رأينا في الحلقة السّابقة، كيف تمّ انتشارُ الفكرة السّلفية في الجزائر، وأنّ الأمر لم يكن نتيجة عمل ميدانيٍ قام به نشطاء السّلفية العلمية، بل إنّ الاكتساح الواسع للنّشاط السّلفي، للحقيقة الموضوعية هو ناتج عن الخلوّ التّام لأيّ منافس دعوي آخَر، وسنحاول في هذه الحلقة أن نسلّط الضّوء على الجانب الفكري والمعرفي للدّعوة السّلفية، من خلال الإشكالية الآتية: هل الدّعوة السّلفية هي إعادةُ إنتاج لبعض الدّعوات الّتي عرفها التّراث، أم هي دعوة جديدة جاءت استجابةً للأوضاع الّتي عرفها المسلمون، خلال فترات الانحدار الأخيرة؟ إنّ الإجابة الصّحيحة عن هذا السّؤال هي الكفيلة، في تقديري لوضعنا على حقيقة الدّعوة السّلفية، وسيتمّ توضيحه من خلال الكشف عن جانبين، يتعلّق الأوّل منهما بالأصول الفكرية للدّعوة السّلفية، ويتعلّق الثّاني بأهمّ المؤاخذات والانتقادات الموجّهة لها. 1 الأصول الفكرية للدّعوة السّلفية: لا تُسعفنا كتبُ الفرق والملل، ولا كتبُ المذاهب عن اتّجاه أو طائفة تسمّت باسم السّلفية، ولم يدخل هذا الاسم حيّز التّوظيف إلاّ في القرن الثّامن عشر الميلادي، في أعقاب ظهور دعوة الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب النّجدي -رحمه الله- المتوفّي سنة 1792م الموافق لسنة 1206ه، وقد كان يُطلق على دعوته اسم الدّعوة السّلفية، نسبةً إلى السّلف الصّالح، في مقابل الدّعوات الدّينية السّائدةً في زمانه، والّتي هي امتداد للتصوّرات الّتي أسّسها الخلف، خلال فترات التّدوين العلمي إلى غاية القرن الرّابع الهجري، وهي مجموع الآراء والأدبيّات الّتي استقرّ عليها النّشاط الذّهني للمفكّرين الإسلاميّين في النّصوص الشّرعية، وتشكّلت على أساسها المدارس العلمية في الفقه والكلام والتّربية، وتميّزت خلال هذه الفترة الأقوال المعتمدة المعمول بها، والأقوال الشّاذّة المهجورة، وكلّ الفترات الّتي أعقبتها هي تكرار وإعادة لها، وهو معنى قول الفقهاء بانسداد الاجتهاد وغلق بابه، أمّا بالنّسبة للنّظرة السّلفية الوهّابية، فتُعتبر هذه الفترة مفصلاً بين علوم السّلف وعلوم الخلف، عرفت فيها الأمّة تحوّلاً جذريًّا عن المناهج السّلفية النّظرية والسّلوكية، بسببب تسلّل المؤثّرات الأجنبية إلى التّراث، ممَثّلة في المنطق الأرسطيّ والفلسفة اليونانية وعلم الكلام. وقد قام بعبء بيان فساد هذه المؤثّرات أحمد بن تيمية المتوفّي سنة 728ه رحمه الله، المعروف في الأوساط العلمية بشيخ الإسلام، كما يُعرف لدى متأخٍّي الحنابلة باسم الشّيخ عند الإطلاق، فقام بعبء إيضاح المنهج السّلفي أو تأسيس الفهم السّلفي للنّصوص، وجميع المؤلّفات الّتي كتبها تدور حول نقد التّراث الخلفي، خاصّةً في أصول الدّين الّذي أسّسه أهل السنّة الأشاعرة، وتبعه ثلّةٌ من أصحابه وتلاميذه العلماء، كابن قيّم الجوزية المتوفّي سنة751 ه، والإمام الذّهبي المتوفّي سنة 742 ه، وابن كثير الدّمشقي المتوفي سنة771 ه، لكنّ التّأسيس الفعلي والحقيقي تمّ على يد الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب، بما تهيّأ له من أسباب الحماية والتّمكين، بتبنّي محمّد بن سعود أمير الدّرعية لآرائه الجديدة، وقد اعتمد فيها على أراء ابن تيمية كليّةً، إلاّ بعض الآراء الّتي أُنكر فيها على ابن تيمية، كمسألة الطّلاق الثّلاث بلفظ واحد، ومسألة القدم النّوعي، ووفقه على مسألة النّهي عن شدّ الرّحال لزيارة القبر الشّريف، أو مسألة الزّيارة؛ لابتنائها عند الشّيخ ابن عبد الوهاب على مسائل التّوحيد الّتي توسّع فيها كثيرا، إلى درجة التّجديد في المنهج السّلفي. وقد تلقّت دعوة الشّيخ ابن عبد الوهاب، ضربات موجعة نتيجة تصادمها مع التصوّرات السّائدة، من طرف الدّولة العثمانية، وكان أشدّها الحملة الحجازية سنة 1834م بقيادة إبراهيم باشا ابن محمّد علي باشا والي مصر، بعد المراسلات الكثيرة من علماء المسلمين، في الإنكار عليها وبيان خروجها على رأي الجماعة، لكنّ السّلفيّين يحملون هذه الرّدود على محمل العّصبية ضدّ الدّعوة الإصلاحية، ولا يلتفتون إلى سنداتها، ولا يعيرون وزنا للعلماء الّذين صدرت منهم، بل لا يتردّدون في إطلاق أوصاف الشّرك والضّلال على علماء كبار، لم يكن ذنبهم سوى الردّ على مشايخ الدّعوة السّلفية. ومع كلّ التّضييق الّذي لحق بدعوة الشّيخ ابن عبد الوهاب، فقد تهيّأت لها ظروفُ الإحياء منذ أن بدأ الضّعف يدبّ إلى أوصال الدّولة العثمانية، وتحديدًا مع دخول الاستعمار الأوروبي إلى البلاد العربية، منذ حملة نابليون على مصر سنة 1798م، وهي الفترة الّتي بدأ فيها العالم الإسلامي يشهد تخليًّا تدريجيا عن المنظومة المعرفية الكلاسيكية، وانفتاحًا على الأفكار الجديدة المسمّاة آنذاك بالإصلاح الدّيني، ولم يكن ذلك سوى مشروع التّجديد الّذي جاء به الاستعمار، من أجل إحكام القبضة على العالم الإسلاميّ. ومنذ تلك اللّحظة بدأ التّمكين لآراء ابن تيمية، كما بدأت تعرف طريقها إلى التوسّع والانتشار، وضيّق على الأفكار والتصوّرات المخالفة لها لأنّها كانت متخالفة مع الكيان السّياسي للمسلمين، وهي الخلافة العثمانية الّتي يراد تكسيرُها والإجهازُ عليها.. ولا يتّسع المجال لبسط الأصول الفكرية للدّعوة السّلفية أكثر، لكن نشير إلى أهمّها، وهي الأخذ بظواهر النّصوص الشّرعية في القرآن والسنّة، معتبرين الظّاهر في مقام الدّلالة القطعية، معاملةُ أحاديث الآحاد معاملة الأصول القطعية، عدمُ اعتبار الإجماع إلاّ إجماع الصّحابة، التّضييقُ من مساحة الرّأي في جانب القياس والاستحسان، نبذُ التّقليد. وهذا الأصل الأخير فتح باب الخروج عن الآراء المعتمدة في الفقه، فغاب التعبّد بالمذهب في الفقه، واختفى الارتباط بالمذهب العقدي، وانحسر النّشاط التّربوي الّذي كانت تؤطّره الطّرق الصّوفية. 2 أهمّ المؤاخذات والانتقادات الموجّهة للدّعوة السّلفية: لم يقف العلماء موقفا واحدًا من دعوة الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب، بسبب جهل الكثير منهم بمضمونها، كما رحّب آخرون بما قامت به وأعجبوا بدورها في محاربة البدع والجهل وانتشار المعصية والنّهب المنتشر بين المسلمين، إلاّ أنّ العلماء سرعان ما غيّروا موقفهم من هذه الدّعوة لمّا تبيّن لهم حقيقتُها، وهو توسّعها في التّكفير وإراقة الدّماء، بسبب بعض الممارسات الّتي كان يراها الوهّابيون شركا ويراها غيرهم من العلماء دائرة بين الجواز والاستحباب، كالتوسّل في الدّعاء بأحد الصّالحين أو الأنبياء، والاستغاثة بالأموات من الصّالحين، والدّعاء عند قبور الصّالحين، والتبرّك بآثار الصّالحين، خاصة وأنّ الجمهور الأكبر من علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم لم يكونوا يوافقونهم على ذلك، ولهم ردود على آرائهم مؤسّسة على الأدلّة، لكنّ السّلفيّين لا يعتبرونها ولا يأبهون بها، وهذا منتهى المصادرة على التّفكير والحجر على العقول. والنّقد الآخَر الموجّه لهذه الدّعوة هو إنكارها التّقليد للعلماء، مع إلزامها بلسان الحال التّقليد لعلمائهم الّذين يمشون على هدي ابن عبد الوهاب وابن تيمية رحمهما الله، مع العلم بأنّ مجرّد ذكر هذين العالمين دون الوصف الّذي تعوّدوا عليه يُعتبر انتقاصا من حقّهما، لفرط تعصّبهما لهما لا غير، فوقعوا في شرّ ما لاموا النّاس فيه، من تقليد العلماء المشهود لهم بالفضل والعلم. ولا تخرج السّلفية في باب التّقليد عن أهل الظّاهر المانعين من التّقليد، مع أنّ العلماء أوجبوا التّقليد على العاميّ في الفروع الفقهية، ومنعوا التّقليد في الأصول الكليّة، أمّا السّلفيّون فأوجبوا متابعة النّاطق الرّسمي في كلّ شيء، وإلاّ لحقه سيف البدعة والتّجريح والإسقاط، وما تجربة السّنوات الأولى من القرن الجديد ببعيدة. . . *دكتوراه في أصول الفقه، جامعة الجزائر1