ترسّخت القضية الفلسطينية في الوعي العربي الإسلامي كقضيةٍ وجدانيةٍ ومركزية، بذلك الشّحن السّماوي المقدّس في صدر سورة الإسراء، وبذلك الرّبط الأزلي بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى المبارك، في قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.." (الإسراء: 01)، بما يؤكد تلك العلاقة العقائدية وذلك المصير التاريخي المشترك بينهما، والذي يتجاوز حسابات البشر وإكراهات الواقع وضرورات الحكم ومتغيّرات السّياسة. إلا أنّ الأخطر في موجة التطبيع تتجاوز مجرد الاعتراف بهذا الكيان الصّهيوني المحتل، والقفز فوق شرعنة وجوده، والتعالي على منح الشرعية لممارساته العنصرية، وفرض الصّمت على كلّ تجاوزاته للحقوق والقوانين والشّرعيات والنّضالات، وهو ما يعزّز مكانة هذا الكيان السّرطاني في المنطقة وفي العالم على حسابنا، ويجعل التطبيعَ يتجاوز حدود المنطق ومسلّمات الشّرع وثوابت الأمّة وحقائق التاريخ وشرعية القانون، وبما يجسّد ذلك العلو بمنطق القوّة لا بقوّة المنطق. النتن- باهو يعترف بهذا البرنامج المكثّف لمسار التطبيع، فيقول: "إنّ إسرائيل تقيم علاقاتٍ سرّية مع العديد من الدول العربية والإسلامية، وثلاث دول فقط هي التي لا تقيم علاقاتٍ معنا، وما نقوله ليس إلا 10% فقط مما يحدث من علاقات سرّية تجمع إسرائيل بدول عربية."، وهو ما مهّد لهذا الانتقال المروِّع من التطبيع السرّي والفردي إلى هذه الهرولة العلنية والجماعية، بما يوحى بأنّ الزّمن يشتغل لصالح هذا الكيان السّرطاني، وأنه استدار بهذا الانفراج في دورته التاريخية له. ومع ذلك فإنه لا يُعتبر إلا خيانة، ولا يمثّل إلاّ جريمة، وأنه سياسةٌ ضارّةٌ وخيارٌ قاصرٌ، فهو طعنةٌ في ظهر القضية العقائدية المقدّسة، ووباءٌ خطير متفشّي في جسد هذه الأمّة، متجاوزٌ للمواقف التاريخية والعقدية لدولنا، متعلقٌ بأستار الاقتصاد والأمن واستبدال العدو الصهيوني بالعدو الإيراني، في معادلاتٍ جديدة وأبعادٍ خبيثة، تنهزم فيها المبادئ والثوابت لفائدة المصالح والمتغيّرات. يقول المفكّر المغربي محمد الطلابي: "الشّعوب العربية تعي جيّدًا أنّ التطبيع هو اعترافٌ أبدي بأنّ أرض فلسطين لليهود، وهذا غير ممكن لا في المخيّلة أو العقيدة، وهو مخالفٌ لحقيقة التاريخ.."، فما هي الأبعاد الخبيثة والتداعيات الخطيرة لهذه الهرولة نحو التطبيع من جديد؟ الأخطر في هذا التطبيع أنه حركةٌ مكثّفة ضمن تحوّلاتٍ متسارعةٍ تجعل من الثوابت متغيّرات، تعصف بكلّ المسلّمات والحقائق والشرعيات، وما تمثّله من هزّات عنيفة في الوعي ومراجعاتٍ طويلةٍ من الصّراع التاريخي والحضاري والدّيني، في محاولات لكسر الحواجز النفسية بيننا وبين الصّهيونية، وفضح انكشاف الأمن القومي العربي، وتدمير وحدة الموقف المشترَك اتجاه القضية بالغرَق في وَهْمٍ جديد، وهو (السّلام الإقليمي ضدّ عدوّ مشترك وهو إيران)، رغم فشل مسلسل السّلام السّابق عبر الاتفاقيات المشؤومة، ابتداءً من اتفاق كامب دايفيد مع مصر سنة 1979م إلى الآن. الأخطر في هذا التطبيع هو استدعاء الوجود الاستخباراتي والعسكري الصّهيوني إلى المراكز الحسَّاسة من الخليج والمغرب العربي وشمال إفريقيا، مع تهاوي مراكز الثقل السّياسي للأمّة، ومحاصرة دول الممانعة، والتخلّي عن الحلّ العادل للقضية الفلسطينية مقابل هذا التطبيع الأجوف، والاستبدال الممجوج بدوافع أمنية واقتصادية، وقد تخرّب الوعي واهتزّت العقيدة بأنّ هذا الكيان هو التهديد الاستراتيجي والدّائم لاستقرار الأمّة. الأخطر في هذا التطبيع أنّه يمثّل التسليم بشرعية الاحتلال، والشّرعنة لممارساته العنصرية، والتجاوز عن جرائمه وانتهاكاته، والإقرار بيهودية دولته الشّاذة، وما يترتّب عنها من التنازل عن الحقوق التاريخية وتغيير الوضع القانوني للأرض، بما فيه التفريط الطوعي في القدس والمسجد الأقصى المبارك. الأخطر في هذا التطبيع أنّه يتيح -وبشكلٍ رسمي- الاختراق الصّهيوني للدول، والتسلّل إلى عمق المجتمعات العربية والإسلامية، واستنزاف خيراتها تحت غطاء الاستثمار التكنولوجي والتعاون الاقتصادي والتجاري، وكذا الإمكان المريع لزرع الفتن والانقسامات. وهناك أزمةٌ في مفهوم الأمن القومي للدول العربية، وقصورٌ في إدراك الأثر العكسي لهذا التطبيع، وسذاجةٌ في ضبط حقيقة هذا العدو، فالتطبيع يعني الاعتراف بالوجود العادي لهذا الكيان الغريب، والأخطر هو التصديق بأنّه "حمامة سلام"، وهو الذي تأكّدت فيه الحقيقة التاريخية القرآنية: ".. وليزيدنّ كثيرًا منهم ما أُنزل إليك من ربّك طغيانًا وكفرًا، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فسادًا.." (المائدة:64). الأخطر في هذا التطبيع أنّ الحديث عنه لم يعُد صادقًا في التعبير عن حقيقة ما توصّلت إليه بعض الأنظمة العربية المرتمية في أحضان هذا الكيان الصّهيوني بكلّ تلك الحميمية، فتلك مرحلة طُويت من العلاقات السرّية والتاريخية، بل هو في جوهره تحالفٌ هجينٌ واندماجٌ مجنونٌ مع الكيان السّرطاني ضدّ مصالح الأمّة وعلى حساب قضاياها العادلة وثرواتها الحقيقية ومواقفها التاريخية وقدراتها العسكرية وعقيدتها السياسية، فقد أكّد التاريخ أنّ مسار التطبيع لم يحقق سلامًا ولا استقرارًا ولا تطورًا للدول المنبطِحة، وأنّ مصير مصر مع اتفاقية كامب دايفد منذ سنة 1979م، ومصير منظمة التحرير والسّلطة الفلسطينية منذ اتفاقية أوسلو سنة 1993م، ومصير الأردن منذ اتفاق وادي عربة سنة 1994م شاهدُ عيانٍ ناطقٍ في وجه هؤلاء المنبطحين. الأخطر في هذا التطبيع أنّه استثمارٌ في ضعف الشّرعية السّياسية للأنظمة العربية، وهو سببٌ رئيسٌ في هذا التهافت على التطبيع وهذا التحالف العضوي مع هذا الكيان، إذ أنّها لا تملك الشرعية الشعبية ولا المناعة الداخلية في مواجهة الضغوط والإكراهات الخارجية، رغم الأمل في عزل التطبيع شعبيا، وأنّ هذا الكيان لا يملك الثقة في مستقبله، إذ لا يملك شرعيةً حقيقيةً ولا قوّةً ذاتية إلاّ بحبلٍ من النّاس. الأخطر في هذا التطبيع أنّه قفزٌ على الحلّ العادل والشّامل للقضية الفلسطينية، وعلى مجرد العلاقات الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع هذا الكيان الصّهيوني إلى التسليم له بقيادة المنطقة وتسيّد الحالة العربية، نظرًا للتفوّق التكنولوجي والعسكري والأمني له. الأخطر في هذا التطبيع، وبالرّغم من طبيعة الصّراع والصّيرورة التاريخية له، والتي تؤكد على وجود فاعلين رئيسيين لا يمكن تجاوزُهم، وعلى رأسهم الحل الجهادي والعسكري للمقاومة، والتي هي في تطوّرٍ نوعيٍّ استخباراتيًّا وعسكريًّا وعلى الأرض، إلاّ أنّ هذه الصّفقات التطبيعية هي محاصرةٌ لخيار المقاومة ولقوى المقاومة، والتورّط في شرْعَنة مشاريع تصفيتها، بل والمشاركة ماليًّا وعسكريًّا في القضاء عليها. الأخطر في هذا التطبيع أنّه سيحرّر العدو الصّهيوني من أيّ التزاماتٍ اتجاه الاتفاقيات الدولية وأحكام القانون الدولي والمواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، وسيزيد من حالة الفصام بين العالم العربي والإسلامي وبين القضية الفلسطينية وحقّ الشّعب الفلسطيني في التحرير وتقرير المصير.. الأخطر في هذا التطبيع هو هذا التطوّر في أشكاله وأدواته، بما يجعله حربًا ناعمة ولكنّها خادعة، مكثّفةً في المجهول بما يعمّق سُمَّه في الذّات العربية والإسلامية، من التطبيع الرياضي والفنّي، إلى التطبيع الإعلامي والثقافي، إلى التطبيع التجاري والاقتصادي، إلى التطبيع السّياسي والديبلوماسي، إلى التطبيع الأمني والعسكري، وهو ما ينذر بحجم تلك الكارثة من الاختراق المسموم لهذا الكيان الصّهيوني في المنطقة، ليس لابتلاع فلسطين فقط، بل للهيمنة الكلّية على المنطقة بأسرها، وإخراج الأمّة من دائرة الصّراع على تلك الأرض المقدّسة. الأخطر في هذا التطبيع أنه يُعدُّ أداةً حيويةً في تحقيق هدفٍ استراتيجي للصّهيونية، وهو إدماج هذا الكيان الشاذّ بشكلٍ سلسٍ ضمن الأمّة العربية والإسلامية، وهو ما لم تحققه الغطرسة العسكرية بذلك التفوُّق الرّهيب لتلك القوّة العنيفة والعنجهية الخشنة.