جريمة حرب تخشى فرنسا كشفها حكاية 12 ألف جزائري جنّدتهم فرنسا لمواجهة الثورة السورية عام 1921م قصة مقبرة الجزائريينبدمشق المخفية عن عين التاريخ شاهد وحيد على المأساة يروي ل "الشروق" تفاصيل المأساة وثائق سورية تكشف عن بطولات وتضحيات الجزائريين جزائريون اختاروا الشهادة فحاصرهم الموت من كل مكان انتزعوا عنوة من أرضهم وديارهم وذويهم.. سيقوا مكبلين في طريق اللاعودة.. ذهبوا للدفاع عن فرنسا.. فوجدوا أنفسهم مجبرين للقتال على جميع الجبهات، لكنهم لم يتخيلوا للحظة أنهم منساقون إلى طريق موحش ومظلم يقاتلون فيه أشقاءهم في العروبة والدين. عذبوا.. شردوا.. أعدموا.. قتلوا دون رحمة.. فلم يبق من ذكراهم سوى لوحة مكتوب عليها »ماتوا من أجل فرنسا«.. جملة قصيرة حاول الجاني تكريمهم بها على طريقته، لكن الأرض التي دفنوا فيها والسبب الذي ماتوا من أجله.. جعلها مصدر لغتهم عبر الأجيال، ومبعث عذابهم في العالم الآخر.. وهناك.. بعيدا عن الأنظار وفي منآى عن يد التاريخ ووريت رفاتهم في مقبرة، دفنت فيها جريمة عمرها 90 عاما.. أما الأرواح التي أزهقت ظلما وعدوانا أبت أن تترك الجان يفر من العقاب، فصرخت حتى زلزل صوتها جدران السنين وعبر آلاف الأميال، ليكشف أخيرا عن واحدة من أبشع جرائم فرنسا الاستعمارية في حق الجزائريين. حكاية يعرفها الجميع إلا الجزائريين هناك.. بالعاصمة السورية دمشق.. وأثناء جلسة جمعتنا بشخصيات سياسية وعسكرية وفكرية، دار الحديث عن جرائم الاستعمار القديم والحديث في حق أمتنا، كنا نحاول الوقوف على أبعاد الخطة الجهنمية التي رسمها الأعداء من أجل إشعال حرب كبرى بين الشعوب والدول الإسلامية، لإضعافها والتهامها جميعا دفعة واحدة، وتلمسنا مدى حماسة واشنطن وتل أبيب لهذه الخطة بعد أن أتت ثمارها على أيدي أبناء الوطن الواحد في العراق وفلسطين. وأثناء تطرقنا للمحور المتعلق بالاستعمار القديم وقيامه بخطة مشابهة لتلك، فجر أحد المحاورين المفاجأة التي صعقتنا دون الآخرين، لقد تحدث عن آلاف الجزائريين الذين زجت بهم فرنسا لقتال السوريين وأهل الشام قبيل الاحتلال الفرنسي لهذه المنطقة العربية، الجميع كان يتابع الكلمات والحقائق والأرقام التي يذكرها الرجل بما يدل على معرفته التامة بتلك الحكاية، إلا أنها كانت المرة الأولى التي نسمع فيها عن أبناء الوطن قاتلوا مع فرنسا في جبهات عربية. المتوافر لدينا من معلومات حول استغلال فرنسا الاستعمارية للشعب الجزائري والمقاتلين الجزائريين يتعلق بجبهات القتال في الحربين العالميتين، ودوائر القتال في أوروبا أثناء تلك الفترة، وذلك بشهادة الفرنسيين أنفسهم، ومن واقع سجلاتهم التي تقول بأن أكثر من 600 ألف مسلم توافدوا إلى فرنسا للدفاع عنها، ضمن قرابة ال 09 ملايين جندي قاتلوا تحت الراية الفرنسية في أوروبا، وهو ما أكد على الدور العسكري الفاعل الذي لعبته المستعمرات الفرنسية التي شملت 12 مليون كيلومتر مربع من مساحة كوكب الأرض، وما يفوق ال 60 مليون شخص يعيشون عليها. ويعد رقم ال 600 ألف القادمين من شمال إفريقيا قليل بالمقارنة بالعدد الحقيقي الذي يتكتم عليه الأرشيف الفرنسي، إلا أن معظم هؤلاء انتزعوا من ديارهم بالجزائر، مضافا إليهم 120 ألفا آخرين، فباشروا العمل في مصانع الأسلحة والمجهود الحربي، الأمر الذي يشير إلى أن قرابة ال 400 ألف جزائري، أخذتهم فرنسا عنوة أثناء الحرب العالمية الأولى. ورغم أن جبهة التحرير الوطني اتهمت فرنسا في الخمسينات والستينات بأنها استخدمت الجزائريين في الصفوف الأمامية لتأمين الجنود الفرنسيين من الخطر، إلا أن أعداد القتلى الجزائريين المصرح بهم في هذه الحرب هي 23 ألفا، فإذا افترضنا أن هذا الرقم حقيقي، فأين اختفى الباقون، ولماذا لم يحدد مصيرهم حتى الآن. قتال حتى الموت كانت كلمات الخبير العسكري السوري مدعاة للبحث والتنقيب، فقضينا ليلتنا نلتمس دليلا يجعلنا نمسك بخيوط الحقيقة، فوقع في أيدينا مؤلف للباحث والمؤرخ »مارك ميشال« والذي أكد أن ما بين 300 إلى 400 ألف جزائري أخذوا من وطنهم الأم في الجزائر إلى فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، فيما عرف بموجات الهجرة الأولى، إلا أن معظم هذا العدد قتل أو فقد في حروب فرنسا داخل وخارج أوروبا، وأن أعدادا كبيرة منهم استخدمتهم فرنسا في حروبها حول العالم، وفي إخماد الثورات المناهضة لها، فكان هؤلاء محكوم عليهم بالقتال حتى الموت، وكانوا يشاركون في أكثر من حرب، فالطريق بالنسبة إليهم أصبح بلا عودة، بعد أن كانت أحلامهم العمل والتوطين والجنسية، بات جل همهم ألا يقتلوا في المعارك ونيل الحياة بأي شكل كان!!. الطريق إلى مقبرة الجزائريين على مدى يومين كاملين ونحن نحاول تجميع المعلومات الكافية عن أولئك الجزائريين المسنين، المعلومات شحيحة، ومصادرها العلمية والميدانية أشح، فكان لا بد من النبش عن الحقيقة من تحت الثرى. لم يكن الطريق إلى مقبرة الجزائريين صعبا.. فجميع أهل الشام يعرفون مكانها، إلا أنهم -للأسف- يجهلون حقيقة من دفنوا فيها، فالصورة التي تشكلت عبر السنين والأجيال مظللة بالعار، ولا يبرز كادرها سوى جزائريين يلبسون ثياب العدو ويحملون سلاحه، ويقاتلون في صفوفه ضد أشقائهم في العروبة والدين، صورة لا يتخيلها عقل، وحكاية لم يسبق وأن حدثت، لكن الفضل فيها يعود لفرنسا الاستعمارية التي حملت الأخ على قتال أخيه. تقع المقبرة في قرية تدعى »ضمير« التي تبعد عن دمشق بحوالي 50 كيلومترا، وبمجرد أن وصلنا إليها وجدنا لافتة كبيرة مكتوب عليها بالعربية والفرنسية »المقبرة العسكرية الفرنسية«، وأمام الباب مباشرة توجد لافتات أخرى تشير إلى مواعيد الزيارة، والتي تشترط إذنا مكتوبا من السفارة الفرنسية أو لمن يحملون الجنسية الفرنسية، وكلا الأمرين ليسا متوافرا لدينا إضافة إلى أننا وصلنا في وقت غير مخصص للزيارة، لم أستغرق وقتا طويلا في التفكير، بعد أن أدركنا بأن أية وسيلة من الوسائل التي اعتدنا اتباعها مع مثل هذه الحواجز لا تجدي نفعا أمام هذا الموقف فابتعدنا عن كاميرات المراقبة وتسلقنا أحد الأسوار، وقفزنا لقلب المقبرة، وعلى جل التقطنا الصور لعشرات القبور.. وفجأة شعرنا بيد غليظة تمسك بنا وتمتد اليد الأخرى محاولة نزع آلة التصوير. مغامرة على أعتاب القبور التفتنا لنجد مجموعة من العمال السوريين الذين كانوا يقومون بأعمال النظافة بالمقبرة، وصاح فيَّ أحدهم »من أنت؟ كيف دخلت؟ ماذا تفعل هنا؟«، استجمعت قواي وصحت عليهم بصوت أعلى: »وما دخلكم أنتم؟ أنا أقوم بعملي«، فهدأت حدة نبرة الرجل الذي يمسك بي، وحررني من يديه، قائلا: »هل أنت مسؤول في وزارة السياحة أو الإعلام؟«، فأجبته: »كلا.. أنا صحفي«، فبهت الرجل وقال والرعب يملأ قلبه: »ممنوع يا سيدي.. لو أمسكوا بك هنا لأوقعوك في مشاكل كبيرة، ممنوع دخول أي شخص هنا، وبالأخص الصحفيين، عليك أن تخرج فورا من حيث أتيت«، فقلت له بتوسل: »ولكني في حاجة لمعرفة حكاية أصحاب هذه القبور، وأريد مزيدا من الصور لها«، فرد الرجل بنبرة أكثر توسلا: »أرجوك يا بني.. لا تهلك نفسك وتهلكنا معك، هنا حراس لا يعرفون الرحمة، عليك أن تخرج قبل أن يعودوا«، قلت له: »ولماذا كل ذلك؟ ما السر الذي تدفنونه هنا؟«، فقال : »المسؤولون عن المقبرة تابعون للسفارة الفرنسية، ولا يسمحون لغير الفرنسيين وأهل الموتى بدخولها.. أنت تخالف القانون.. إذهب يا بني ولا تخبر أحدا بما دار بيني وبينك«، ابتسمت محاولا التهدئة من روع الرجل، قائلا: »لا تخف.. أنت تهول من الأمر، فقط أطلب منك أن تلتقط لي بعض الصور مع هذه القبور«، فوافق الرجل على مضض، وفي غفلة منه التقطت عددا من الصور الأخرى وقبل أن أخرج سألته عما إذا كان هناك جزائريون يأتون للمكان، كنت أوجه له السؤال وأنا يائس من الإجابة، كانت محاولة، إلا أنها أثمرت حينما قال الرجل »يوجد جزائري مقيم في قلب القرية المجاورة، يأتي بين الحين والآخر لزيارة ذويه هنا«. 2000 جزائري مدفونون في المقبرة الفرنسية بمجرد أن خرجت من المقبرة وتلك الصور النادرة بحوزتي، شعرت أنني قطعت أول خطوة في هذا الملف الشائك، فقد أحصيت ما يقارب الألفي قبر، جميعها تحمل أسماء جزائرية، وبمحاذاتها توجد عشرات القبور الأخرى التي دق فوقها الصليب، يحمل أصحابها أسماء فرنسية، وبينهما توجد لوحة رخامية كبيرة توضح تاريخ سقوط القتلى، أما أبرز ما شاهدته العين هو تلك اللوحة الموضوعة فوق قبور الجزائريين والمكتوب عليها بالفرنسية »ماتوا من أجل فرنسا«!! وانتابني شعور ملح بأن الوصول لذلك الجزائري الذي أخبرت عنه، أهم مرحلة في هذا التحقيق. وما هي إلا 05 كيلومترات حتى وصلت لقلب قرية »ضمير« قادما من المقبرة التي تقع في أطراف القرية، وأخذت أسأل عن الجزائري الوحيد الذي يقطن القرية والذي لا أعرف اسمه، فوجدت كل الناس يعرفونه، وتطوع أحدهم ليوصلني إلى منزله، فوجدته منزلا متواضعا مثل بقية منازل القرية، لكن صاحبه الذي فتح لي الباب يحمل شخصية ذات مهابة وإجلال، وبمجرد أن عرفته بنفسي رحب بي، ولم يترك لي الفرصة للحديث من فرط سؤاله عن الجزائر.. وأخيرا قال لي: »أنا جزائري الأب والأجداد.. لكني لم أزر الجزائر مرة واحدة، فقد ولدت هنا، ومثلما دفن أبي وأعمامي الثلاثة، أشعر أنني أيضا سأموت وأدفن هنا.. لكن ليت القدر يمنحني فرصة لرؤية الجزائر قبل الموت«. شاهد وحيد على المأساة إنه الحاج »زياد نور الدين« الذي يبلغ من العمر 56 عاما والذي أخذ يروي لنا قائلا: »أنا وأشقائي وأبنائي، وجدنا من يعرف تفاصيل هذه الحكاية، فقد أوصانا والدنا -ر حمه الله- والذي كان أحد ضحايا هذه الجريمة أن نظل نتذكرها ونلقنها لأولادنا جيلا بعد جيل، ورغم أن أحدا لم يسمعنا حتى اليوم، إلا أننا أبدا لم نفقد الأمل في رد الاعتبار لأولئك الأبرياء الذين ارتكبت فرنسا بحقهم أبشع الجرائم. يواصل الحاج زياد حديثه »أنا الابن الأصغر لواحد ممن أحضرتهم فرنسا بالقوة من أجل احتلال هذه الأرض، كان ذلك في عام 1920 أي قبل ميلادي ب 31 عاما، كان عمر والدي آنذاك 18 عاما، وأخذته فرنسا رفقة أشقائه الثلاثة بالقوة من منزلهم بولاية تلمسان، وهو طفل لم يتجاوز ال 14 من عمره، وتركت الأم تبكي على أولادها الأربعة الذين ذهبوا للمجهول دون عودة، ولم يمر سوى عام ونصف على انتهاء الحرب، حتى وجد أبي وأعمامي أنفسهم يحملون سلاحهم مرة أخرى، ويركبون البحر إلى جهة غير معلومة. جزائريون وجها لوجه يضيف الحاج زياد: كان أبي يروي لنا قصة هذه الرحلة الغامضة في اليوم أكثر من مرة، فعبر عن هول المشاعر السيئة التي عاشها رفقة 12 ألف جزائري شكلوا معظم القوات الفرنسية في تلك الحملة وأن القادة الفرنسيين كانوا يخبرونهم بأنهم ذاهبون لمحاربة الأتراك والبريطانيين »أعداء فرنسا والمسلمين« ولم يتوقعوا أنهم ذاهبون لقتال أشقائهم السوريين، ويقول والدي -الكلام للحاج زياد- وصلنا للشواطئ السورية ونحن لا نعرف في أي أرض نحط، فخرج لنا الثوار فالتحمنا معهم في معارك طاحنة قتلوا منا وقتلنا منهم الكثير، دون أن يعرف كلانا أننا أشقاء. مرت عشرة أيام كاملة حتى عرفنا أننا في بلد عربي اسمه سوريا وأن من قاتلناهم هم إخوتنا في العروبة والإسلام، ليس هذا فحسب، بل كنا نقاتل سوريين من أصول جزائرية وهم أحفاد الأمير عبد القادر ورفاقه الذين نفتهم فرنسا لسوريا. البطولة والعصيان في مواجهة التعذيب والإعدام يقول الحاج زياد: »كان والدي يخبرنا بأن معظم الجنود والضباط الجزائريين أصيبوا بصدمة عنيفة حينما عرفوا الحقيقة المرة، وهنا بدأت الأدوار البطولية لأبناء الشعب الجزائري الأصيل، فقد كانت فرنسا تتعمد وضع الجزائريين في مقدمة الصفوف حتى يتلقوا الضربات الأولى في الاشتباك مع الثوار السوريين، بل إنها -أي فرنسا- كانت تلقي بالجزائريين كطعم للكشف عن أماكن اختباء وكمائن السوريين، وفي كل الحالات كانت تسقط أعداد كبيرة من القتلى في صفوفنا، في حين ظل الجنود الفرنسيون في مأمن معظم أيام الحرب، تماما مثلما كان يحدث في معارك الحرب العالمية، وفي نفس الوقت كان يسقط من الطرف السوري قتلى، ودون اتفاق مسبق أو خطة مبرمجة بدأ الجنود الجزائريون ينكسون سلاحهم ويتظاهرون بأنهم يقاتلون، في حين أنهم أبعدوا فوهات بنادقهم عن أشقائهم السوريين، فقد حسموا أمرهم في قلوبهم، اختاروا الموت عن قتال إخوتهم في الدين«. ويضيف الحاج زياد: »والدي أكد لي أن أعداد وعتاد المهاجمين كانت أكبر وأقوى من نظيرتيها عند السوريين، ورغم ذلك نجح الجزائريون في شق صفوف الفرنسيين، وإحداث التوتر، وفتح الثغرات، حتى يمكنوا السوريين من اختراق الخطوط الفرنسية، وهو ما تحقق في أكثر من معركة وتسبب في وقوع خسائر كبيرة في صفوف الفرنسيين، وهكذا استمر جهاد هؤلاء الأبطال يتشكل ويتلون، حتى أنهم كانوا يدفنون ذخيرتهم وأسلحتهم في التراب، ويتركون فوقها علامات تدل الثوار السوريين على أماكنها، فكانت هذه الذخيرة عونا للثوار على مواصلة القتال«. ويواصل الحاج زياد قائلا: »كان الجزائريون يتركون بعض مقتنياتهم في طريق انسحابهم حتى يدلوا السوريين على خط سير الفرنسيين، ثم بدأوا يهربون من الصفوف تباعا، ويسلمون أنفسهم للسوريين، بل ويحملون معهم السلاح لمقاتلة القوات الغازية، وكان والدي أحد هؤلاء. الأسرة المنكوبة روى لنا والدي -الكلام للحاج زياد- أن الفرنسيين بدأوا يكتشفون جهاد الجزائريين ضدهم، فأعدموا الكثيرين منهم رميا بالرصاص، وكانوا يدفعون بالأحياء منهم في مرمى نيران الثوار، فقتلوا الكثيرين أيضا بتلك الطريقة البشعة، وكان أعمامي الثلاثة ضمن الضحايا، أما أبي الذي فر من قبل -يقول الحاج زياد- فقد حكم عليه الفرنسيون بالإعدام غيابيا بتهمة الخيانة العظمى، فوفر له السوريون الحماية طيلة سنوات الاحتلال، وظل يقاتل رفقة الثوار في العمل الوطني حتى الاستقلال، لكن دموعه لم تجف يوما على أشقائه الشهداء، وكانت الطامة الكبرى حين عرف من بعد أن جميع أفراد الأسرة بالجزائر تعرضوا لعمليات إبادة وحشية على يد نفس الاستعمار، فعاش وحيدا غريبا، حتى تزوج من امرأة سورية أنجب منها 13 رجلا وامرأة، أنا أصغرهم، فبقي من بقي في سوريا، وهاجر من هاجر إلى كندا وأستراليا وأمريكا الجنوبية، في حين بقيت أنا هنا حتى لا تضيع ذكرى عائلتي المعذبة والمشردة. أدلة تحت ركام التاريخ كانت كلمات الحاج زياد نور الدين مؤثرة ومؤلمة حد إخراج الدموع الساكنة في محاجرها، وفي طريق عودتي من قرية »ضمير« إلى قلب العاصمة دمشق، رمقت المقبرة بنظرة عابرة من نافذة السيارة، فكأن أصواتا تخرج من القبور كاسرة حاجز الصمت المخيم على المكان قائلة: »لم نمت من أجل فرنسا، بل قتلتنا فرنسا«. قضيت بقية اليوم مستغرق التفكير فيما رأيت وسمعت، كنت أشعر أن هناك مزيدا من الأسرار تخفيها هذه المأساة، لكن أين الحقيقة؟! فهداني تفكيري أخيرا بالتوجه إلى مقر الأرشيف الوطني السوري، وفي اليوم الموالي وجدت نفسي في القسم الخاص بالغزو الفرنسي لسوريا، آلاف الصحف والوثائق والكتب، تكدست منذ عشرات السنين فوق الرفوف، في منظر يصيب أي باحث عن معلومة باليأس، لكن اليأس أو التعب في نظري لم يكونا يساويان شيئا أمام هول تلك الجريمة، فقررت البحث بين ركام التاريخ عن الحقيقة. قضيت ثمانية أيام كاملة بين الأوراق أبحث عن فقرة أو جملة تقودني إلى حكاية المقاتلين الجزائريين الذين قتلوا أو فقدوا خلال هذه الحرب، وأخيرا وجدت ضالتي عبر عديد الشهادات للثوار الذين شاركوا في صد الغزاة، وإصدارات صحفية تحمل من المعلومات ما جعلنا نمسك بخيوط الحكاية. معركة ميسلون.. بحر من دماء الجزائريين في مذكرات »حسن تحسين باشا« قائد الفرقة السورية التي كانت مكلفة بمواجهة الغزاة الفرنسيين والدفاع عن دمشق، يتحدث الكاتب في صفحات طويلة عن معركة »ميسلون« التي وقعت في 24 جويلية 1920، ولم تخل تلك المذكرات من الحديث من المقاتلين الجزائريين... فيقول: »وصلت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غوابيه إلى الموقع المسمى بأم الشراطيط وعقبة الطين في ميسلون، وكانت أعدادها تفوق ال 16 ألف جندي ترافقها المدفعية والدبابات والطائرات، وكانت خطتنا تقضي بتطويق هذه القوات والقضاء عليها أو حصارها وفصلها عن خطوط إمدادات العدو، وبمجرد أن سقط الغزاة في الفخ، أطلق الثوار قذائف المدفعية بكثافة من كل الاتجاهات، فوقع الهرج والمرج في صفوف العدو، الأمر الذي أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى، حتى طائرات العدو اضطرت للانسحاب بعد توجيهنا النيران إليها بكثافة، وفي النهاية كسبنا المعركة وفر الفرنسيون كالفئران، وبعد أن سيطرنا على المكان سيطرة كاملة، أخذنا ندفن شهداءنا ونسعف جرحانا ونجمع الغنائم التي خلفها العدو، فقد خسرنا في هذه المعركة 50 شهيدا، بينما سقط من العدو 3118 قتيلا، أما المفاجأة التي أذهلتنا أن معظم القتلي كانوا جزائريين مسلمين، ومثل ذلك مشكلة كبيرة بالنسبة لنا، فلم ندفنهم في مقبرة جماعية، بل خصصنا لكل قتيل قبرا يضم الرفاة والوثائق الشخصية التي تدل على صاحبها مع وضع علامة خشبية فوق القبر مكتوب عليها اسم صاحبها، فاستغرقت هذه العملية الشاقة ثلاثة أيام كاملة، تمكن فيها العدو من إعادة تنظيم صفوفه ومهاجمة مواقع أخرى، للثوار، في حين لم تكف طائراته عن الإغارة علينا في تلك الأيام... معركة جبل الزاوية.. بطولات وتضحيات في وثيقة أخرى يعود تاريخها إلى عام 1937 يرد الحديث عن معركة »جبل الزاوية« التي وقعت في مارس من عام 1921، والتي شهدت تضحيات وبطولات نادرة للمقاتلين الجزائريين. تقول الوثيقة: »جهز الغزاة الفرنسيون حملة قوامها سبعة آلاف مقاتل، ووجهوها إلى قرية أورم الجوز بجبل الزاوية، وفي تلك الفترة انضم عدد كبير من المقاتلين الجزائريين الفارين من صفوف الغزاة إلى صفوف الثوار، فلعبوا دورا تاريخيا في تحييد زملائهم في صفوف العدو عن التقال، ولأن معظم جنود الحملة كانوا من الجزائريين، فقد اختل ميزان المعركة لصالح الثوار، واشتكت القوات المتحاربة في معركة ضاربة كتب فيها النصر للثوار، وفر الغزاة مذعورين...« وفي فقرات أخرى من الوثيقة، تحدثت عن تضحيات الجزائريين، وجرائم الفرنسيين وتنكيلهم بهم، فتقول: »الغزاة الفرنسيون كانت قلوبهم لا تعرف الرحمة، فارتكبوا جملة من الجرائم في حق الثوار...، حتى الجنود الأفارقة الذين كانوا يقاتلون في الصفوف الفرنسية لم يسلموا من ذلك الإجرام، فدفع الجزائريين ثمنا باهظا ومؤلما للعقيدة الدموية الراسخة، في عقول الغزاة، وبدءا من الأيام الأولى للغزو وطوال سنوات الاحتلال، نفذ هذا الأخير عمليات إبادة وحشية في حق الجزائريين الذين كانوا يمثلون القوة الضاربة في صفوف الغزاة، كانوا يمثلون أكثر من ثلثي القوات الفرنسية، وبلغت أعدادهم 12 ألف مقال، فقتل منهم الكثيرون على يد الثوار بسبب دفع الجيش الفرنسي بهم في مقدمة الصفوف بشكل مكشوف وبصورة كانت توحي بأن قيادتهم تضحي بهم مجانا، وعندما كشف الفرنسيون جهادهم ومساعدتهم للثوار بدأوا ينفذون في حقهم إعدامات لم تتوقف حتى صفت جسديا الآلاف منهم، حتى في عمليات الدفن فقد كانت عنصرية ووحشية، حيث كان يدفن الفرنسيون في قبور منفردة وواضحة، في حين كان الجزائريون يدفنون في مقابر جماعية مجهولة...«. دفن أسرار الجريمة تتحدث وثائق أخرى عن »المقبرة العسكرية الفرنسية« ورغم تعدد هذه الوثائق وتنوع تواريخها بين الحداثة والقدم، إلا أن جميعها ركزت على نقاط مشتركة، أهمها هوية المدفونين بها، والبالغ عددهم ثلاثة آلاف، حيث حددت ألفا قبر للمقاتلين الجزائريين، بأسمائهم وتواريخ وأماكن سقوطهم، وكذلك الحال بالنسبة ل 500 قبر آخر لجنود سنغاليين و500 لجنود وضباط فرنسيين. وتقول المعلومات الواردة في تلك الوثائق إن الحكومة السورية جمعت رفات كل القتلى الذين حددت قبور واضحة لهم أثناء الغزو الفرنسي لسوريا في بداية العشرينيات من القرن الماضي، في عملية شملت جميع أرجاء التراب السوري بعد أن تم إنشاء المقبرة في أطراف العاصمة السورية، لتسهيل الزيارة على ذويهم، إلا أن هناك العديد من المقابر الجماعية التي تم اكتشافها في أماكن متعددة تحوي رفات جنود أفارقة لم يستدل على هويتهم، والغالب أنهم قتلوا ودفنوا بتلك الطريقة على أيدي الفرنسيين أنفسهم، فلم يرتكب الثوار هذا الفعل طوال أيام الحرب، والواضح أيضا أن تلك المقابر ألقي بها الجنود الأفارقة الذين أعدمتهم فرنسا في سوريا لأسباب عسكرية، بينما يعود الفضل في اكتشاف قبور الجزائريين والسينغاليين البالغ عددهم 2500 قبر، إلى إنسانية الثوار في تعاملهم مع قتلى أعدائهم الغزاة. أما النقطة الهامة الثانية التي ركزت عليها وثائق الأرشيف السوري، فهي المتعلقة بالصراعات السياسية بين سوريا وفرنسا بسبب تلك المقبرة، ففرنسا تريد نقل محتوياتها للتراب الفرنسي، وعرضت في سبيل ذلك عروضا مغرية لسوريا، في حين أن الأخيرة ترفض بشكل قاطع هذه العروض، لأسباب أسمتها فرنسا ب »غير المبررة« وفي ذات السياق تقول جريدة »تشرين« الصادرة في يوم 26 جويلية 1983 »إن فرنسا تريد طي ملف هزيمتها في سوريا أثناء غزوها الغاشم، من خلال سحب رفات جنودها، الذين تشهد قبورهم على نضال وجهاد أبناء هذا الوطن ضد الغزاة والمستعمرين، لكن الحكومة السورية بقرارها الرشيد انتصرت مرة أخرى على الأفكار الاستعمارية، وأثبتت للعالم أن سوريا مقبرة الغزاة. بينما كان لجريدة »الثورة« الصادرة في نفس التاريخ رأي آخر في القضية التي أثيرت في ذلك الوقت، حيث قالت: »فرنسا تصر على نقل قبور جنودها بصورة تثير الشك، وليس معقولا أنها تريد تكريمهم أو إنشاء نصب تذكاري لهم، ففي كل جزء من الأراضي التي كانت تحتلها فرنسا توجد قبور لجنودها، الأمر الذي يؤكد الرغبة الملحة لدى الفرنسيين في دفن أسرار هذه المرحلة الزمنية التي شهدت أفظع جرائم الاستعمار في حق أبناء البلاد، وفي حق أبناء الدرجة الثانية في صفوف الجيش الفرنسي، وفي مقدمتهم الجزائريين الذين أحيروا على القتال والموت في سوريا...«. الحلقة المفقودة العديد من الأسئلة المحيرة تطرح نفسها بإلحاح ونحن نختتم التحقيق في هذه الجريمة، في مقدمتها الحالة النفسية والمعاناة التي لحقت بالمقاتلين الجزائريين بعدما اكتشفوا خداع فرنسا لهم، وزجهم لقتال أشقائهم، والحالة الإنسانية الصعبة التي عايشوها، بعدما تأكدوا أن الموت هو مصيرهم المحتوم، إما أثناء المواجهات التي فتحوا فيها صدورهم للثوار، وإما تحت مقصلة الفرنسي الذي لا يرحم. وإذا كان هذا الحال بالنسبة للقتلى الذين ثبت موتهم، فما هو مصير الآلاف من المفقودين؟ هل تمت تصفيتهم جميعا؟ أم أنهم أحياء ولكنهم في علم الغيب؟! وبالطبع لا يملك الإجابة عن تلك الأسئلة إلا فرنسا نفسها، فهي وحدها التي تملك وتتكتم عن تلك الحلقة المفقودة، فأصحاب الشأن والمعنيون بالقضية كانوا في تلك الفترة قابعين تحت سيطرة الاحتلال، وحتى بعد الاستقلال لم يكن من السهل بالنسبة للجزائر معرفة الحقيقة، وفي حين أن خيوط الجريمة نسجت في بلد ثالث، وهي سوريا، فإن هذه الأخيرة وبما توفره الأدلة الموجودة لديها، لا تستطيع هي الأخرى الوقوف على تفاصيل الجريمة، هذه الأخيرة التي لن يتخلى الغموض التام عنها إلا من خلال الاطلاع على الأرشيف الفرنسي. جريمة لن تموت حينما وقف الرئيس الفرنسي السابق »جاك شيراك« أمام نصب تذكاري أقيم في ساحة معركة فردان، تكريما لعشرات الآلاف من الجزائريين الذين دفعوا حياتهم ثمنا لحرية فرنسا، لم نتوقع أن يصير الفرنسيون على عدم الاعتذار للشعب الجزائري عن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية أثناء ثورة التحرير، لكن هل يملك الفرنسيون الجرأة على التنصل من جريمتهم في حق الجزائريين بسوريا؟!. حسب القانون الدولي.. فإن جرائم الحرب لا تموت، وعندما نتحدث عن جريمة حرب لا نضع العدد أو الخسائر في الحسبان، فتلك الجرائم تقاس بحجم وبشاعة الجرم، ورغم أن عدد الضحايا الجزائريين في سوريا لا يضاهى شيئا أمام نظيره في ثورة التحرير، إلا أن الجريمة الأولى تفوق الثانية بكل المقاييس الإنسانية، فمن قاتل على أرض الجزائر كان ينشد إحدى الحسنيين (النصر أو الشهادة)، فما بال من قاتل دون هدف وسلبت منه حياته بطريقة لم يسبق لها مثل؟! وإذا كان القتال ضد أعداء فرنسا مفروضا على الشعوب المستعمرة من قبلها، فكيف تقتل فرنسا من يدافعون عنها في قلب المعارك، وتوجه لهم تهم الخيانة بالرغم من عدم حملهم للجنسية الفرنسية التي وعدتهم بها؟! إن دماء هؤلاء الأبرياء ستظل ساخنة وإن طال الدهر، وأرواحهم ستبقى معذبة وحكايتهم في طي النسيان.. إنها دماء لا تخص ذويهم فقط، بل تخص كرامة أمة بأكملها. مراسل "الشروق": وليد عرفات