لو اكتفت الإمارات بالقول إن دافعها إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني هو مصالحُها الخاصّة، لكانت أكثر صدقا مع نفسها والآخرين، أمّا أن تدّعي بأنها فعلت ذلك من باب "التضحية" من أجل القضيّة الفلسطينية ومنع ضمِّ الأغوار والمستوطنات، فلن يصدّق أحدٌ هذا التبرير الأرعن، حتى نتنياهو نفسه سارع إلى نفي التنازل عن ضمّ "يهودا والسامرة"، قبل أن تكشف صحيفة "يديعوت أحرونوت" الثمن الذي طلبه الإماراتيون ووافق عليه ترامب ونتنياهو وهو الحصول على طائرات "أف 35" وطائرات بلا طيّار فائقة التطوّر، ولم يكن الضمّ سوى مسألةٍ ثانوية. لكن الأدهى من كذبة توقيف الضمّ، هو وصف مسؤولي الإمارات للتطبيع ب"الإنجاز التاريخي"، وقد تماهى معهم دعاة السوء وفقهاء البلاط الذين يقدّمون رضا الحاكم على رضا الله؛ إذ لم يتورّع "الداعية" وسيم يوسف في "تهنئة" الإمارات والصهاينة على ما وصفه، بكلّ صفاقةٍ وتبجّح، ب"الإنجاز العظيم"، بينما وصفته "هيئة الإفتاء الشرعية" الإماراتية ب"المسعى الإيجابي والخطوة السديدة"، ولا ندري كيف تكون خيانةُ فلسطين والقدس والمسجد الأقصى "خطوة سديدة"؟! وكيف يتحوّل الانبطاحُ الذليل والاستسلام المُهين للاحتلال المغتصِب للأراضي إلى "إنجاز تاريخي" يُفخَر به وليس خيانةً يتوارى صاحبُها عن الناس خجلا من عاره؟ ألا قاتلهم الله أنّى يُؤفكون.. ألم يقرأ هؤلاء الفقهاءُ المطبِّلون للحكّام والدعاة على أبواب جهنّم قولَه تعالى: "ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم"؟ وما دامت الخيانة وبيع قضايا الأمة ومقدّساتها بأبخس الأثمان وتزكية الاحتلال والتحالف معه، قد أصبحت "إنجازا تاريخيا"، فلماذا نخوِّن إذن أبا رغال الذي قاد أبرهة وجيشَه في سنة 571م إلى مكّة لهدم الكعبة المشرَّفة، وابنَ العلقمي الذي أعان جيوش المغول على اجتياح بغداد والقضاء على الخلافة العباسية في 1258م؟ ولماذا نخوِّن "جيش لبنان الجنوبي" الذي حارب إلى جانب الاحتلال الصهيوني ضدّ بلده، وقبله خونةَ الثورة الجزائرية الذين حاربوا إلى جانب فرنسا ضدّ شعبهم؟ لماذا لا نعيد إليهم الاعتبار إذن ونصنّفهم في خانة الأبطال والشرفاء والشجعان، ونكرمهم ونعدَّ خياناتهم "انجازاتٍ تاريخية" لهم ولأوطانهم؟ إذا كان هناك حسنةٌ للرئيس ترامب فهي إرغامه المنافقين من الأنظمة العربية وفقهاء البلاط والنخب المأجورة المسترزِقة على الخروج من جحورها وإسقاط الأقنعة عن وجوهها لتظهر قبيحة كما هي، والكفِّ عن سياسة النفاق والإدِّعاء في العلن بتأييد القضية الفلسطينية وبأنها تُعدّ "قضيّتها المركزية الأولى" في حين تعمل في السر على توطيد علاقتها بالاحتلال وتأييد مشاريعه لابتلاع فلسطين وتهويد مقدَّساتها، ولسانُ حالها يردِّد "إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون".. اليوم أرغم ترامب هؤلاء المنافقين على تحديد مواقفهم بوضوح، فرأيناهم يتسابقون على التطبيع بشكل مُذِلّ، ورأينا نخبهم وفقهاءهم يبرّرون لهم خطاياهم وأهواءهم ويزيّنون لهم الباطل والسوء في سقطةٍ مدوّية جعلت الملايين من متابعيهم في العالم ينفضّون عنهم بعد أن أضلّوهم طويلا.. فشكرا لترامب وتبّا لحكام العار الذين تخلُّوا عن فلسطين والقدس وآثروا الاصطفاف إلى جانب الاحتلال لخدمة مصالحهم، وسُحقا للفقهاء والدعاة المأجورين الذين يكتمون الحق وهم يعلمون ويسارعون إلى تأييد الباطل إيثاراً للسلامة والنجاة. ومن حسن حظّ الأمّة أنها لم تخلُ من الفقهاء الذين لا يزالون يصدعون بالحقّ مهما كانت العواقب، ومنهم مفتي سلطنة عُمان أحمد بن حمد الخليلي الذي لم يتردّد في معارضة تأييد بلده للخيانة والانبطاح المُهين للعدوّ الصهيوني، وأكّد أن تحرير الأقصى وجميع الأراضي المحتلّة واجبٌ مقدّس على أفراد الأمة كلِّهم ودينٌ في رقابهم يلزمهم وفاؤُه، فإن لم يستطيعوا، فليس لأحدٍ الحقُّ في المساومة عليه، وليتركوا الأمر لله ليأتي بمن يشرِّفه بالقيام بهذا الواجب.. فتحيّة تقديرٍ وإجلال إلى مفتي عُمان، والخزي والعار لفقهاء السوء الذين باعوا دينهم بدُنيا غيرهم.