جاءت وزيرة الداخلية الفرنسية ميشال آليو ماري إلى الجزائر وقبل أن تعود إلى بلدها نبهتنا إلى أن التجمعات الإقليمية هي التي ستحكم العالم من الآن فصاعدا وضربت لنا أمثلة بالصين والهند وأمريكا اللاتينية، واللافت في كلام الوزيرة الفرنسية أنها جمعت ضفتي المتوسط تحت تسمية "نحن" رغم البحر وأشياء كثيرة أخرى تفصل بين الفريقين إلى حد الساعة لم نعرف شيئا عن تفاصيل الاتحاد من أجل المتوسط الذي سيعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن قيامه رسميا في شهر جويلية القادم، وكل ما تسرب إلى الآن هو أن مقر هذا الاتحاد سيكون في إحدى دول الجنوب وقد تسند الرئاسة إلى مصر في حين سيكون الأمين العام مغربيا، وهذه المعلومات التي لم تنفها وزيرة الداخلية الفرنسية في ندوتها الصحفية في الجزائر رغم أنها نصحت الصحافيين بأن يحذروا "الإشاعات"، بدأت تثير الحساسيات وقد تعطل المشروع برمته. ما نعرفه أيضا عن الاتحاد المتوسطي هو أنه يحظى بدعم دول المغرب العربي أو بمعظمها على الأقل، ففي كل البلدان التي زارها ساركوزي، وقد زار كل دول شمال إفريقيا، كان يحصل على موقف رسمي يدعم مشروعه الذي لم يعرف محتواه، ولعل تركيز أصحاب المشروع على الجوانب الشكلية مثل جعل المقر في إحدى دول الجنوب وتقاسم المناصب بين الضفتين يوحي بحرصهم على المظاهر السيادية لدول الضفة الجنوبية التي كثيرا ما كانت تشكو التهميش وعدم التكافؤ مع الطرف الأوروبي وحتى الاختلافات الجوهرية بخصوص القضايا الأمنية والاقتصادية والسياسية التي كانت تطرح طيلة عقد من الزمن في إطار ما سمي مسار برشلونة، بل إن وزيرة الداخلية الفرنسية ذهبت أبعد من ذلك بكثير عندما اعتبرت أن مصير الدول الأوروبية ودول الضفة الجنوبية للمتوسط واحد وأن اتحادهم ضروري لإحداث التوازن مع تكتلات عملاقة ذكرتها بالاسم وهي الصين والهند وأمريكا اللاتينية، ولعله من المفيد نقل ما قالته في ندوتها الصحفية " إن العالم أصبح محكوما من قبل التكتلات الجهوية التي تتشكل من أجل الدفاع بشكل أفضل عن المصالح الاقتصادية لأعضائها، أنظروا إلى الهند والصين وأمريكا اللاتينية التي تشكل كتلا ديموغرافية واقتصادية هائلة تعد مليارات من السكان، نحن أيضا على مستوى المتوسط في حاجة إلى سوق كبير". لا حاجة إلى اجتهاد لفهم مقاصد الوزيرة الفرنسية، فلا حديث عن الكتلة الأمريكية الشمالية ولا حديث عن أوروبا أو حتى عن المجموعة الآسيوية التي تضم قوى اقتصادية كبيرة، فالتركيز واضح على القوى الصاعدة على الساحة الاقتصادية وفي مقدمتها الصين والهند ثم أمريكا اللاتينية وهذه القوى هي التي تزعج الأوروبيين والأمريكيين معا، وبالنسبة لفرنسا التي تحتفظ بنفوذ كبير في إفريقيا فإنها مؤهلة لقيادة أوروبا لقطع الطريق أمام هذه القوى الصاعدة، فخلال شهر أفريل الماضي كانت قد انعقدت قمة الهند وإفريقيا في نيودلهي وقبلها كانت الصين قد أسست لسياسة مماثلة تضع إطارا دائما لحماية المصالح الصينية المتعاظمة في إفريقيا، وقد انزعج الفرنسيون بشكل واضح من هذه القمم ومن القمم التي تعقدها دول أمريكا اللاتينية التي تقودها البرازيل وفنزويلا والتي تميل إلى مزيد من التنسيق مع الأفارقة، وهذه الخلفية تجعلنا نفهم أكثر إيحاءات ميشال آليو ماري، أما الحديث عن سوق كبير فهو يؤكد الإلحاق بأوروبا باعتبار أن اقتصاديات دول جنوب المتوسط غير مؤهلة لخوض أي منافسة مع الدول الأوروبية، ومن هنا فإن ضمير "نحن" يعود بالكامل على الأوروبيين الذين هم في حاجة ماسة إلى سوق كبير يشمل كل دول جنوب المتوسط ويكون قابلا للتوسع لاحقا. هكذا يبدو الاتحاد المتوسطي كبديل سياسي واقتصادي تسعى من خلاله أوروبا إلى تحسين قدرتها على المنافسة على الساحة الدولية في مواجهة القوى الصاعدة أولا بعد التقارب مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والتوجه إلى التنسيق معها أكثر في إطار تصورات تقليدية عن الانسجام الحضاري الغربي تأخذ الآن أبعادا سياسية واقتصادية جديدة، ومن خلال هذا المشروع يراد لدول جنوب المتوسط أن تلحق بأوروبا قبل أن تصل إلى الارتباط بهذه القوى الصاعدة رغم أن العلاقة مع الصين والهند وأمريكا اللاتينية تبدو أكثر نفعا لدول الجنوب وتوفر لها هامشا واسعا للمناورة على الساحة الدولية. الآن أصبح واضحا أن الاعتراضات الألمانية على مشروع ساركوزي الذي طرح أول مرة تحت عنوان الاتحاد المتوسطي أخذت بالجدية المطلوبة حيث أحدثت تغيرا جوهريا في المشروع عندما حولته إلى جزء من السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي وجعلت جنوب المتوسط قاعدة إسناد لأوروبا التي قد تتعبها المنافسة الصينية والهندية والأمريكية اللاتينية سواء على الأسواق أو على المواد الأولية ومصادر الطاقة، وهذا يعيدنا إلى المربع الأول، فقد نشأ اتحاد المغرب العربي تحت نفس الضغوط وفي إطار تصورات مماثلة رغم أن أوروبا كانت تبحث آنذاك عن مكان لها كقوة عظمى بعد انهيار الثنائية القطبية، والآن لم تعد هناك حاجة لاتحاد قائم على أسس من التماثل اللغوي والتاريخي والديني بل المطلوب هو توسيع الهيكل الجديد ليضم أطرافا أخرى على رأسها إسرائيل في إطار دور أوروبي جديد في تصفية القضية الفلسطينية من خلال التطبيع بين العرب وإسرائيل، وحل المسألة التركية باقتراح إطار آخر للشراكة مع أنقرة بدل قبول طلبها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لقد أعاب الألمان، وتبعهم كثير من الأوروبيين، على ساركوزي توجهه إلى تبني سياسة خارجية قد تقسم الاتحاد الأوروبي وتجعل سياسته الخارجية منسجمة، لكن يبدو أن أصل المشكلة هو رفض الألمان وبقية الأوروبيين لانفراد فرنسا بمناطق نفوذ كبيرة يمكن أن تعطي باريس أكثر من حجمها داخل أوروبا وتجعلها مسيطرة على مصادر طاقة خطيرة وعلى أسواق واسعة جدا، ومن هنا جاء التعديل ليجعل الاتحاد من أجل المتوسط مشروعا في خدمة أوروبا دون تمييز بين دولة متوسطية وأخرى غير متوسطية. إن المطالب التي ترفعها أوروبا في وجهنا لم تتغير منذ قرابة 15 سنة على الأقل وهي تتعلق بالتعاون الأمني لمكافحة الإرهاب والسعي إلى التحكم في الهجرة السرية والضغط من أجل فتح الأسواق أمام السلع الأوروبية دون قيد أو شرط، وهذه المطالب بالذات هي التي حملتها ميشال آليو ماري تحت عناوين تبدو جديدة، والاتحاد المتوسطي الذي يجري تسويقه الآن لا يخرج عن الأهداف الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تسعى أوروبا إلى تحقيقها منذ سنوات، ولا أحد يعتقد أن آليو ماري كانت تهذي عندما قالت صراحة "إننا في حاجة إلى سوق كبير" و"إننا" هذه لا تعنينا في شيء مثلما يعنينا في شيء قطع الطريق على الصين والهند وأمريكا اللاتينية الذين خضعوا مثلنا للاستعمار الأوروبي.