يعدُّ الإمام عبد الحميد بن باديس مصلحاً فكرياً ومجدداً نهضوياً في التغيير والإصلاح، أسهم في تغيير الوضع في منطقة المغرب الإسلامي، بالوقوف في وجه المخططات الغربية الرامية لاستكمال مشروعها في إلحاق المسلمين بالعالم المسيحي، وقد جعل ابن باديس وسيلة الصحافة المكتوبة من ضمن الوسائل التي اعتمدها في عمله الإصلاحي، فكان صحفياً ممتازاً وأستاذاً للصحفيين بدون منازع، حيث ظهرت في الجزائر خلال تلك الفترة صحافة وطنية عربية ساهمت مساهمة فعالة في بعث النهضة الفكرية والإصلاحية الحديثة، ويظهر الجانب الصحفي في مجالات مختلفة من حياة ابن باديس، فقد انطلق في هذا المسار وحقق نجاحات ملموسة ومؤثرة في الشعب الجزائري. ونذكر من أهم أعماله في هذا المجال: تأسيس جريدة المنتقد: أسس ابن باديس جريدة المنتقد الأسبوعية في 11 ذي الحجة 1343ه تموز 1925م وكان يصدرها صبيحة كل خميس من كل أسبوع، وتولى بنفسه رئاسة تحريرها، وجعل شعارها الحق فوق كل واحد والوطن قبل كل شيء. وجاء في افتتاحية عددها الأول وفي صفحتها الأولى بيان لخطة الجريدة وأهدافها ومنهجها في العمل الإصلاحي الجهادي تحت عنوان: مبدؤنا وغايتنا وشعارنا ما يلي: بسم الله، ثم بسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون… ثم تشرح الجريدة المبادئ التي تقوم على أساسها وينطلق منها عمل مؤسسيها الصحفي والإصلاحي الجهادي والتي حددوها في ثلاث مبادئ هي: المبدأ السياسي، المبدأ التهذيبي، المبدأ الانتقادي. وقد قاومت الجريدة الجريئة أفكار الفرنسة والتغريب، مذكرة الجزائريين المسلمين بأنهم أمة لها قوميتها ولغتها ودينها وتاريخها. وللأسف جاء تعطيل الجريدة بقرار من وزارة الداخلية في باريس، ولم يكن من دوائر الولاية العامة في الجزائر أو عامل عمالة قسنطينة، كما كانت تجري الأمور عادة. تأسيس جريدة الشهاب: بعد تعطيل جريدة «المنتقد»، أصدر ابن باديس «الشهاب» فخلفت الأولى في مبادئها وأفكارها وحملت شعارها، على أن الإمام اصطنع في تحريرها نوعاً من المرونة السياسية، يقول الإمام ابن باديس في العدد الأول الصادر في 25 ربيع الثاني 1344ه الموافق 12 نوفمبر 1925م "سواء علينا أُعجبنا أم لم نعجب… فقد وقف المنتقد، ولكن الفكرة الحرة الحقة السليمة الإصلاحية لم تقف ولن تقف، وقف المنتقد فها هو أخوه «الشهاب»". وبذلك واصلت جريدة الشهاب رسالة جريدة المنتقد، لكنها لاقت في سبيلها العناء والبلاء وصبرت وصابرت، تشتد مرة وتلين أخرى حتى صدمتها في سنتها الرابعة أزمة مالية فتحولت إلى مجلة شهرية. إصدار مجلة الشهاب: كانت مجلة الشهاب الشهرية مجلة راقية، جامعة فكرية أدبية إصلاحية وطنية سياسية، أنشأت بيئة ثقافية واسعة في الجزائر، تؤرخ للحركة الفكرية والاجتماعية الجزائرية في مرحلة من أهم مراحلها التاريخية، وكان منهاج الشهاب يقع تحت شعارين أساسيين مرفوعين في صدر غلاف المجلة، أحدهما عن اليمين، وثانيهما عن الشمال، فالشعار الأول يمثل المبدأ العام للدعوة التي نذر نفسه لخدمتها وهو قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف : 108]. ويمثل الشعار الثاني الطريقة التي يبلغ بها هذا المبدأ العظيم وهو قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]. وكانت بالرغم من حجمها المتواضع غزيرة المادة عديدة الأبواب منها: « مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، وحديث البشير النذير » من تحرير الإمام عبد الحميد، وهي في الغالب افتتاحيات لمجلة الشهاب. «في المجتمع الجزائري». «رسائل ومقالات». «نظرة في السياسة العالمية». «المباحثات والمناظرات». «مجتنيات من الكتب والصحف». «قصة الشهر وأخبار وفوائد»، وغير ذلك من الأبواب التي ثابرت المجلة على مواصلة تغذيتها . جريدة السنة النبوية المحمدية: هي أول جريدة أصدرتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين برئاسة الإمام ابن باديس، وذلك يوم الاثنين 8 ذي الحجة 1351 ه (1933م)، ثم أوقفتها السلطة الاستعمارية، وصدر العدد الأخير منها يوم الاثنين 10 ربيع الأول 1352ه الموافق ل3 تموز 1933م. جريدة الشريعة المحمدية: وهي جريدة أسبوعية أصدرتها جمعية العلماء تحت رئاسة الإمام ابن باديس، وصدر العدد الأول في 24 ربيع الأول 1352 ه الموافق ل 17 تموز 1933م، ولم تعمر طويلاً، فقد بادرت السلطات الاستعمارية إلى توقيفها، وذلك بعد صدور سبعة أعداد منها فقط ، حيث صدر العدد السابع والأخير منها يوم الاثنين 7 جمادى الأولى 1352ه الموافق ل 28 آب 1933م. جريدة الصراط السَّوي : خلفت الشريعة كلسان حال لجمعية العلماء، حيث صدر العدد الأول منها في 21 جمادى الأولى 1352ه الموافق ل 11 سبتمبر 1933م، وتم توقيفها أيضاً، وصدر آخر عدد منها في 22 رمضان 1353ه الموافق ل يناير 1934م، وبلغ عدد الأعداد التي صدرت منها سبعة عشر عدداً. جريدة البصائر: خلفت الصراط السوي، صدر أول أعدادها في 1 شوال 1354ه الموافق ل 27 ديسمبر 1935م، واستمرت في الصدور إلى عام 1956م. لقد أراد الإمام ابن باديس من خلال الصحافة أن يقضي على الجمود الفكري في فهم الإسلام وتخليصه من الضلالات والخرافات الشائعة في العقائد التي بثها بعض أدعياء التصوف في صفوف الشعب المسكين وإن المتتبع لآثاره الصحفية ولأقواله حول الصحافة والصحفيين ؛ يمكن أن يصل إلى اكتشاف تقاليد صحفية مميزة وجوانب فكرية مهمة، تستحق كل منها الدرس والبحث على حدة: النزاهة الصحفية: وهذه النزاهة التي كان يحرص عليها ابن باديس هي الوسيلة الفعالة لخلق وبلورة الرأي في الصحافة، والنزاهة في الكتابة الصحفية والمناقشة. وضوح الفكرة وبساطة التعبير واحترام القارئ: وهذه خصائص لصحافة ناجحة، وقد تدهش عندما ترى عبد الحميد بن باديس يقدم العدد السنوي من مجلة الشهاب ببضعة أسطر موجزة، وليس بمقالة طويلة. الثقة بالأمة والإيمان بإرادة الشعب، والعمل على إسعاده: فهذه الروح كانت تشع في جميع أعمال ابن باديس وهي التي تميز كل كتاباته الصحفية. مراجع البحث: د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت ، ط 1، 2016م، ص (189 : 196). د.عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر 1913 – 1940، دار الشهاب، الجزائر، 1999م، ص 114. جريدة المنتقد، السنة الأولى، العدد (1)، ذي الحجة 1343ه / تموز 1925م، ص1. مجلة الشهاب، المقدمة، السنة الأولى، العدد (1) ، 1347ه / 1929م، ص.ص 11- 13. د. محمد بهي الدين سالم، ابن باديس فارس الإصلاح والتنوير، دار الشروق، ط1، 1999م، ص 55. 1. د. محمد ناصر، الصحف العربية الجزائرية من 1847 – 1954م، دار الغرب الإسلامي، بيروت, 2007م ، ص 58.