بتعبير " فيكو ". هل استطاع الحراك العربي الأخير أن يبعث أملا بأنوار عربية قد تنقل الإنسان العربي إلى مدارج الحرية والعدالة والإنسانية؟ من الصعب أن نلمح شيئا من ذلك، بل ما حدث هو حالة تدمير مبرمج لما شيد من قبل، ونكوص نحو أزمنة غابرة، وكأنّ هذه المجتمعات قد عادت بالزمن قرونا إلى الوراء. نحن لا نرى أنواريين بقدر ما نرى جهاديين مدثرين بالسواد دخلوا من الباب الخلفي للتاريخ ليعيدوا إحياء الخلافة اللاهوتية من الرميم. إذن، فالواقع الجديد لم يجد إجابات لأسئلة سابقة بل ضاعف من أسئلة المثقفين والمفكرين، وصارت تلك الأسئلة أكثر إرباكا من أي وقت سابق، لأنّها أبرزت على نحو تراجيدي أنّ كل تلك المشاريع التي طالما تغنت بها النخبة العربية المثقفة قد انهارت أمام صعود خطابات دينية كان لها التأثير العميق في الجماهير أكثر مما يمكن أن يقوم به أفضل الكتاب والمثقفين عندنا. هذا يبرز أنّ الدين لم يخب يوما في المجتمعات العربية، بل هو ساري فيها مجرى الدم في العروق، وهو ما يطرح تساؤلات حول هذا الحضور المهيمن على المجتمع، وكيف تحوّل الدين إلى خطاب تبريري للعنف، ولقتل الإنسان، ولنفي العقل، ولإنتاج الوهم بمستقبل أخروي؟ ثمة حالة تماهي بين الدين والعنف: عنف مادي، عنف مخيالي، عنف رمزي، عنف سياسي... فما يحدث اليوم من صراعات، تغذيها الخطابات الدينية من خلال فتاوي ومناشير تصدر من رجالات دين معروفة ومغمورة، وكل المعارك التي تدور رحاها في الأرض تحمل شعارات دينية، بدل الشعارات المدنية التي كانت مفتاح الثورات في بدايتها قبل أن تسقط أمام عنف الشعار الديني. يقول ماكس فيبر : (( أنّ المجال الخاص للنشاط الديني يتمثل في تنظيم علاقات القوى " الفوق طبيعية " ))(04 ) التي تطرح منظورا لاعقلانيا للعالم، طالما أن الدين يتحوّل إلى خطاب ذرائعي لتبرير تصوّر معين يخدم مصالح فئة دون أخرى. فلا عجب أنّ طرفي الصراع يرفعون شعار " الله " وكل يريد أن يموت لأجل الله، وهنا نتساءل: هل هناك إله واحد أم أن لكل طائفة إلهها الخاص الذي يمنّ عليها بالبركات ويلحق بأعدائها الهزائم واللعنات. (؟ ) إله رحيم مقابل إله حاقد. يطرح مهنانة للتحليل فكرة " الأصل " في الثقافة العربية والإسلامية، إذ لاحظ أنّ المجتمعات تبدي رغبة قوية للعودة إلى الأصول والتشبث بها، وتقديسها أيما تقديس، بل ووضع حد لكل من يمسّ بتلك الأصول. يتساءل الباحث: هل الأصول كيانات ثابتة أم متحولة؟ وما الذي يجعل الناس تعود إلى تلك الأصول ولاسيما في هذا العصر بالذات؟ ثمة تقاطعات كثيرة بين ما يطرحه مهنانة حول مفهوم الأصل و ما طرحه الفيلسوف الفرنسي " ميشيل أونفري " في كتابه ( نفي اللاهوت )؛ فالأصل/ الدين عند كليهما هو مجموعة من الحكايات التي ابتدعها الإنسان ليفسربها وجوده، ويجد معالم حياته من خلال ما يرويه من حكايات وخرافات وأساطير. فلكل ثقافة حكاياتها الخاصة التي تروي عن أصولها، والدين شكل من أشكال السرديات الكبرى. ولأجل فهم هذه الأصول يجد الباحث – وليس سباقا إلى هذه الفكرة – في منهج التحليل النفسي مدخلا لدراسة قصص الأصل، يقول مهنانة (( يجدر بالباحث/ المحلل النفسي التعاطي مع قصص الأصل بوصفها أدبا، وإنشاء جماليا وشعريا، يتوجب التعامل معه بمرح الناقد الأدبي لا بصرامة المحقق الفيلولوجي. )) (05 ) يقارب الباحث مفهوم الأصل ضمن جدلية ( الحقيقة/ الخيال )، ( الواقع، الوهم )، ( الذاكرة/ النسيان ) فالأصل لا يعدو أن يكون أدبا أنتجته مخيلة الإنسان، وهذا ما يستدعي كاستراتيجية لتحليل الأصل قراءته لا باعتباره يروي عن واقع تاريخي قد حدث، بل باعتباره نصا ابتدعه الإنسان يريد من خلاله أن يثبت سلطة ما. إنّ من تبعات هذا التصوّر هو محاولة إنتاج قراءة عقلانية للنص الديني، واخضاع الأصول لطبيعة شعرية يمكّن الباحث من تحرير المعرفة بهذه الأصول من شراك تلك المجازات والتفكير من خلفها. (( إنّ مسألة الأصول – يقول مهنانة – هي مسألة تحليلنفسية بامتياز، بقدر ما هي إحدى مآزق الغياب التي أصاب الاختلاف الأنطولوجي وفكر الاختلاف عامة. )) ( 06 ) أما أونفري فكان أكثر جذرية في طرحه لفكرة الدين، فهو ينتمي إلى مذهب الإلحاد الجذري الذي يرفض أصلا فكرة الدين ويعتبر الله مجرد فكرة ابتدعها الإنسان على صورته العكسية، لأنه في حاجة دائمة إلى وجود قوة خفية ترعاه، ويلتجئ إليها أيام المآسي والمحن. ولهذا فقد رفض أونفري فكرة " موت الله " لأنّ الفكرة الخيالية لا تموت. يقول في كتابه ( نفي اللاهوت ) (( ذلك أنّ الإله لم يمت، ولا هو يحتضر، بعكس ما يعتقد نيتشه وهين. إنّ الإله لم يمت وهو لا يحتضر لأنه ليس بفان. إنّ الفكرة الخيالية لا تموت، وإنّ الوهم لا يتوفى، والحكاية الخرافية الموجهة للأطفال لا يتم دحضها...)) (04 ) ويضيف أنّ الإنسان اخترع الإله حتى يجعل الحياة ممكنة، وحتى يجد مهربا من الموت..وعلى هذا الأساس، ينتهي إلى النتيجة التالية أنّ وجود الإله مرتبط بوجود الإنسان. لقد دعا هذا الفيلسوف إلى أنوار جديدة تكون أكثر جرأة من تلك التي دشنها فلاسفة القرن الثامن عشر، خاصة في موقفهم من الدين ومظاهره، فهو يعتقد أن كل من كانط وفولتير و ديكارت وروسو ومونتيسكيو لم يتغلغلوا عميقا في نقد الدين، فقد بدا على هذا الأساس كانط صاحب روح كانطية ضئيلة، منتقدا حتى العلمانية التي أنتجها ذلك القرن والتي كانت تحمل روحا دينية. في المقابل فإنّ تاريخ الفلسفة الغربية قد همشت الحديث عن فلسفة الإلحاد أو ما يسميه أونفري ب علم نفي اللاهوت، لاسيما فلسفة فيورباخ (1804- 1872 ) صاحب كتاب ( جوهر المسيحية )1841 و ( ماهية الدين ) 1845. ثمة فروقات جوهرية في الطرحين، فمهنانة لا يتعامل مع النقد باعتباره نفيا للدين وإقصاء لوظيفته في المجتمع، بل يعترف أنّ الدين حاضر على نحو عامر في حياة المجتمعات العربية والإسلامية، بل هو مصدر من مصادر هوية هذه المجتمعات، وتكمن وجهة نظره في أنه من المهم التأمل فيما ينتجه هذا الدين من ظواهر اجتماعية على ضوء الشروط التاريخية والاجتماعية، كما تتجلى في سلوكيات ومواقف ومشاعر الناس، فالنقد موجه أساسا لتلك العواطف الدينية التي تعكس فهما ما للدين، وتوظيفا معينا له. في حين أنّ أونفري كان ناقما على نحو واضح لكل ما هو دين وعقائد، ولم يسلم من نقده ذي الملمح الساخرحتى فلاسفة الأنوار الذين اعتبرهم أنهم لم يقوموا أكثر من الإقلال من شأن التأثير الديني على الناس، ويرى أنّ العالم اليوم لم يتخلص من قواه السحرية والخرافية التي تتحكم فيه، بل وفّر المناخ المناسب لتنشط حركة " الفلسفة المضادة " l'Antiphilosophie كطرف معاد للتفكير الفلسفي المتحرر، التي أخذت تتسلل داخل المقررات الدراسية، إذ أنّ (( تدريس الشأن الديني يعيد إدخال الذئب إلى الحظيرة؛ فما لا يمكن للقسيسين فعله علنا، يكون بإمكانهم فعله في هدوء من خلال تدريس خرافات العهدين القديم والجديد. )) )(08 ) الشعر كأفق للتفلسف ثمة شقّ أساسي في نقاش الباحث مهنانة لمعضلات الفكر المعاصر ويتمثل في دور الفن في تحرير الفكر من أنساقه الدوغماطية، ومقاومة الأنظمة الشمولية. الفن في تصوّره هو ما يذكّر الإنسان أنّ الحياة لا تعاش فقط في بعديها العقلاني والعقائدي بل تعاش كذلك باعتبارها لعبا، وباعتبارها مشهدا مسرحيا غير مكتمل الفصول. الحياة من منظور الفن ليست كاملة، بل تظل باستمرار مفتوحة على ممكنات لانهائية وعلى صيغ غير محدودة للعيش. لقد تساءل الفلاسفة والفنانون منذ التاريخ البعيد عن حاجة الإنسان إلى الفنون والآداب، واتفقت الاجابات في معظمها على أنّ الفن جزء من نظرة الإنسان إلى الوجود، فكما يكون الإنسان في حاجة إلى الهواء ليتنفس وإلى الطعام ليتغذى وإلى الله ليشعر بالأمان الروحي فهو في حاجة إلى الفن لكي يلهو، ويلعب، ويتمتع، ويختبر حواسه وانفعالاته، والإحساس الدائم بالجسد الذي يمثّل مركز الفن. (( يفتح الفن في وظيفته الأساسية مسارات الممكن والمنفرد والمختلف داخل مخيال اللغة، وهو بقدر ما يكسّر نمطية الوظيفة التداولية للغة، وأحادية البعد البرغماتي فينا، بقدر ما " ينقذ " اللغة/ الكينونة من الموت. )) (09 ) الفن يحرر اللغة من رواسب الرؤى الأحادية التي تطبع العالم المعاصر، فهويجعل اللامرئي مرئيا وقابلا للإدراك وللفهم، من خلال فك أسر المعنى من الإشارات الثابتة ومن العلامات النرجسية التي تحبّذ التعالي على الانتباه إلى سيرورات التحوّل في الوجود. حيث يوجد الفن يوجد المنظور النقدي الذي يأبى إلا بتحريك الطبقات السفلى للمعنى الثابت للأشياء، وهي الفكرة التي دافع عنها " ثيودور أدورنو " حيث أعطى للفن (( وظيفة نقدية وثورية يخلقه لعالم جمالي معادل لانغلاقية الواقع ومواجه له. )) (10 ) إنّ المجتمعات التي تعادي الفنون لا يمكن لها أن تشهد ثورة حضارية وثقافية ولا حتى علمية، بقدر ما ستعاني من تصحر القيم الجمالية والأخلاقية داخل النفوس، وسيتحول الإنسان في ظلّها إلى كائن مغترب عن ذاته وعن روحه، أليس الفن جزءا من العالم الروحاني المكمّل لروحانية الأديان؟ ليس غريبا أن ترتبط النهضة في أوروبا بثورة فنية شهدت ميلاد نهضة في الفنون على اختلافها. إنّ كتاب ( العرب ومسألة الاختلاف ) يترك انطباعا بأننا في حاجة إلى ترسيخ قيم التفكير والتأمل في مآزقنا وهواجسنا الأكثر جذرية لأجل تجاوز هذا الأفق المنغلق على نفسه. نجد في مطارحات مهنانة الكثير من الحس الجريء، وجدية في الطرح، وتمكنا من ادوات التفكير العقلاني، ولعل الأهم من كل ذلك هو اللغة التي كتب بها، إنه ينسجم تماما مع الفكرة القائلة بأنّ لغة الشعر قادرة على انقاذ اللغة كما الكينونة من الموت ومن براثن النسيان، إنه يكتب أكثر مما ينتج فكرا فلسفيا، فنشيد الكتابة في هذا النص أقوى من أي صوت آخر، يجعل من الكناية والمجاز مطايا لتجسيد اللامرئي واستنطاق المسكوت عنه، واستكناه اللاوعي في ثقافتنا العربية الإسلامية. يبقى سؤال واحد يطرح نفسه: هل نحن في حاجة إلى تحرير الفكر من العقائد أم في حاجة إلى تحرير الدين من الأفكار المنحرفة ومن الفهم اللاتاريخي واللاعقلاني للدين؟