انتهى وإلى الأبد زمن "إسراء" الجزائريين من بيوتهم الجنوبية إلى الضفة الشمالية لاقتناء الألبسة والمواد الكهرومنزلية والموز والمكسرات.. وانتهى أيضا إلى الأبد زمن "معراج" مهاجرينا من بيوتهم الفرنسية إلى الضفة الجنوبية محملين بالضروريات والكماليات لبيعها لجزائريين كانوا قبل الثورة "التركية والصينية والتايوانية" في شوق ناري لكل ما يأتي من فرنسا من أطعمة وعطور وألبسة ومواد التزيين.. المعادلة انقلبت الآن رأسا على عقب ويمكن اختصارها في صورة مهاجر جزائري في فرنسا عاد هذه الصائفة وليس بيده إلا حقيبة يد صغيرة وبعد فترة راحة في الجزائر حمل إلى فرنسا حقائب عديدة مليئة بأمتعة اقتناها من الجزائر.. وأهم ما في الحكاية أن الكثير من التجار الجزائريين أصبحت مهنتهم تنتعش خلال عودة المهاجرين الذين يشترون كل شيء وهذا بفضل فوضى التجارة التي تعيشها الجزائر والتي تجعل التجارة عندنا من دون رقيب. مهاجرون يعودون ب "الموز" إلى فرنسا إلى غاية بداية عام 2001 كان سعر الموز في الجزائر لا يقل عن 500 دج للكيلوغرام الواحد، وكانت الصورة المتكررة في كل مطاراتنا وموانئنا البحرية ومراكز الحدود الشرقية والغربية هي حقائب فيها من كل شيء والكثير من رائحة الموز الذي شكل منذ الاستقلال واحدة من عقد المجتمع الجزائري حتى أصبحت رائحة مطاراتنا برائحة الموز ، ثم حدث انهيار سعره إلى أن بلغ في بعض الأحيان سعره 50 دج، وهو سعر متدن جدا مقارنة بسعره في فرنسا والذي يصل أحيانا إلى 03 أورو للكيليو غرام الواحد (300 دج)، وأكد لنا أحد أعوان الجمارك بمطار محمد بوضياف بقسنطينة بأن عددا من العائدين إلى فرنسا أصبحوا يقتنون معهم التفاح والموز وبعض العجائن وحتى الحلوى والشكولاطة والمشروبات، حيث أن سعر "الأورنجينا والكوكاكولا والفونتا" هو نصف السعر الموجود في فرنسا... وانتقل شغف المهاجرين إلى مواد التنظيف، حيث ينقلون معهم صابون "إزيس" الذي يبلغ سعره في فرنسا حوالي 3 أورو بينما يمكن اقتناء ذات الكمية من الجزائر ب 50 دج، كما يهجمون على سوق الصابون والروائح خاصة أنها تحمل أسماء لماركات كبرى مثل ن"يفيا" و"بالمولويف"، وتهجم النسوة من المهاجرات على أسواق الأواني بكل أنواعها إلى درجة أن الكثيرات غيّرن طواقمهن القديمة الفرنسية الصنع بطواقم صينية يتم اقتناؤها من الجزائر، وقد بلغت درجة "تبعية" المهاجرين في فرنسا للسوق الجزائرية أنهم بمجرد أن يصلوا إلى المطار الجزائري حتى يعرجون نحو أسواق الجملة والأسواق المسماة "دبي" لصرف العملة الصعبة واقتناء هدايا لأهاليهم في الجزائر من السوق الجزائرية لأنهم يعلمون أن الأثمان هنا أقل بكثير من الأثمان الفرنسية إذ يتم اقتناء لعب الأطفال، حيث من الممكن شراء لعبة مقبولة بسعر لا يتعدى 200 دج كاملة.. ولا يكتفي المهاجرون باقتناء الهدايا لأهاليهم في الجزائر بل يأخذون الجزء الأكبر من هاته الهدايا إلى أهاليهم وأصدقائهم في فرنسا.. ويؤكد بارونات أسواق الجملة بالأسواق الشعبية أن أول زبون لهم في فصل الصيف هو المهاجر والمهاجرة. يشاهدون القنوات العالمية بفضل الجزائر الوجهة الأهم حاليا هي محلات الأجهزة الكهرومنزلية وخاصة "الديموهات" الرقمية التي تعتبر أسعارها في الجزائر أقل بعشر مرات مما هو موجود في كل المدن الفرنسية مع إمكانية عملية "الفلاشاج" بسعر أقرب للنكتة بالنسبة للمقيمين في فرنسا (100 دج) وهو ما يمكنهم من تتبع قنوات عالمية تطلب اشتراكا شهريا قد يصل حتى إلى 50 أورو (5000 دج). وتلقى محلات "كوندورو ستار سات" ازدحاما "من المهاجرين" حتى تحولت بعضها للعمل فقط مع مهاجرينا الذين يشعرون أنهم في بحبوحة إعلامية بأقل تكلفة. وبينما يصعب اقتناء قرص مضغوط من نوع(mp3) بأقل من 20 أورو ( 2000 دج) في فرنسا، توفر أسواق العملة بولاية سطيف المعروفة باسم "أسواق دبي" هذا القرص ب 30 دج فقط، وهو ما يجعل بعض المهاجرين يعيد السؤال عن سعره عدة مرات ظنا منه بأن البائع أخطأ أو يمزح، ولكن تواصل القرصنة هو الذي اغتصب حقوق المؤلفين ومنح للتجار وأيضا للمهاجرين هاته النعمة "الطازجة" ولم يتوقف هذا الشغف لدى عامة المهاجرين بل بلغ التجار منهم، إذ يأخذ بعضهم "سيديهات الديفيدي" الخاصة بالأفلام الجديدة القادمة من هوليوود والناطقة بالفرنسية التي تتم قرصنتها خصيصا لبعض الجزائريين، والدليل على ذلك أن أشهر الأفلام الأمريكيةالجديدة مثل "سجن بريك" بجزءيه متوفر حاليا في السوق الجزائرية بثمن لا يزيد عن 150 دج وهو لم يدخل بعد السوق الفرنسية، وإذا دخل في الخريف القادم فلن يقل سعره عن 30 أورو أي (3000دج)، كما أن "سيديهات" الألعاب لا تنزل أرقامها عن 50 أورو بينما يمكن توفيرها في الجزائر ب 200 دج للوحدة.. وكان المهاجرون إلى زمن غير بعيد يتنقلون إلى الأسواق الجزائرية بحثا عن الأغاني التراثية غير الموجودة في فرنسا والأفلام الجزائرية والعربية، ولكنهم الآن يحضرون إلى الجزائر لاقتناء الأفلام الفرنسية والأغاني الفرنسية بأسعار يمكن وصفها بالمدهشة، ومن أهم المقتنيات الكهرومنزلية "الخلاطات والروبوهات" وكل الأواني المنزلية المصنوعة في جنوب شرق آسيا. بروتوكولات دولية بعيدة عن القانون أفرزت هذه الحالة "التايوانية في عمومها" تجارا تايوانيين في الضفة الأخرى خاصة أصحاب الطاولات الليلية في نابولي وفي مارسيليا الذين يبيعون الماركات "المقلدة" الممنوعة في فرنسا ويتم استقدامها من الجزائر، إذ يقوم بعض التجار الجزائريين بأخذ العلامات العملاقة مثل "بربيري ولويس فيلتون" وينقلوها إلى تركيا أو جنوب آسيا لتعود مقلدة ومسجلة على حقائب النساء ومختلف الألبسة الرجالية والنسائية، فإذا كانت الحقيبة النسائية من نوع "بربيري" لا تنزل عن 200 أورو أي 2 مليون سنتيم، فإنها عندنا "مقلدة طبعا" دون 1500 دج وهي مقلدة بطريقة صينية أو تركية دقيقة، وكل أنواع الألبسة الرياضية والفاخرة تتعرض لذات العملية فليس مشكلة أن يرتدي الجزائري بدلات "بيار كاردان" و"أديداس" وبأثمان رخيسة وهي مقلدة في الوقت الذي يحلم فيه حتى أغنياء فرنسا بارتداء هاته الماركات التي هي ليست في متناول الجميع. هكذا تطير القطعة القماشية الفاخرة أو العطر النادر أو الساعة النفيسة من باريس ونيس في حقائب جزائرية لتصل إلى اسطنبول أو بكين أو مانيلا وتعود مستنسخة وبأسعار رخيسة لتغزو أسواقنا قبل عودتها إلى باريس ليقتنيها المهاجرون العرب والأفارقة وحتى الفرنسيين والأوروبيين.. وقد ظهر في المدة الأخيرة فيلم سنغالي أثار ضجة بفعل طرافته وقراءته المستقبلية لواقع السوق عندما قدم سيناريو مقلوب يتحدث عن فرنسيين يسافرون إلى الجزائر وبقية دول المغرب العربي لأجل اقتناء الألبسة والأثاث وحتى المواد التزينية والعطور والمأكولات وهي معادلة قابلة للتحقق، وقد بدأت الآن مع جيراننا التونسيين الذين أصبحوا الزبون الأول للأسواق الأسبوعية في الطارف وتبسة وسوق هراس ووادي سوف. مهاجرون في أسواق "الشيفون" لم يعد غريبا أن تلتقي مع عائلة جزائرية مهاجرة في فرنسا يرتدي كل أفرادها ألبسة تم اقتناؤها من أسواق جزائرية خاصة ألبسة الأطفال التي يوجد فيها التنوع ما بين صينية بأسعار مجهرية وسورية وإماراتية فيها الكثير من الجودة وسعر مقبول عموما، ولا يتردد البعض في زيارة أسواق "الشيفون" لأنها عكس ما هو موجود في فرنسا تتميز عندنا بكثرتها وتجعل الزبون قادرا على الاختيار، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن الزبون المهاجر يحمل عادة قائمة من المقتنيات التي يطلبها منه أصدقاؤه من المغاربة والأفارقة وبعض الفرنسيين، ومنظر المهاجر وهو يخرج ورقة طويل عريضة فيها قائمة من الأشياء المطلوبة أصبح عاديا.. وإذا كان شائعا في الثمانينيات والتسعينيات تجهيز العروس بألبسة وأغطية وعطور قادمة من فرنسا فإن الواقع يؤكد حاليا أن العروس المهاجرة يتم تجهيزها من الجزائر من الأفرشة إلى الأغطية إلى الزرابي إلى الألبسة الخارجية والداخلية، وهي سلعة قادمة من سوريا ومصر وتايلندا وباكستان والصين وتركيا، وانتهت بصفة نهائية حكاية العروس التي تقتني جهازها من محلات »تاتي ومارسيليا«، حتى المكسرات الضرورية لحفلات الأعراس مثل البندق واللوز والجوز والفوز السوداني أصبحت تطير عبر رحلة »الجزائر - فرنسا« بعد أن كانت تسافر في الرحلة المعاكسة، المهم أن الأمور انقلبت فعلا رأسا على عقب. أعراس في الجزائر.. والأورو في جمود يكلف الزواج في فرنسا الكثير من ميزانية مهاجرينا الذين صاروا يتنقلون إلى الجزائر لإقامة الولائم الفاخرة بأثمان بسيطة عبر اقتناء كل الضروريات والكماليات من الجزائر، ومع أن مقدرتهم على دفع مسلتزمات العرس من كراء قاعة الحفلات ومستحقات الفرقة التي تحيي العرس أحرج العائلات البسيطة عندنا، إلا أن عودتهم لإقامة الولائم في الجزائر حقق نتائج اجتماعية باهرة، فالمهاجرون قبل منتصف التسعينيات من القرن الماضي كانوا يتندرون بما يواجهون به في محالاتنا بكلمة »ما كانش« التي كانت الجواب المتكرر لدى تجارنا أمام طلبات المهاجرين أصبحوا الآن لا يسألون إن كانت السلعة موجودة أم لا، وإنما يطلبونها بفرح وبكميات كبيرة جدا، وبعد أن كانوا مقصد الجميع لانتزاع بعض العملة الصعبة التي بحوزتهم تحولوا إلى »دلالين« بها رغم أنها هذه الصائفة لم تنزل عن سعر المليون سنتيم لكل 100 أورو وهذا راجع إلى اقتراب شهر رمضان الذي تشد فيه الرحال إلى البقاع المقدسة لأداء مناسك العمرة، إضافة إلى تنقل أزيد من مليون جزائري إلى تونس للسياحة، وهذا ما جعل سعر »الأورو« يبقى جامدا أمام الطلاق الحاصل ما بين تجار الشنطة عندنا والسوق الفرنسية لعدة أسباب أهمها حكاية التأشيرة وبالخصوص ظهور أسواق آسيا وتركيا المسيلة للعاب التجار بفعل أثمان بضاعتها، أما عن قوافل المسافرين إلى مارسيليا التي كانت ميزة الجزائريين لأجل التسوق فقط في بداية الثمانينيات فقد ولّت من دون رجعة. يحلمون بالسيارات »الجزائرية« من الأسباب التي جعلت الفرنك الفرنسي يصل إلى سعر عشرة أضعاف الدينار في الثمانينيات (1000فرنك فرنسي ب 10 آلاف دينار جزائري) هو تنقل الجزائريين إلى فرنسا لاقتناء سياراتهم من وكالات البيع بالمدن الفرنسية، ولكن انفتاح السوق الجزائرية أدخل كل الماركات العالمية ومن جميع الدول، كما غزت الجزائر السيارات المركبة في غير دولها خاصة (رونو وبيجو)، وهو ما يجعل سيارة 306 و 307 بيجو أقل بكثير ثمنا مما هو موجود في فرنسا، وذات الملاحظة بالنسبة لسيارات رونو »كليو وكونغو« المركبة في تركيا، إذ أن ثمنها هو نصف ثمن ذات »الماركة« في السوق الفرنسية، ويحلم عدد من مهاجرينا بشراء سيارة من »ماركة« شهيرة من الجزائر، وحتى السيارات الكورية والصينية صارت تجلب اهتمام مهاجرينا الذين يطالبون أو على الأقل يتمنون قوانين لينة تسمح لهم بنقل السيارات الجديدة من الجزائر إلى فرنسا. بعض المهاجرين صاروا يحلمون بملء مساكنهم بأثاث يتم اقتناؤه من الجزائر ويرتدون لباسا من المتاجر الجزائرية ويركبون سيارات قادمة من الجزائر، ما صار يهم الكثير منهم هو العمل في فرنسا، حيث المرتبات منتفخة بالعملة الصعبة والتسوق من الجزائر حيث السلعة رخيسة جدا.. أحدهم قال إنه اشترى من باريس نظارة شمسية ب 100 أورو (مليون سنتيم) ووجد شبيها لها حتى أنه عجز عن التفريق بينهما في الجزائر ب 100دج فقط!! وهي ذات الملاحظة مع أجهزة الهاتف النقال والكمبيوتر المحمول والساعات اليدوية وسلع لها بداية وليس لها نهاية وخاصة أكسسوارات السيارات التي يعود بها إلى فرنسا المهاجرون الذين يحضرون إلى الجزائر عبر سياراتهم ويعودون بها عبر الباخرة. الطائرة تأتي.. والباخرة تعود هكذا انقلبت الصورة بشكل كلي، فالمهاجر الذي كان ينتظره أحبابه وينتظرون حقائبه المليئة بالأشياء الجميلة أصبح هو الذي ينتظر فرصة الصيف ليملأ هاته الحقائب بالأشياء الجميلة من الجزائر. المهاجرون صاروا يفضلون التنقل إلى قسنطينة وعنابة ووهران وتلمسان عبر الطائرة لأجل السرعة في الوصول إلى الوطن الأم خفيفين من دون حقائب ولكنهم يفضلون العودة عبر الباخرة من موانئ بجاية ووهران ومستغانم وسكيكدة والعاصمة وحتى موانئ تونس لأنهم محملون بالسلعة التي اقتنوها في أسواق الجزائر والتي تتضاعف من سنة إلى أخرى حتى أصبحت ظاهرة حقيقية وبدأت تشكل حرجا للجمارك الفرنسية التي لم تتعود على جزائريين يعودون من موطنهم بالحقائب المليئة بل المتخمة بالسلعة من كل الأشكال والألوان. وحتى عمال الجمارك عندنا صاروا يعملون في رحلة العودة إلى فرنسا أكثر من العمل في رحلة القدوم إلى الجزائر. أما المؤسف له أن هاته السلع المسافرة إلى فرنسا والتي تملأ حقائق مهاجرينا لا شيء فيها صنع في الجزائر أي made in Algeria!! ناصر