صحفيو "فرانس 2" حاولوا إرشاء الشباب للحديث لا تزال تضم بين ملابس خزانتها قميص المجزرة، رائحة الدم اختفت.. لكن آثاره لا تزال تحكي وقائع سنوات الجمر .. بعد عشر سنوات عدنا للمنطقة من هنا مر رواد الليل.. قتلوا بالرصاص، ذبحوا الأطفال كما الشيوخ واغتصبوا الصبايا كما اختطفوا النساء .. اليوم عاد الأمن وأضحت المدينة لا تنام إلى ما بعد الواحدة ليلا .. غير أن كابوس الخوف لا يزال هاجسا يراود البعض منهم مثلما لا يزال حديد ''الباروداج'' يحاصر نوافذ الطابق الخامس من المنزل .. عقارب الساعة تقترب من الحادية عشرة، درجة الحرارة تفوق الثلاثين، بعد يومين من سقوط أمطار غزيرة قطعت طرقات بن طلحة، كانت الأنظار تلاحقنا الكل يعرف الآخر.. خطوات فقط فإذا بسيارة الشرطة تتبعنا ويطلب منا وثائقنا عرفنا أن أحد المواطنين أبلغهم بوجود غرباء ، وبعد إجراءات كان لا بد منها، رحنا نستطلح الحياة حيث قتلت الحياة يوما .. بن طلحة، الجيلالي، الرايس .. وذكريات الماضي كان صعبا علينا أن ننبش في رماد سنوات الجمر، وجدنا صعوبة كبيرة في أن نتحدث إلى من تجمعوا من حولنا، كلهم مجروح لا أحد استثني من المجزرة، حتى لو تعلق الأمر بهاجس نفسي يؤرق نومه، الكل كان يحاول أن يتكلم، منهم من وجه لنا انتقادا لاذعا بقوله'' أنتم الصحفيون حولتم بن طلحة إلى قبة إعلامية تزوروننا كل سنة، بالأمس جاء صحفيون فرنسيون منهم من حاول أن يدفع لنا مبالغ مالية بالعملة الصعبة حتى نتكلم .. '' بدا متأثرا جدا عرفنا فيما بعد أنه شاهد عيان على المجزرة، اقتربنا منه وتحدثنا معه عمره 27 سنة .. يحكي قائلا : كان عمري وقتها 17 عاما ولدت هنا في الجيلالي، الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق ليلا نسمع صوت قنبلة، ثم صوت رصاص ، ثم انقطعت الكهرباء ، بدأ الصراخ ... إنهم هم يقتربون .. (يصمت للحظات) ثم يضيف قائلا : وصل الجيش خرجت من البيت لم نكن ندري ماذا يحدث من حولنا منازل محروقة، جثث مذبوحة، صراخ النساء يملئ الطرقات، السماء، الأرض امتلأت جثثا، رائحة الدم انتشرت ... (طلبنا منه أن يتوقف عندما بدأت عيناه تمتلئ دموعا ) قبل أن يكمل كلامه .. تعالي معنا حتى ترين المكان الذي عثرت فيه على رأس زميلي خالد في الدراسة .. سمعنا الكثير من الروايات، تختلف معها المعاناة ولكن الجرح واحد .. رواد الليل قتلوا، ذبحوا، اغتصبوا واختطفوا مروا من هنا .. مئات القتلى اختطفوا جارتنا يقول أحدهم .. ''عمي م '' أصر أن نذهب معه إلى بيته حيث قتل ابنه مخلفا من ورائه طفلين أخذتهما زوجته إلى بيت أهلها في الحراش، بدأت الدموع تنهمر من عيناه.. تركنا بن طلحة بصعوبة كبيرة الكل كان يحاول جرنا إلى بيته إلى حيث كسروا عليه يوما هدوء ليلة الإثنين 22 سبتمبر 1997 ، لنعاود الرجوع إلى ''لاسيتي'' ، هنا كانت غابة ذبح فيها الكثيرين هي اليوم عبارة عن عمارات جميلة ، طرق معبدة .. دخلنا ''حي بدومي'' نظرات تتجه نحونا، يقول أحدهم '' ذهب الإرهاب وعاد الأمن .. لكن إرهاب الإدارة، التهميش ، الفقر لا يزال موجودا، صوروا الحقيقة ، أكتبي عن معاناتنا .. تركنا بن طلحة واتجهنا نحو الرايس هدوء ساخن كانت عقارب الساعة تقترب من الواحدة زوالا .. الرايس اليوم طوت صفحة الماضي لتفتح صفحات جديدة، سهر إلى ساعات متأخرة من الليل .. الليل الذي قيل لنا أن الأزقة المنسية تحولت إلى مكان لتعاطي المخدرات، كان أحدهم متكئ على حائط منهمكا في مكالمة هاتفية طالت دقائقها، توقفنا عند أحد الشباب سألناه عن الرايس عشر سنوات من بعد، يحكي ويقول وقتها كنت أعمل في الليل عدت صباحا لأكتشف المجزرة، قدماي لم تستطع حملي ترى هل أجد عائلتي بخبر .. ( يتوقف ، يصمت .. الرسالة وصلت مروا من بيته ) . 10 من بعد .. رائحة الإدمان وحلم '' الحرقة '' '' كارطونا في روما ولا قعدة في الحوما ..'' شعار كتب على واجهة قاعة ألعاب للفيديو إلى جانب كتابات حائطية منها الرومانسية، ومنها رسومات منحطة، يقولون أنها مكبوتات المصدومين نفسيا، لكن الحقيقة أن هذا المصدوم النفسي، شاب أدمن على المخدرات ومستعد لفعل أي شيئ، في بن طلحة قال لنا أحدهم أن عدد قليل من التلاميذ '' يصل إلى الجامعة '' كلهم يتهربون من الدراسة، منهم من وجد في المخدرات وسيلة للهروب، ومنهم من وجد في ''الحرقة'' حلما آخر، بن طلحة اليوم كلها طرق مقطوعة، جرارات وشاحنات البلدية التي بدأت عملها منذ شهر، وقنوات صرف المياه جددت اللحظة فيما شوارع أخرى لا تزال تنتظر منذ 20 عاما ، لا يزال هناك من السكان من ينتظر ملئ دلاء الماء ما بعد الساعة الواحدة ليلا، كل شيئ بدا وكأنه ورشة كبيرة مفتوحة على كل الجبهات، عمال قالوا لنا أنهم يحفرون الطرق لشبكات الغاز، وآخرون قالوا لنا أنها للماء، في بلدية الرايس توجد مدرستين فقط، وإكمالية واحد ، يضطر دائما التلاميذ للتنقل لثانويات سيدي موسى، دون توفير النقل المدرسي لهم، وتلاميذ بن طلحة ليسوا أكثر حضا من غيرهم توجد مدرستين وكلاهما محاصرتين بالأوحال والطين، فيما تبقى إكمالية بن طلحة الوحيدة على مستوى المنطقة. بن طلحة .. المدينة التي تحولت إلى ''قبة '' إعلامية تركنا بن طلحة وعرفنا أن القناة الفرنسية الثانية سبقتنا بيومين، جاء صحفيان اثنان، وقد أخبرنا بعض الشباب أنهم سألوا عن العمليات الإنتحارية التي جرت في دلس وباتنة، وما إذا كان يتردد على المكان جماعات إرهابية، وكشف مواطن آخر أن الصحفيين عرضا تقديم مبالغ باليورو مقابل التصوير والتكلم مع الضحايا، وهناك من رفض لكن أحدهم أخذهم إلى بيته ولا نعرف ماذا فعلوا هناك،.. هي إذن ذاكرة مواطني بن طلحة، الرايس اللتين تحولتا إلى أرشيف حي يستنطق متى يراد له ذلك لاسترجاع ذكريات سنوات الجمر،ولتنفيذ أغراض مشبوهة..أيضا ! روبورتاج: فضيلة مختاري