البليدة، أو "الوريدة" مثلما يحلو للكثير تسميتها، هي وردة كادت أن تذبل خلال العشرية السوداء لولا فضل ربي، وجهود الرجال.. هي منطقة عرفت الويلات، حاد الكثير من أبنائها عن الطريق فعاش سكانها فترة من الرعب والكوابيس لم تصورها حتى أفلام هوليوود.. "النهار" ارتأت العودة إلى أيام خلت، إلى أيام الدم والدموع، لتنقل للجيل الصاعد ما فعل الجيل السابق، وما ارتكب من مجازر ومازال يرتكب في حق إخوانه، حتى تكون العبرة لمن أراد الاعتبار، بكثير من الألم واللوعة وحرقة الفراق إلتقينا بمواطني أكثر منطقة عرفت ويلات الضربات الإجرامية للإرهاب، هي بلدية بوعرفة يقول أحد الأوائل من عناصر الدفاع الذاتي، عمر بن علال إن أكثر أبنائها كانوا ضمن الجماعات الإرهابية، في فترة لم تكن البلدية تملك حتى سرية للجيش أو الدرك أو الشرطة.. كنا ندخل إلى المنازل قبل آذان المغرب إن لم نقل آذان العصر، يقول عمي ربيعي، كانوا "حڤارين" قبل أن يلتحقوا بالجماعات الإرهابية لأنهم كانوا من الخارجين عن القانون، وزادت حدة قهرهم للمواطنين من أبناء منطقتهم بعد إلتحاقهم، عددهم خلال السنوات الأخيرة وصل إلى 50 إرهابيا، قضي على 30 منهم على أيدي قوات الأمن المشتركة من جيش وطني، درك وشرطة إلى جانب قوات الدفاع الذاتي، وتاب 9 آخرين في حين لا يعرف مصير البقية.. "جلبنا السلاح من وهران ووزعناه ليلا" سنة 1996 قررت الجماعات الإرهابية إبادة سكان المنطقة جماعيا، وتناهى إلى إسماع أبنائها ما تسعى إليه العناصر الإرهابية، وفي ليلة من ليالي شهر نوفمبر 1996 ، قررت العائلات الهروب إلى وسط المدينة، والتحقت بإكمالية بن قرقورة احمد، وهناك بدأ التفكير في ضرورة التسلح للمقاومة، لتكون بوعرفة آخر منطقة تتسلح بالولاية، وتعتبر الخلية الأولى من صنيع عمي نور الدين رحمه الله، الذي تمت تصفيته من قبل الجماعات الإرهابية لأنه كان لا يخافها ولا يحسب لها أي حساب - يقول عمي ربيعي -. ويحكي عمي ربيعي عن بداية التسلح وكأنه سيناريو لفيلم بوليسي، يقول "التقينا قائد المجموعة الولائية للدرك الوطني آنذاك عبد الحفيظ عبداوي، على الساعة العاشرة ليلا بمقر الاكمالية ..الاكمالية التي أحرقتها الجماعات الإرهابية في ال 6 ديسمبر 1993 لأنها كانت تعلم أبناء المنطقة وتوضح لهم معالم الحياة..، واتفقنا على جلب السلاح من وهران، قصدناها مختبئين بمدرعة للجيش رفقة قائد المجموعة، جلبنا السلاح ليلا ووزعناه على الراغبين في الحصول عليه، الأغلبية أخذوه في أكياس "خيشة" خوفا من وصول النبأ إلى العناصر الإرهابية التي كانت تترصد كل مواطن"... ومن المؤسسة وعبر طرق وعرة واصلنا السير رفقة المصور وعدد من المواطنين إلى منطقة القلعة، هي المنطقة التي استغرق الجيش سنة كاملة للوصول إليها رغم بعدها عن مقر المدينة ب 3 كيلومتر، المشكل في عدم بلوغها بسرعة كان كثرة عناصر الجماعات الإرهابية، يروي لنا "م.عبد القادر" ووجهه مقشعر وكأنه عاد 14 سنة إلى الوراء بعضا من الأيام السوداء التي عايشها رفقة أبناء منطقته خلال سنين الجمر، "في يوم من أيام شهر نوفمبر 1996، كانت الجماعات الإرهابية قد ارتكبت مجزرة في حق سكان منطقة سيدي الكبير، وانتقلت إلى بوعرفة لمواصلة مجازرها الدموية، كان عددهم 60 إرهابيا، كنا نترقبهم من بعيد، وننتظر إسدال الليل ستاره، لقد كانوا يضعون أغطية على رؤوسهم ويترصدون المواطنين ليلا، لذلك قررنا في تلك الليلة الهروب نهائيا وغادرنا المنقطة لمدة عشر سنوات حتى استتب الأمن، بعد أن دخل المنطقة عدد كبير من رجال الجيش، والدرك والشرطة".. الذراع الأيمن لعلي بلحاج طلّق العمل الإرهابي في بدايته وفي لقائنا مع السكان الذين عادوا إلى منازلهم بعد أن هجروها لمدة فاقت العشر سنوات، روى لنا "م.م" قصة مثيرة عن أحد أهم الأشخاص الذين كانوا يرغبون في تطليق العمل المسلح في بدايته، هو محمد بوكريشة الذراع الأيمن لعلي بلحاج، القيادي السابق في الحزب المحل، يقول "بعد إعلان الرئيس السابق اليامين زروال عن قانون الرحمة، قرر بوكريشة الهروب من الجماعة الإرهابية بعد أن تأكد أن ما كانت تروج له عبر الدين مجرد أوهام، وإلتحق بصهره هروبا من التصفية، غير أن الجماعات الإرهابية ترصدته وأخرجته من المنزل ثم قتلته ذبحا أمام الملأ.. لن أنسى ذلك اليوم مازال في بالي وكأنه حدث اليوم، لقد كان يترجاهم ليتركوه يعيش غير أنهم كانوا كالوحوش يضربونه ويحاولون تكميمه عن الكلام.. في تلك الليلة هربنا جميعا واستقرينا في المسجد، أتعلمين حتى المقبرة لم تنج من أفعالهم الدنيئة لقد أحرقوها كلية وكأنها ليست لإخوانهم"، اليوم وبعد مرور سنوات عن المجازر الإجرامية في تلك المنطقة الغابية التي تسودها الأحراش، عادت الحياة العادية وتدعمت بمشاريع جديدة جعلت الحياة تدب من جديد فقد تزود أصحابها بالماء الشروب، الغاز والكهرباء إلى جانب انطلاق ربطها بشبكة الطرق المؤدية إلى عاصمة الولاية، بعد أن حرموا منها بسبب مصاصي الدماء على حد تعبير سكان المنطقة". ذبحوا منظفة أرملة ثم ذبحوا ابنها واقفا على باب تركنا مواطني المنطقة وتوجهنا إلى أعالي بوعرفة المنطقة التي ذاقت الويلات وبالضبط إلى قاعة العلاج التي داهمتها الجماعات الإرهابية ليلا واستولت على كل معداتها، كان ذلك سنة 1995 يقول "الممرض جمال" الذي كان قد تزوج حديثا، "أرجوكم لا تذكروني بتلك الليلة لأنني سأبكي "حقروني" أخرجوني ليلا واداروني إلى الحائط.. دخلوا إلى القاعة وأخذوا كلما كان بها على ظهر البغال والحمير التي جلبها معهم.. يصفر وجهه وكأنه سيغمى عليه ثم يسكت ويطلب منا السكوت لأنه لا يستطيع المواصلة، سألناه إن كانت لديه رغبة في العودة للعمل بالمنطقة التي أصبحت الآن تأوي رجال الدفاع من الحرس البلدي فرد بالسلب، جمال كان لا يزال تحت تأثير الصدمة، لقد تساءلنا عن سبب سكوته الغامض وعدم تفوه بكلمة طيلة الوقت الذي كنا برفقته.. يشير إلينا عمي ربيعي وصديقه في الدفاع بضرورة المغادرة للتوجه إلى بيت أفقر فقيرة تم ذبحها بالمنطقة وبالتحديد بحي الكاليتوس، ركبنا السيارة وأخذنا الطريق إلى هناك، وصلنا إلى المكان فوجدنا مباني عالية وفيلات متنوعة على حواف الطريق، وعندما وصلنا إلى المكان المقصود نزلنا لنستسقي بعض المعلومات عن جرائم العناصر الإرهابية، وما كان من المواطنين الطيبين إلا الحديث وبإسهاب وكأنهم وجدوا الآذان الصاغية لإخراج ما بجعبتهم من الم، يقول "س.م" كانت بهذا المكان بالتحديد وفي بيت قصديري تقيم سيدة عمرها 48 سنة، أرملة وأم لطفل المسكينة كانت تعمل منظفة بالبلدية، وبما أنها كانت تسكن لوحدها قصدتها الجماعات الإرهابية ليلا وذبحتها دون شفقة ولا رحمة ثم استولت على كل ما لديها ثم أحرقت المنزل، ابنها وعندما رأى العناصر تنكل بجثة أمه فر هاربا غير أنهم لحقوه وذبحوه على الباب واقفا، الجيران كلهم فجعوا لما حدث له فالدماء كانت تملأ المكان وطلت الباب الذي ذبح عليه، إنهم مجرمون ولا يوجد في قلبهم أي رحمة"... بعد لحظات يصل عمي محفوظ ويدخل معنا في الحديث مباشرة "يا بنتي احنا استعمرونا زوج مرات فرنسا والإرهابيين، لكن اليوم الحمد لله استتب الأمن في المنطقة بفضل تكاثف جهود عناصر الأمن بمختلف وحداته من جيش درك وشرطة ومساعدة المواطنين".. ثم يضيف "بعد أن حملنا السلاح كنا نقوم بالتمشيط دوريا وفي يوم من الأيام تلقينا خبرا من امرأة يفيد بوجود جماعة إرهابية تتنقل بالمنطقة، وبالفعل تمكنا من القضاء على 4 إرهابيين بداخل كازمة، وبعد البحث عثرنا على شيخ مسن وعجوز في السبعينات مقتولين بطريقة بشعة ومرميين في البئر.. هي صور لن أنساها ما حييت.. عن أي دين يتحدثون وهم يقتلون النفس التي حرم الله.." قتلوا جدي بحديد دخل من ظهره إلى بطنه ثم نكلوا ب 13 فردا آخر من عائلتي واصلنا رحلتنا بين أدغال المنطقة لساعات طويلة، نال فيها منا الإرهاق، وزاد الألم فينا تأثيرا، وبين خضرة الأشجار وجمال المنطقة الخلابة المطلة على مدينة البليدة كنا نتوقف للحظات لنحدث المواطنين ونستذكر معهم ما حدث بالأمس، قصدنا عمي عبد القادر الذي فقد ابنه بعد اقل من 3 أشهر من إنهائه الخدمة الوطنية، استقبلنا بغضب متسائلا عن الهدف من فتح الجراح التي بدأت تندمل رويدا، فقلنا بأن الهدف هو تحذير من تسعى الجماعات الإرهابية للتغرير بهم، يبتسم ويعتذر ثم يقول وهو منكمش فوق كرسي أمام محل ابنه "أخذوه من هنا من أمام المنزل، كانوا من أبناء المنطقة يعرفونه حق المعرفة، المسكين كان صائما لم يرحموه أتمنى أن يتقبل الله منه صيامه وأن يأخذ بثأره ممن ظلموا ابني وأخذوه في ريعان شبابه، لم يكن عمره يتجاوز ال 21 سنة..." كنا نحاول أن نواسي عمي عبد القادر حتى التحق بنا شاب يبدو على محياه الألم والحسرة، انه "ر.عبد الغني" طلب من عمي عبد القادر النسيان وتسليم أمره لله عز وجل لأن ما عاشه هو لم يعرفه بشر، طلبنا منه أن يحدثنا عما عاشه وهو لا يزال في بداية الطريق، يصطحبنا إلى منزل جدته الذي عايش مجزرة مريبة في حق 14 شخصا، يقول "كانت جدتي مريضة وفي أول محرم وكباقي الأسر الجزائرية التقت الأخوات لدى جدتي لتناول العشاء، وفي ليلة 25 مارس 2001، تنقلت مجموعة مكونة من 20 فردا إلى بيت جدي، طرقوا الباب وفور فتحه من قبل جدي ضربوه بحديد على ظهره حتى خرج من بطنه، ثم دخلوا وقتلوا باقي العائلة رميا بالرصاص لم ينج منهم سوى فتاة كانت والدتها تحملها على صدرها والرصاص كان في ظهرها لقد أعطاها الله عمرا آخر... لم أزر المنزل منذ تلك الفترة، لأنني فقدت فيه أعز ما املك أمي وأختي الصغرى، ربي يأخذ فيهم الحق..... غادرنا المنطقة الحزينة، وعدنا أدراجنا وفي مخيلتنا صور مريعة عن أشخاص قتلوا ونهبوا باسم الدين..وهي شهادات حية لا تعد سوى قطرة في بحر من الجرائم.