أحد ملامح الوفرة والتنوّع والريادة في حياة العلامة ابن باديس الإصلاحية والدعوية والتغييرية هو شغَفُه واشتغاله بدأب، في عالم الصحافة العظيم، كما سماه ووصّفه. وأتصوّر أن من الواجب أن تعرفَ الأجيال هذا الجهد ببعض تفاصيله، لعلها تنتفع منه في إدراك والتقاط منهج التغيير، وفقه قيمة "اللسان" و"البلاغ" بكل معانيهما في ميدان التغيير، من منظور ابن باديس، وأنهما أهم الوسائل لتحقيق أهداف الدعوة والتغيير في كل وقت وآن. نحن اليوم في عصر الوسائط المتعددة والانفجار المعرفي، مع تطور وتنوّع في الأساليب والوسائل، فلعلّ "دعاة المستقبل" من شبابنا يستدركون بالتقاط هذا الملمح في حياة ابن باديس ويستفيدون منه بإسقاطه على الواقع الإعلامي المركّب المتشابك فيفيدون كما أفاد. مما يجب التأكيد عليه هنا أن العلامة ابن باديس كان صحفيا موهوبا، سواء تعلق الأمر برؤيته وفهمه لعالم الصحافة وأهدافها وتأثيرها، أم في التأسيس والإنجاز والإشراف والإدارة، أم في الكتابة والتوجيه… فقد حقق كل ذلك على نحو أقرب ما يكون إلى الكمال. كان مؤسسا رائدا للصحافة العربية الإسلامية، وكان صاحب قلم مسموع الصرير، وكان متابعا يقِظا لكل ما يجري ويحدث، وكان قارئا نهما، ومشترِكا في عديد الصحف والمجلات، وكان مصححا مدقّقا منتقدا موجّها أبرع ما يكون. ولنتحدث في هذه العجالة عن الصحف التي أسسها، حتى تعرفها الأجيال بشكل أقرب إلى الدقة والشمول: جريدة المنتقد: صدرت بقسنطينة في 2 جويلية 1925 باسم الشيخ أحمد بوشمال، وهي جريدة سياسية تهذيبية انتقادية شعارها: "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء" تصدرها نخبة من الشبيبة الجزائرية صبيحة الخميس من كل أسبوع، أسسها العلامة ابن باديس، وأسند إدارتها إلى الشيخ بوشمال الذي كان أحد المعاونين الأقوياء الخُلص له (ويستحقُّ تعريفا خاصا)، وكان بوشمال أيضا مشرفا على المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة والتي تأسست في شهر أفريل 1925، ومن المعلوم أنَّ "المنتقد" كانت صحيفة وطنية دينية إصلاحية، دافعت عن الإصلاح الديني وحاربت الخرافات والبدع التي كانت سائدة وقتئذ. صدر منها 18 عددا؛ إذ عطلها المستعمِر، بسبب خطها الإصلاحي الانتقادي. جريدة الشهاب: أسبوعية صدرت بقسنطينة يوم 12 نوفمبر 1925، باسم الشيخ أحمد بوشمال أيضا، ولكن مؤسسها هو الشيخ ابن باديس، وكانت امتدادا لجريدة المنتقد من حيث سياستها التحريرية وحتى شعاراتها. صدرت الشهاب كجريدة أسبوعية حتى سنة 1929 لتتحول إلى مجلة شهرية، وهو طور آخر من أطوار حياتها. مجلة الشهاب: ابتداء من غرة رمضان 1374ه موافق لفيفري 1929 صدرت الشهاب كمجلة شهرية. وبارك الله في حياتها؛ إذ بقيت إلى شهر سبتمبر سنة 1939 وتوقفت بسبب الحرب العالمية الثانية، ولم يُطبع من عدد سبتمبر إلا أربع ورقات، وقد كتب المؤرخون والدارسون أن الشهاب جريدة ومجلة بمثابة "كنز من كنوز الجزائر الثقافية التي لا يستغني عنها دارسٌ أو باحث"، فالشهاب خزانة معلومات ومعطيات وحقائق ومادة علمية عظيمة الشأن عبَّرت عن وجه الجزائر المسلمة العربية التي حافظت على شخصيتها الوطنية في أحلك الأحوال، كما تعدُّ الشهاب أيضا من "الوثائق التي يُرجع إليها في التأريخ للنهضة الجزائرية في العصر الحديث، وقد اهتمّ الدارسون بها: أدبيا وثقافيا ودينيا وفكريا وتاريخيا، وأبرز دورها الدكاترة عبد الله ركيبي، عبد المالك مرتاض، محمد ناصر، وغيرهم". جريدة السنة النبوية: صدرت بإشراف العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس، في 1 مارس 1933 بقسنطينة وشعارها "ولكم في رسول الله أسوة حسنة من رغب عن سُنتي فليس مني" صدر منها 13 عددا، ورأس تحريرها كل من الشيخين الطيب العقبي ومحمد السعيد الزاهري، بينما كان صاحب الامتياز (مسؤول النشر) الشيخ أحمد بوشمال. وعُطلت بأمر من وزارة الداخلية الاستدماري. نهجت نفس النهج الإصلاحي الدعوي. جريدة "الشريعة النبوية المحمدية" صدرت تحت إشراف الإمام ابن باديس، وكانت لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ترأس تحريرها الأستاذان الزاهري والعقبي وصاحب امتيازها أحمد بوشمال. كان شعارها "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها" و"من رغب عن سُنتي فليس مني" تصدر أسبوعيا، كل يوم اثنين، ظهر العدد الأول منها يوم الاثنين 17 جويلية1933، صدر منها سبعة أعداد ثم عُطلت. جريدة "الصراط السويّ ومن اهتدى": وكانت أيضا لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أصدرتها الجمعية تحت إشراف رئيسها الإمام ابن باديس ترأس تحريرها الأستاذان العقبي والزاهري. كان شعارها المكتوب في أعلى الصفحة على اليمين: "قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السويّ ومن اهتدى"، وشعارها أيضا "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها.." وحديث نبوي "من رغب عن سنتي فليس مني". صدر العدد الأول منها يوم الإثنين 11 سبتمبر 1933، وقد عطّلت أيضا بعد صدور 17 عددا منها فقط. جريدة البصائر: صدر العدد الأول منها في العاصمة يوم الجمعة 27 ديسمبر1933 وكان مديرها ورئيس تحريرها الطيب العقبي وصاحب الامتياز الشيخ محمد خير الدين. انتقل صدور البصائر من العاصمة إلى قسنطينة؛ حيث صدرت ابتداء من العدد 84 في قسنطينة وتولّى إدارتها العلّامة مبارك الميلي ومعه الشيخ خير الدين كصاحب امتياز. صدر العدد ال84، وكان الشعار "قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ"، وكانت لسان حال جمعية العلماء المسلمين، تصدر أسبوعيا كل جمعة. والبصائر أيضا من الكنوز المضيئة في تاريخ النهضتين العلمية والدينية في الجزائر يَحسُن بشبابنا من باحثين وباحثات الاهتمام بتفاصيل تاريخها لما له من فوائد علمية ودينية وبحثية وتاريخية وتهذيبية، وقد رأيتُ بنفسي الإكبار الكبير لثُلة من الباحثين والباحثات في ملتقى وطني نظمته كلية الإعلام والاتصال بالتعاون مع شعبة قسنطينة قبل سنتين. رأيت ذلك الإكبار والابتهاج والاهتمام والانبهار من شباب الباحثين والأساتذة رجالا ونساء بالبصائر وتراث الجمعية الصحفي. وهو ما يحتاج إلى اهتمام وبحث وتدقيق والله المستعان.