كان السّياق التاريخي للوجود العثماني بالجزائر (1516م- 1830م) يمثّل جزءًا من واقع الأمّة العربية والإسلامية في تلك الفترة، ويستجيب إلى جزءٍ من الصّراع الحضاري الدولي بين القوّة الإسلامية العالمية التي كانت تقودها الخلافة العثمانية في ذلك الوقت وبين القوّة المسيحية العالمية التي كانت تقودها إسبانيا آنذاك، يقول الدكتور محمد دراج في مقدمة كتابه: الدخول العثماني للجزائر: "أدّى سقوط غرناطة (سنة 1492م) في يد الإسبان إلى هجرة آلاف المسلمين إلى بلدان المغرب العربي، خصوصًا الجزائر.. فقام الإسبان على إثر ذلك باحتلال معظم مدن وموانئ الجزائر السّاحلية، مستغلّين الفراغ السّياسي الذي كانت تعيشه الجزائر في تلك الفترة، فكان من أثَر ذلك أن قام علماءُ وأعيانُ الجزائر باستدعاء البحّاريْن التركييْن: عروج وخير الدّين بربروس لقيادة حركة المقاومة الإسلامية لتحرير سواحل الجزائر وتقديم الدّعم اللاّزم لمسلمي الأندلس.." (ص 5، 7)، فكانت الجزائر الحصن المنيع في وجه الصّليبية الزّاحفة على العالم العربي والإسلامي بعد سقوط غرناطة حتى لا تتكرّر مأساة الأندلس في المغرب العربي وشمال إفريقيا، فهزَم عروجُ الإسبان، وأعلن نفسَه سلطانًا على الجزائر بمبايعة أهلِها وأعيانِها وعلمائِها، وأسّس إيّالة الجزائر كدولةٍ موحّدة، ورسَّم العلاقة مع الباب العالي سنة 1516م ضمن الخلافة العثمانية. وبالرّغم من ارتباط الجزائر بالخلافة العثمانية رسميًّا ابتداءً من هذا التاريخ إلاّ أنّ العلاقة بها تميّزت بعدّة مراحل، ولم تكن تبعيةً مطلقة، فقد كانت تبعية حكّام الجزائر للسّلطان العثماني شبه مطلقة خلال فترة (البيلر بايات: 1520م – 1587م) وفترة (الباشاوات: 1587م– 1659م)، غير أنّ الوضع تغيّر في عهد (الأغاوات: 1659م– 1671م)، وزاد فكّ الارتباط بين الجزائر والدولة العثمانية خلال عهد (الدّايات: 1710م– 1718م)، فكانت الدولة الجزائرية العثمانية متميّزةً في مكانتها، متفرّدة في سيادتها داخل الخلافة العثمانية، يقول مولود قاسم نايت بلقاسم: "تميّزت العلاقات بين الجزائر والخلافة العثمانية بطابعين اثنين: 1- علاقات التعاون والمساعدة المتبادلة بدافع التضامن في الجهاد، لا كقوّتين متضامنتين بل كوَحدة متراصّة أمام كتلةٍ أخرى كانت دائمًا هي البادئة بالعدوان، وهي أوروبا في مجموعها ككتلةٍ نصرانية، يوحّدها دائمًا البابا بإعلانه كلّ مرّة حربًا صليبية جديدة.. 2- والطابع الثاني هو استقلال الجزائر استقلالاً تامًا، وسيادتُها سيادةً كاملة، ومن هنا نرى الجمهورية الجزائرية، وهذا كان اسمها الرّسمي في غالب نصوص المعاهدات وفي المراسلات التي كانت بينها وبين الدول الأخرى..". كانت الجزائر في علاقاتها الديبلوماسية وفي معاهداتها مع الدول الأوروبية والأمريكية توقّع باسم الجزائر، والجزائر فقط، وبهذا الإمضاء: "الجزائر المجاهدة"، و"الجزائر المحروسة"، و"الجزائرالقاهرة". ثم يقول: "وهكذا فبينما كانت الدول الشقيقة إذ ذاك كالعراق ومصر وليبيا وغيرها لا تستطيع عقد أي معاهدةٍ إلا برخصةٍ كتابية من الباب العالي وتمضي المعاهدة باسم الخليفة العثماني كانت الجزائر تعلن الحرب وتعقد السّلم وتجري المفاوضات وتمضي المعاهدات باسمها، وباسمها لا غير.." (شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830م، ج 2، ص 80). ويقول الشّيخ مبارك الميلي في كتابه: (تاريخ الجزائر القديم والحديث، ج 3، ص 301): "إنّ إيجاد إدارة مركزية واحدة، وتركيز السّلطات في يد الدّيوان الذي يتولّى تعيين أو انتخاب الدّاي، وتعامل دول أوروبا وأمريكا مع هذا الدّاي، والمعاهدات المبرمة بينها وبين الجزائر، يدلّ على أنّ الجزائر قد تطوّرت في العهد التركي إلى أن أصبحت لها دولة بالمعنى الحديث للكلمة"، ثم يعترف وهو يتحدّث عن أوضاع الجزائر سنة 1830م – تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزائر، فيقول: "وهكذا نجد أنّ الجزائر سنة 1830م تشكّل مجموعةً ترابيةً واحدة، صهرتها قرونٌ عديد من تطوّرٍ مشترك، ونجد أنّ كلّ المظاهر من اقتصادٍ وثقافةٍ وتنظيمٍ اجتماعي جعلت من الجزائر وَحدة قائمةً بذاتها.." (تاريخ الجزائر القديم والحديث، ج 3، ص 318). ويقول الدكتور ناصر الدّين سعيدوني في كتابه (الجزائر في التاريخ: العهد العثماني، ص 14)، وهو يتحدث عن تعاقب الأنظمة السّياسية على الجزائر خلال العهد العثماني، وعن آخر تلك الأنظمة وأطولها: عهد الدّايات (1617م- 1830م): ".. وعرفت فيها الجزائر مقوّمات السّياسة، وتمتّعت بالاستقلال الفعلي عن الدولة العثمانية"، ويقول في (ص 15): "ومن المؤكد أنّ هذا التطوّر في نظام الحكم الذي عرفته الجزائر في العهد العثماني وانتهى إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية يعود إلى الظروف الدولية والأوضاع المحلية التي كانت تعيشها البلاد الجزائرية.."، ثم يتحدّث عن التنظيم الإداري لإيّالة الجزائر، والذي كان يحمل في طيّاته تكوين دولة وطنية، رغم ما كان يحمله من مظاهر إيجابية وسلبية فيقول: "وفي وقتٍ أصبحت فيه الجزائر تتمتّع فيه بكيانٍ معترفٍ به دوليًّا وتمارس استقلالاً حقيقيًّا في نطاق الرّابطة العثمانية التي قوامها المصلحة المتبادلة والرّوابط الرّوحية، وهذا ما أوقع كثيرًا من الكتّاب في الخلط بين طبيعة الجهاز الإداري الذي كان في صالح الأقلية التركية وبين وضعية الجزائر الدولية، فذهب بهم الأمر إلى حدّ اعتبار الجزائر مستعمَرة تركية، وهذا خلاف الحقيقة والصّواب.". ويقول الأستاذ عبد المجيد الشيخي المستشار برئاسة الجمهورية المكلّف بالأرشيف الوطني والذاكرة الوطنية، وهو يؤكّد على هذه الاستقلالية والسّيادة الجزائرية عن التبعية للدولة العثمانية: "إنّ الجزائر لم تكن ولايةً من ولايات الدولة العثمانية وإنّما كانت شريكًا في السّياسة العثمانية، إذ كانت لها خلال تلك الفترة معاهداتٌ واتفاقيات مع عديد الدول الأخرى مما يثبت أنّ الجزائر كانت شريكًا للدولة العثمانية ولم تكن ولاية عثمانية فحسب".. بل كانت الدولة الجزائرية في ذلك الوقت هي مَن تدافع عن الخلافة العثمانية وتصدُّ عنها القوى الدولية المتربّصة بها، ففي أربع مرّات -على الأقل- نهض أسطولُنا مدافعًا عن الدولة العثمانية ومانعًا لسقوطها، ومن هذه المحطّات: في معركة (ليبانت) في اليونان يوم 9 أكتوبر 1571م ضدّ أساطيل البندقية والبابا بيوس الثاني وإنكلترا وإيطاليا وإسبانيا، ثم في الحرب الرّوسية العثمانية سنة 1787م، ثم في معركة العثمانيين لطرد نابليون من مصر، ثمّ في معركة نافارين سنة 1827م عندما أُبِيد الأسطولُ العثماني كلُّه، وظلّ الأسطولُ الجزائري يواجه بمفرده أساطيل روسياوفرنسا وبريطانيا. ويشهد المؤرّخ الفرنسي "دى غرامون"، وهو يتحدّث عن الطبيعة الدّينية لذلك الصّراع الدولي، وفي نفس الوقت يتحدّث عن الجزائر -سيّدة البحر الأبيض المتوسط- وقوّتها خلال العهد العثماني، يقول: "لقد ظلّت الجزائر طيلة ثلاثة قرون (فترة الوجود العثماني) رُعب النّصرانية وكارثتُها، ولم تنجُ واحدةٌ من المجموعات الأوروبية من البحّارة الجزائريين الجريئين، بل وأخضعت الجزائر زيادة على ذلك لمهانة الضّريبة السّنوية: ثلاثة أرباع أوروبا، بل وحتى الولايات المتّحدة الأمريكية." وقد بلغت الجزائر من القوّة العسكرية -وتحديدًا القوّة البحرية بخصوصية تلك الحقبة الزّمنية- ما جعل المؤرّخ الإسباني "دييغو دي هايدو" يصرخ في وجه أوروبا ويقول: (الجزائر آفة الدّنيا ومضجع القراصنة، إلى متى يتحمّل ملوك أوروبا ذلّهم؟!). هذه القوّة الدولية والهيْبة العالمية للجزائر جعلت من فرنسا تبادر في مؤتمر (فيينا) سنة 1814م بطرح موضوع الجزائر، فاتفق المؤتمرون على تحطيم هذه الدولة في مؤتمر (إكس لا شابيل) عام 1819م، إذ وافقت 30 دولة أوروبية على الفكرة، وأُسنِدت المهمّة إلى فرنسا وانكلترا، وتوفّرت الظّروف المناسبة لذلك بتدمير بحرية البلديْن للأسطول الجزائري في معركة (نافارين) سنة 1827م والذي كان في نجدة الأسطول العثماني، وبذلك انتهت السّيطرة الجزائرية على البحر الأبيض المتوسط، ومهّد للاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م.