الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    جبهة المستقبل تحذّر من تكالب متزايد ومتواصل:"أبواق التاريخ الأليم لفرنسا يحاولون المساس بتاريخ وحاضر الجزائر"    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    المحترف للتزييف وقع في شر أعماله : مسرحية فرنسية شريرة… وصنصال دمية مناسبة    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    مذكرات اعتقال مسؤولين صهاينة: هيومن رايتس ووتش تدعو المجتمع الدولي إلى دعم المحكمة الجنائية الدولية    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    قرار الجنائية الدولية سيعزل نتنياهو وغالانت دوليا    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي محمد إسماعين    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    تعزيز روح المبادرة لدى الشباب لتجسيد مشاريع استثمارية    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    بورصة الجزائر : إطلاق بوابة الكترونية ونافذة للسوق المالي في الجزائر    إلغاء رحلتين نحو باريس    البُنّ متوفر بكمّيات كافية.. وبالسعر المسقّف    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    المغرب: لوبي الفساد يتجه نحو تسييج المجتمع بالخوف ويسعى لفرض الامر الواقع    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    الشباب يهزم المولودية    سباق الأبطال البليدة-الشريعة: مشاركة أكثر من 600 متسابق من 27 ولاية ومن دول اجنبية    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    العدوان الصهيوني: الأوضاع الإنسانية في غزة تزداد سوء والكارثة تجاوزت التوقعات    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



'الشروق' تدخل مملكة زنوبيا وقلعة صلاح الدين
نشر في الشروق اليومي يوم 14 - 11 - 2007


العائد من سورية: جمال لعلامي
من دمشق إلى بصرى وجبلة وحمص وحماه واللاذقية وحلب وتدمر، دخلت "الشروق" بلاد الشام، فعادت على متن قطار التاريخ والحضارة، إلى زمن صلاح الدين الأيوبي والملكة زنوبيا وعصر الأمويين والفتوحات الإسلامية وإنهزامات الصليبيين والإفرنجة وكذا بناء حضارة العرب والمسلمين.
على متن طائرة الأربيس 353 التابعة للخطوط الجوية السورية، إنطلقت رحلة محاكاة التاريخ والحضارة العربية والإسلامية، وكانت البداية يوم 22 أكتوبر الأخير، حيث كانت وجهتنا الأولى العاصمة السورية، دمشق، أو عاصمة بلاد الشام، وقد إنطلقت الرحلة على الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، بتوقيت الجزائر،(الثالثة صباحا بتوقيت سوريا)، وبعد أربعة ساعات في الجو، حطت الطائرة بمطار دمشق الدولي، أين كانت المدينة تفتح عينيها من على سرير الحضارة، فكانت البداية.
طريق الحرير..الجنة من هون
بدعوة من وزارة السياحة السورية، رحلت "الشروق" لإكتشاف هذا الجسر التاريخي الذي ربط بين الشرق والغرب وشكل محورا للتفاعلات التجارية والثقافية والإنسانية والحضارية والدينية والعلمية، وكان مهرجان طريق الحرير سيمفونية رائعة تجمع بين الإبداع والإبتكار، وبين الثقافة والترفيه، وبين الصداقة والفرح، وبين الماضي والحاضر..تجسيدا لحلم رائع ومشهدا بديعا ترتدي فيه سورية ثياب الأصالة مزينة بأروع وأشهى الألوان لإحياء لحظات لا تنسى.
من طريق الحرير تبدأ القوافل التجارية رحلتها المكوكية على الطريق القديم والعريق، من أقصى آسيا في الشرق ومن أقصى أوروبا في الغرب إلى سورية، قاطعة على المسارين ما يصل إلى أكثر من 12 ألف كيلومتر، حاملة معها كل جميل ومبتكر ونفيس من الصناعات اليدوية والنسيجية والمعدنية والتوابل.
ومنذ العام 2002، أضحى طريق الحرير مهرجانا أخذ صيغة التقليد السنوي الذي تقيمه وزارة السياحة السورية، وتجسد فيه عبر فعاليات مختلفة مشاهد تاريخية من إستقبال قوافل الحرير في مدينة تدمر، زمن حكم ملكتها زنوبيا، التي أولت التجارة إهتماما ورعاية تعكس مكانة المدينة-المملكة-كمركز مهم على طريق الحرير، يضمن تحرك القوافل ويحميها من مخاطر اللصوص وقطاع الطرق.
طريق الحرير هو مجموعة من الطرق المترابطة، كانت تسلكها القوافل والسفن، وتمر عبر جنوب آسيا، رابطة تشان-التي كانت تعرف بتشانغ آن-في الصين، مع أنطاكية في سورية، بالإضافة إلى مواقع أخرى، كان تأثيرها يمتد حتى كوريا واليابان، وكان لطريق الحرير تأثير كبير على إزدهار كثير من الحضارات القديمة كالحضارة المصرية والصينية والهندية والرومانية التي أرست القواعد للعصر الحديث.
يمتد طريق الحرير من المراكز التجارية في شمال الصين، وينقسم إلى فرعين شمالي وجنوبي، يمر الأول من منطقة بلغار-كيبتشاك وعبر شرق أوروبا وشبه جزيرة القرم وحتى البحر الأسود وبحر مرمرة والبلقان، ووصولا بالبندقية، أما الفرع الثاني فيمر من تركستان وخراسان وعبر بلاد ما بين النهرين والأناضول، ومن ثمّ في أنطاكية إلى البحر الأبيض المتوسط أو عبر بلاد الشام، إلى مصر وشمال إفريقيا.
ويعد طريق الحرير العظيم أحد أقدم شبكات الطرق وأكثرها تأثيرا في التبادل التجاري والحضاري واللغوي والثقافي، فقد كان يربط روما وأوروبا، قبل الميلاد، بالصين لمسافة تزيد على 9700 كلم، وتعود معرفة الإنسان لهذا الطريق إلى القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، حيث كان يبدأ من الصين ويمر بوسط آسيا والبحر الأسود، وينتهي في عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، القسطنطينية، المعروفة الآن بمدينة إسطنبول.
ونظرا لخطورة هذا الطريق البري وكلفته، فقد تحولت تجارة الحرير إلى الطريق التجاري الأوسط، الذي يمر بالخليج العربي ووادي الفرات ثم ينتهي إما على ساحل البحر الأسود أو المدن السورية مثل دمشق، وإختارت سورية إحياء مهرجان طريق الحرير، لتستعيد هويتها المفتوحة على الحضارات، ولتقدم نفسها طريقا آمنا لحماية قوافل التجارة.
طريق الحرير ليس مجرد جغرافيا وتاريخ، وليس مجرد آثار موغلة في القدم، ولكن صار مفهوما يحيل إلى هوية تتحد بالإختلاف والإلتقاء والتباين والتعايش والسلام..فكل طريق تلتقي فيه شعوب مختلفة هو طريق حرير، وكل طريق تلتقي فيه أعراق متباينة هو طريق حرير، وكل طريق تفتح فيه التجارة الثقافة هو طريق حرير..كل طريق تشتبك فيه الجغرافيا بالتاريخ هو طريق حرير، وكل طريق يؤمن أن السلام هو الممر الآمن لإنتعاش الحضارات هو طريق حرير..كل طريق آثاره تقول أن جميع الحضارات مرت من هنا، هو أيضا طريق حرير.
صلاح الدين..السندباد ورحلة الأرجوان
ولإكتشاف تاريخ طريق الحرير، بدأت الرحلة السحرية والساحرة من دمشق إلى بصرى ثم جبلة واللاذقية وحماه وحلب وتدمر.. في يوم الإثنين 23 أكتوبر الماضي، توقفنا بمدينة بصرى، أعرق مدن محافظة درعا وأغناها بالأوابد الصامدة التي تتحدى الزمن، وقد زارها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، مرتين، الأولى مع عمه، والثانية مع خديجة رضي الله عنها، وبالمدينة كان الإفتتاح الرسمي لمهرجان طريق الحرير، 2007، من طرف وزير السياحة السوري، سعد الله آغا القلعا، حيث أبدعت الفرق، وعلى رأسها فرقة إنانا، بالمسرح الروماني الذي يتسع لحوالي 15 ألف متفرج..
وهناك تم تلخيص حكاية الأميرة السورية، جوليا دومنا، وقصة "السندباد ورحلة الأرجوان"، الذي سافر حول العالم، وإختار طريق الحرير الخالد..وهناك، الحمامات الرومانية ومعبد حوريات الماء والحمام الإسلامي والجامع العمري(جامع العروس) الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقصر الإمبراطور تراجان وقوس النصر الروماني وسرير بنت الملك ودير الراهب بحيرا وجامع مبرك الناقة ومحرابه الأثري حيث جلست ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، أين وقفنا في لحظات مؤثرة بجامع فاطمة تبرّكا وقربانا إلى قدسية ديننا الحنيف الذي بدأ الفتوحات الإسلامية بالمنطقة في القرن السابع.
في يوم الخميس 25 أكتوبر، كانت وجهتنا مدينة حلب الشهباء، ثاني مدينة بعد دمشق من حيث الأهمية إقتصاديا وتجاريا، وعلى متن سيارة "الهونداي" الكات كات، كان المرور على حمص وطرطوس ومعلولا والحصن، كافيا لوضع النقاط على حروف الحضارة التي رسمتها وصنعت ملامحها الأيادي العربية والتاريخ الإسلامي، وعلى أنغام "إتأخرت كثير" للفنان السوري الكبير، جورج وسوف، كانت أعيننا تكتشف المعجزة الربانية ببلاد الشام، عبر مناطق القسطل والنبك وبيرود ورأس المعرة وباخوس.
وإستمرت رحلة الإكتشاف والإستمتاع عدة ساعات، حيث قضينا نحو 500 كلم برا من دمشق إلى اللاذقية، كانت أيضا للمغامرة والمرح مع دليلنا ومرافقنا، السيدة فدوى(ممثل وزارة السياحة السورية)، وكذا سائق السيارة "أبو جورج" الذي خلف زميله وصديقنا "بشير"، وعلى نغمات "حبيبي قرب وبص..مافيش حاجة تيجي كيدا"، إجتزنا على مناطق البريكة والحميرة والبيضا وقارة، وهي مدن شعبية تحكي تاريخ وحضارة سورية والعرب بروائع طبيعية وفنون جمالية قريبة إلى المعجزة والخيال منها إلى الواقع والحقيقة.
وواصلنا السير برا نحو قلعة الحصن، مرورا على صدة والمعمورة وشمسين وشنشار، على بعد 26 كلم من الحدود اللبنانية، ومع إنغماسنا في التاريخ، كانت أنغام المذياع تنبعث على وقع "ست الستات يا شرقية، كل الحلوين بيغيرو منك إنت بالذات"، وإمتدت أنظارنا بإتجاه الطرق المؤدية إلى طرطوس وحماه والربوة ودنحة ومشتى الحلو وكفرون واللوبيدا وحديدة وريحانية ودردارية، قبل أن نعرج على طريق الجبل عند حدود الساعة الثالثة مساء من يوم 25 أكتوبر، لندخل قلعة الحصن أو قلعة الفرسان، الواقعة في أعلى جبل الأنصارية، وهي واحدة من بين أهم قلاع القرون الوسطى في سورية والعالم، من حيث روعة بنائها وتحصينها وإتساع مساحتها وإستكمالها لكافة شروط الأمن والسيطرة والموقع الإستراتيجي للمراقبة العسكرية والإستكشاف.
بعد جولتنا بقلعة الحصن التي تشكل اليوم أحد أهم المواقع الأثرية في سورية، ودّعنا المنطقة ولسان حالنا يقول: "زوروني كل يوم مرة حرام تنسوني بالمرة"، وكان الإتجاه نحو مدينة اللاذقية، حيث صادفتنا في الطريق لافتة عريضة على الطريق السريع كتب عليها: "الجنة من هون"، وقد إجتزنا على مسافات متباعدة مناطق الدبوسية وأرزونة وصافيتا، وكان التوقف مع غروب الشمس بمدينة جبلة المطلة على البحر الأبيض المتوسط في شكل لوحة مرسومة بإعجاز رباني مذهل يكرس مهد الحضارات ومنبع الديانات السماوية ومصدر أساطير كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان.
وتواصلت الرحلة بالإنتقال يوم الجمعة 26 أكتوبر، إلى مدينة حلب، وقد كتب على الطريق نحوها: "الله يحميك يا الشام"، وكانت قلعة صلاح الدين الأيوبي، محطة رئيسية لا يمكن تجاوزها أو نسيانها، حيث توقفنا بها عند حدود الساعة منتصف النهار، ودخلناها مكتشفين مثلما دخلها صلاح الدين فاتحا، وخرجنا منها سالمين غانمين بحقائق تاريخية لا يمكن طمسها أو تزويرها، وتذكرت شخصيا المقولة الشهيرة لصلاح الدين: "سمعتي أغلى من حياتي"، وهناك كانت القلعة نموذجا للحبكة العسكرية والتقنيات العالية، وكانت القلعة تسمى قلعة صهيون، وهي محاطة بواد عميق، قبل أن يحررها القائد صلاح الدين في العام 1188 من الصليبيين.
تدمر، حلب..هنا يبدأ السلام والحب
مع "أبو جورج" أو كما يسميه بعض الأصدقاء ب "الكاميكاز"، إستمرت الجولة السياحية المشوقة، التي تمنينا أحيانا أن لا تنقضي، أو على الأقل أن تتكرر، وعبر منعرجات وطريق جبلي وسط غابات كثيفة، كانت إشارات المرور ترسم الأسهم بإتجاه مناطق بخاسون والزعرورة، قبل أن نعبر ضاحية بيرين وجوبة، حيث إنتشرت محلات للأكل السوري الخفيف، ترحب بضيوف سورية وتستضيف السياح الأجانب المتوافدين، وهناك كانت مطاعم المحبة والنبلاء والباشا وشهباء الشام، تفتح أعينها وترفض الإستسلام للخمول والخلود إلى النوم.
الطريق إلى حلب، المدينة المتاخمة للحدود السورية التركية، كان يزيّنها ماكياج أصلي للطبيعة وتزوّقه شقق وفيلات مفروشة للكراء، تعكس الطابع السياحي للناحية، وهناك كانت أغاني الحب والأمن والسلام تنافس الهواء في الطيران بكل حرية وشجاعة، وعلى أنغام "أموت وما تموتيش بعدي"، كانت سيارة "أبو جورج" تشق الطريق بسرعة الصاروخ، ربما لأنه كان يريد لنا أن نصل في أقرب وقت إلى مهد الحضارة، وقبل وصولنا إلى حلب عبرنا مناطق المعلقة وأثار سنشراح وإدلب وسراقب، ودخلنا المدينة عند حدود الساعة الثالثة والربع مساء، حيث حضرنا مهرجان المأكولات السورية وكانت فرصة لنا لتغيير الأطباق ومعرفة الشهية الطيبة، وإن كانت الألوان والأذواق لا تناقش.
من سوق العزيزية وسط مدينة حلب، تصاعدت مشاهد الإنتعاش التجاري، حيث ظلت المحلات فاتحة أبوابها أمام زبائنها إلى ساعة متأخرة من اليوم، وبقلعة حلب توقفنا دقيقة صمت وإكبار أمام لافتة دُوّن عليها: "لا تبصق على الأرض، فإنها تستحق منك التقبيل"، وهناك كانت الكلمة للطربوش والشيشا والسيف العربي الأصيل، وللزخرفة العربية والإسلامية التي تدخل رواق عجائب وغرائب الدنيا رغم أنف كتاب غنيس.
وإستمرت رحلة ألف ليلة وليلة، بالإتجاه هذه المرة نحو تدمر، وعلى مسافة 400 كلم برا، مررنا على مناطق قناطر وكمائر، وكانت أنغام "على كل ألّي فات بحبك"، تقطع معنا المسافة على الطريق السيار مرورا بمدينة حماه التاريخية ومدن خان شيخون ومعرة النعمان، وعند دخولنا مدينة حماه العريقة، إنبعثت من راديو السيارة كلمات ليست كالكلمات لوردة الجزائرية وهي تقول: "خليك هنا بلاش تفارقنا".."خليك قريب مني، مهما طالت رحلتك مستنياك وأنا ذاييبة من الفراق".
سكوت..حنطير
ودخلنا مدينة المدائن، حماه، عند حدود الساعة الثانية بعد الزوال من يوم السبت الموافق ل 27 أكتوبر 2007، حيث إستقبلتنا مثلما تستضيف كل زائريها بيافطة كتبت عليها: "حماه تفتح ذراعيها لإستقبالكم"، وكانت المدينة واقفة بتاريخها وحضارتها، وهي الآن تحكي قصة مدينة عرفت في تاريخها الماضي إزدهارا ومكانة رفيعة لا تضاهيها إلا القلة القليلة من مدن الشرق الأدنى القديم، وقد أدهشت بأطلال أفاميا كل الباحثين والزوار والسياح، مثلما هو الشأن بالنسبة لقلاعها كقلعة شيرز وقلعة المضيق وقلعة شميميس وقلعة مصياف وقلعة أبو قبيس.
ونحن بين حقيقة قريبة إلى الخيال وحكايات شهرزاد للملك شهريار، إستسلمنا لصوت المطربة السورية، أصالة نصري، وهي تردد: "لما تيجي حأحكيلك علّي جرى"، موازاة مع ولوجنا مدينة حمص التي إستقبلتنا بيافطة "حمص تزغرد فرحا لزيارتكم"، فكانت زغرودة الترحيب والكرم كافية لفتح شهيتنا أكثر قصد إكتشاف المزيد من معالم وشواهد الحضارة العربية والإسلامية ببلاد الشام.
دقائق قليلة وغصنا في الصحراء السورية، حيث كنا نقترب رويدا رويدا من "إمبراطورية" تدمر، ومع الإستمتاع بكلمات سلطانة الطرب العربي، أم كلثوم، وهي تقول: "ودارت الأيام"، مررنا طرق فرعية تؤدي إلى مناطق كلابية وطرفة، وكذا بإتجاه دير الزور جنوبا ودمشق والعراق شمالا، وفي هذا الوقت كانت سيارة صديقنا "أبو جورج" تقول لنا: "أربطوا أحزمتكم..سكوت حنطير".
وطرنا بهدوء وسرور وشوق نحو قلاع تدمر، التي دخلناها مساء وقد بدأت الشمس في المغيب، في معجزة ورائعة ربانية، لمسناها بأيدينا وأرواحنا ونحن بقلعة تدمر..هذه الواحة الخضراء القائمة وسط رمال ذهبية من بادية الشام، إلى الشمال الشرقي من دمشق على مسافة 245 كلم، كما تبعد عن حمص 155 كلم شرقا، وكان من أشهر ملوكها الملكة زنوبيا، وأعلنها الإمبراطور الروماني هارديان "مدينة حرة" عام 129 م.
كانت تدمر محور إستراحة القوافل بين مدن ما بين النهرين وبلاد الشام، ونقطة إلتقاء طرق الحرير بين الشرق والغرب، من اليابان إلى المحيط الأطلسي، ثم عاشت عصرها الذهبي فأنشئت فيها الشوارع والمعابد والأقواس والتماثيل، وبدأت تدخل التاريخ من بوابته العريضة حين تولت عرشها في العام 267 م الملكة زنوبيا التي يقال أنها كانت رائعة الجمال، شديدة الذكاء، غزيرة المعارف، وكانت مولعة بالصيد والقنص، وفي العام 633 م فتحها العرب صلحا بقيادة خالد بن الوليد، وقد تعرضت لعديد من الزلازل والتخريب على أيدي الغزاة حتى ضعف شأنها، لكن ذلك لم يمح عظمتها وإمتدادها التاريخي.
"الشروق" زارت تدمر فوقفت بآثارها التاريخية وصروحها وأوابدها كمعبد بل، المشيد في مطلع القرن الأول للميلاد من العصر الروماني والمكرس لعبادة الإله بعل، كما زرنا المدينة القديمة والشارع الأعظم بأعمدته وأروقته وقوس النصر وبوابته الضخمة المزخرفة ومداخله الثلاثة والمسرح ومعسكر ديوقلسيان وكذا المدافن بأنواعها البرجية والمنزلية والقبوية، إلى جانب متحف تدمر الذي أنشئ في سنة 1960 ويضم جناح آثار لمدينة تدمر وجناح للآثار الإسلامية أقيم في العام 1976، وهناك كان السياح يتوافدون أفواجا أفواجا من مختلف البلدان لمعايشة الزمن الماضي.
من دخل الشام فهو آمن
بعد ثلاثة أيام، غادرنا تدمر، عائدين إلى العاصمة دمشق يوم الإثنين 29 أكتوبر الماضي، بعد حضورنا حفل إختتام مهرجان طريق الحرير في طبعته لعام 2007، حيث إمتزج إبداع الفرق الفنية والتمثيلية بروعة الطبيعة والحضارة، وعلى بعد 150 كلم عن الحدود العراقية السورية، كان الإتجاه نحو الشام، حيث دخلنا مدينة صيد يانا على الحدود اللبنانية، في الطريق المؤدي من تدمر إلى دمشق، وبعد زيارتنا لكنيسة المدينة وبعض أحياءها الراقية التي تقطنها أغلبية مسيحية، وصلنا العاصمة دمشق، عند حدود الساعة الثانية بعد الزوال، عقب مرورنا مرور الكرام على مناطق مثل هارافرام السرياني.
عدنا إلى فندق "إيبلا الشام" بدمشق، فكانت إستراحة مؤقتة شبيهة بإستراحة محارب، تفصلنا عن إستئناف رحلة البحث والإستمتاع، قبيل أقل من يومين عن موعد إقلاع الطائرة وعودتنا إلى الجزائر..وكانت الوجهة هذه المرة، باب توما والصالحية والمخيم وباب الحارة والخانات التي تكثر بدمشق تماشيا مع التاريخ التجاري العريق للمدينة، وكذا سوق الحامدية الذي بني خلال فترة متأخرة من الحكم العثماني، طوله 600 متر، تستطيع هناك أن تشتري مصنوعات دمشقية كالبروكار والحرير والخشب المنحوت والنحاس والصدف، وهو السوق الذي إلتقينا فيه بعدد من تجار الشنطة القادمين من الجزائر للإسترزاق، فيما يشتهر سوق البزورية ببيع التوابل والفواكه المجففة والأعشاب الطبية والسكاكر والشكولاطا، علاوة على سوق مدحت باشا الشهير بالبضائع التقليدية وسوق السرودية المتخصص في سروج الخيول وزينتها.
زيارتنا التي دامت عشرة أيام وليال إلى بلاد الشام، كانت أيضا لمعايشة السلم والأمان والتعايش السلمي بين الجميع ممن لا تفارق ألسنتهم عبارات "تكرم عيونك" و"على راسي" و"الله معك".. وكانت للوقوف على الواقع المعاش بالشقيقة سوريا، فقد كشفت أرقام رسمية أعلنها رئيس الوزراء السوري، محمد ناجي العطري، بأن عدد السكان بسوريا إرتفع من 8 إلى 10 بالمائة، نتيجة سياسة التهجير الممارسة ضد الأشقاء بفلسطين ولبنان والعراق، معلنا بأن الإقتصاد السوري يتحمل ما قيمته 2 مليار دولار، في إطار سياسة الدعم لفائدة المرحلين، وفي نفس السياق، أكد وزير الإعلام السوري، محسن بلال، بأن لاده تنفق نحو 1200 مليون دولار، كمصاريف للكهرباء والوقود منذ أربع سنوات لفائدة العراقيين المرحلين، في وقت نزح ما لا يقل عن 400 ألف لبناني إلى الأراضي السورية إثر الإعتداء الإسرائيلي على لبنان. وتقول الأرقام التي قدمها رئيس الوزراء السوري، بأن الأجور تم رفعها 100 بالمائة خلال الخمس سنوات الأخيرة، علما أن عدد العاملين السوريين يبلغ 1.4 مليون موظف، يضاف إليهم 600 ألف متقاعد من سلك الوظيف العمومي.
كما تشير الأرقام إلى أن سوريا نجحت في تحقيق الأمن الغذائي، حيث تملك حاليا مخزونا غذائيا من القمح بقيمة 4 مليون دولار، كما تجني من إنتاج القطن 1 مليون دولار سنويا، ومليون دولار آخر من الحمضيات.
ونتيجة للنازحين من العراق بسبب ويلات الحرب، تؤكد شهادات حية، بأن تأجير الشقق في سوريا من طرف النازحين، عرف إرتفاعا بلغ ما بين 400 و500 دولار للشقة، بعد أن كان لا يتجاوز 150 دولار قبل إندلاع الحرب، وقد إقتضت التطورات فرض التأشيرة على العراقيين خلال الآونة الأخيرة، إثر تزايد عمليات توافد النازحين والهاربين من جحيم الحرب. وتشير أرقام أخرى، إلى أن الأجور بالشقيقة سوريا تتراوح ما بين 18 ألف ليرة(350 دولار) كحد أقصى، و6 ألاف دولار(130 دولار) كحد أدنى، بعدما كانت قبل سنوات تعادل 3 ألاف ليرة، وبوسط دمشق، فإن كراء الشقق، مرتفع نوعا ما، خاصة بالأحياء الراقية، مثل حي "المنرة"، حيث يمثل ألف أدنى سعر للتأجير، فيما لا تتجاوز أسعار الكراء بالمدينة الأثرية ببصرى مثلا، 2000 ليرة شهريا(حوالي 3200 دينار).
وبدأ العد التنازلي للرحيل ومغادرة بلاد الشام والأحلام، وكانت بداية النهاية بالوقوف عند مقام السيدة زينب(بنت الرسول صلى الله عليه وسلم)، وسط العاصمة دمشق، حيث عايشنا حجيجا من الرجال والنساء وحتى الأطفال يزورون المقام ويؤدون طقوسهم وتقاليدهم..وإستمرت بداية النهاية، بتوجهنا إلى أسوار دمشق، التي تعود بتاريخ بنائها إلى القرن الثالث الميلادي، وهي تحيط المدينة القديمة على شكل مستطيل طوله 1500 مترا وعرضه 750 مترا، بينما يبلغ إرتفاع السور حوالي 5 أمتار، وحوله كانت لنا جولة وإحتكاك بالأشقاء السوريين الذين كان كل واحد منهم يفرح ويرحب بنا عندما يعلم أننا جزائريون، فكانوا يسألوننا عن الوضع بالجزائر وعن حال الشعب الجزائري.
وكانت أبواب دمشق من بين آخر محطاتنا الإستطلاعية والسياحية بسوريا، حيث يروي التاريخ بأن سور دمشق زود حين تشييده بسبعة أبواب، تتمثل في: باب كيسان، الباب الصغير، باب توما، باب الجينيق(غير موجود اليوم)، باب الفراديس، الباب الشرقي، باب الجابية، ثم زودت المدينة ببابين إسلاميين، هما: باب السلام وباب الفرج، فأصبح عدد أبواب دمشق الموجودة حاليا ثمانية.
وجاء موعد الرحيل، فدخلنا الجامع الأموي الكبير، الآبدة الاموية الوحيدة بدمشق التي تعود إلى العصر الأموي، ويضم مقام النبي يحيى ومقام رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، وتمثال صلاح الدين الأيوبي، وهناك صلينا ركعتين، ودعونا الله ضمن دعواتنا، أن يسعفنا الحظ لمعاودة زيارة بلاد الشام.
وفي رمشة عين، حتى تذكرنا بأن موعد إقلاع طائرة الخطوط الجوية السورية، لم يبق عنه سوى ثلاث ساعات فقط، فإنطلقنا نحو مطار دمشق الدولي، ونحن بين شوق اللقاء بالنسبة للأهل والأصدقاء والجزائر، وبين لوعة الفراق بالنسبة لبلدنا الثاني سورية..فإلى اللقاء يا الشام.
جمال لعلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.