من أمام قبر الأمير عبد القادر الجزائري في العاصمة السورية دمشق تتفجر ينابيع الأسرار صورة تترجم أبعادها احتراما وتبجيلا لرجل أنقذ أهل الشام من مصير مروع ورسم مستقبل شعوب أبت أن تمحي ذاكرتها سيرة منقذها أما البعد الثالث لتلك الصورة فهو اعتزاز بالأرض التي وارت يوما جثمان الأمير لكن الغريب أن السوريين يرفضون الاقتناع بأن الرفات نقلت من أراضيهم لتستقر في بلده الأصلي الجزائر وحتى اليوم يتوافدون بالمئات يوميا لزيارة القبر الفارغ والترحم عليه في مشهد غريب ومثير * - نشر الفكر الصوفي في الشام وقضى على فتنة لبنان * المشارقة يؤكدون أنه من نسل الرسول "صلى الله عليه وسلم" * * جميع أهل الشام يعرفون جيدا الطريق إلى حي "الشيخ محيي الدين"، فلا يكاد يمر أسبوع على أحدهم حتى يشد الرحال إلى مسجد شيخ الطرق الصوفية العلامة "محيي الدين بن عربي" حيث يوجد ضريحه، وعلى بعد مترين وفي نفس الغرفة التي تحوي رفات بن عربي وأبناءه، يوجد قبر الأمير عبد القادر الجزائري، الذي دفن في هذا المكان تحديدا بناء على وصيته، ويقول المشرف على المكان الشيخ "سعيد يحياوي": "لم يوصي الأمير بهذا الأمر طمعا في شهرة أو خلود بعد الممات، مثلما فعل الكثير من السياسيين والقادة الشاميين الذين حرصوا على تشييد قبورهم على مقربة من قبور الصحابة والعلماء، وإنما بدافع الحب الكبير الذي حمله الأمير في قلبه طيلة حياته للشيخ الجليل محيي الدين بن عربي، حب أبى ألا يقتصر على الحياة الدنيا، فطالما اقتدى الأمير ببن عربي، وطالما تمنى استكمال حياة ما بعد الموت برفقته"، ويضيف الشيخ "سعيد": "من هذا المكان جدد الأمير عبد القادر الفكر الصوفي، وعلى منبر هذا المسجد حمل شعلة الجهاد والعلم حتى استحق أن يكون خليفة الشيخ محيي الدين بن عربي، فرحمة الله على علماء الأمة المخلصين" * * الجثمان غائب لكن الروح حاضرة * * يقع مسجد الشيخ محيي الدين بن عربي في أحد أحياء دمشق القديمة الواقعة في سفح جبل قاسيون، وبين الأزقة الضيقة والمباني القديمة والأسواق العتيقة، تتحرك أقدام الزائرين ببطء وسط الزحام لتصل إلى هذا المسجد القديم، وعبر سلم رخامي يؤدي إلى غرفة أسفل هذا المسجد، تتدافع الوفود الصوفية القادمة من كل أنحاء العالم الإسلامي، وبالأخص من باكستان ودول شرق آسيا يرافقها الكثير من أبناء طوائف الإسلام الأخرى، باحثة عن المكان الذي رقد فيه الأمير عبد القادر، في تلك الأثناء انتابتني مشاعر متضاربة، وتساءلت في حيرة: كيف عرفت هذه الشعوب الأمير الجزائري المجاهد؟، وأي سيرة تركها الرجل في نفوس هؤلاء؟، ولماذا الإصرار على زيارة القبر رغم خلوه من جثمان صاحبه؟، فقالت مواطنة سورية انتهت لتوها من قراءة فاتحة الكتاب: "أعلم أن الجثمان غائب.. لكن الروح حاضرة"، إجابة لم تضع حدا لحيرتي، بل فجرتها أكثر، فهي تحمل أكثر من معنى، لكنها تؤكد عشق وإخلاص أهل الشام للأمير، الذي أحب الشام ودافع عن أهلها وعن مستقبلهم مثلما دافع عن الجزائر وتاريخها، ففي عام 1964 تم نبش هذا القبر، لتنقل طائرة جزائرية رفات الأمير عبد القادر إلى مقبرة الشهداء بالجزائر العاصمة، حقيقة يعرفها الجميع، لكن فرط الحب للأمير الذي أثر أيما تأثير في حياة السوريين يدفعهم لعدم نسيانه، حتى وإن استقر به المقام في الجزائر، لدرجة أن السلطات السورية تعتني بالقبر عناية خاصة لمكانة صاحبه الكبيرة في التاريخ السوري، لكن ثمة حكايات أخرى يتداولها أهل المشرق حول الفترة التي قضاها الأمير هناك. * * رجل السلاح والقلم * * وعلى الرغم من مرور قرن وربع القرن على وفاة الأمير عبد القادر، قائد الثورة الأولى في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، فلا تزال الأسرار المحيطة بذلك الرجل تتكشف كل يوم، فلا نكاد نجد في الكتب التي تؤرخ للنهضة العربية ذكرا للأمير إلا وهو مرتبط بثورته ضد فرنسا، أو بتصديه للحرب الطائفية بالشام عام 1860 م، أو زياراته العلمية والدعوية المتعددة إلى الأستانة ومصر وباريس، وحصوله على الأوسمة والمنح، فقد كان رجل فكر متبحر في علوم الدنيا والدين، وكانت له آراء خاصة في قضايا العقل والأخلاق واللغة والتصوف، مما يجعله أحد أبرز رجالات النهضة الدينية المبكرين. * * خيانة قضت على الدولة الإسلامية الكبرى * * يؤمن أهل المشرق أن الأمير عبد القادر أسس دولة إسلامية قوية في الجزائر، حيث نظم جيشا وطنيا قويا وقف موقف الند في وجه أكبر دولة برية في العالم في ذلك الزمن، وكبد الغزاة خسائر فادحة أفقدتهم الأمل بالسيطرة على البلاد، وكاد الأمير ينتصر، فعمد الغزاة إلى تفتيت الوحدة الوطنية التي أسسها الأمير تحت راية "الله أكبر" لمدة سبعة عشر عاما -مدة حكمه-، واتبعوا أيضا سياسة الأرض المحروقة والجيوش الجرارة والأسلحة المتطورة، وحينما لم تجد كل تلك الخطط نفعا، لجأت فرنسا إلى سلطان المغرب، وبالترغيب تارة وبالتهديد باحتلال مدنه تارة أخرى، أجبروه على عقد اتفاقية معه لمنع وصول أي مساعدات لقوات الأمير، وللأسف كتب سلطان المغرب رسائل بخط يده إلى زعماء القبائل لتحذيرهم من مساندة الأمير، مما اضطر الأمير لخوض معارك دفاعية دامية خارجة عن نطاق مخططاته، دفاعا عن حصنه المتنقل وقواته المجاهدة، فكانت أشرس وآخر معركة دفاعية خاضها الأمير ضد قوات نظامية مغربية، وحينما وجد الأمير أن الأشقاء يقاتلونه على نفس روح الغزاة المستعمرين، قرر وقف الحرب ليحقن دماء المسلمين، ويضع حدا لقتل الأخ لأخيه في الدين والجوار، ووافق العدو على وقف الحرب بعد أن حققت مبتغاها، فشوكة الأمير أخيرا انكسرت، وأبرمت معاهدة تكفل بنفي الأمير من الجزائر متجها إلى عكا، ولكن أثناء الطريق جاء أمر لربان الباخرة بتغيير وجهتها نحو فرنسا، فقد كانت فرنسا متأكدة من عودة الأمير إلى الجزائر لاستكمال الجهاد، فألغت الاتفاقية وغدرت بالأمير، لتضع وصمة سوداء في تاريخها الاستعماري الذي لم يحترم عقودا أو مواثيق. * * رحلة السجن والموت والعذاب * * رحلة مؤلمة، سجن فيها الأمير وأتباعه في تولو بفرنسا، ومن هناك تم نقله إلى بو، ثم إلى قصر أمبواز الذي قضى فيه أكثر من أربعة أعوام، من نوفمبر 1848 م حتى ديسمبر 1852 م، وقبل ذلك ببضعة أسابيع، وتحديدا في 16 أكتوبر عام 1852 م، استقبل الأمير الرئيس لويس نابليون الثالث، الذي جاءه ليمنحه صك حريته، وكان الأمير يعيش مع عائلته تحت مراقبة قاسية وفي حالة حرمانٍ كبيرة، حتى أصابت الصدمة أقارب الأمير، الذين توفى منهم 25 فردا بسبب البرد والمرض، بعدما قضوا حياتهم تحت الخيام في وسط سهول الجزائر الواسعة. * * إحياء الإسلام في بلاد الشام * * بعد الإفراج عنه، اختار الأمير مدينة بروصة كمكان لهجرته، ولكن عندما كثرت فيها الزلازل، اختار دمشق التي دخلها تحت مظلة احتفال كبير شعبي ورسمي كأحد كبار الفاتحين الأقدمين، وعاش فيها مكرما مبجلا كمهاجر وليس كمنفي مثلما هو سائد، داعيا لنشر العلم الشرعي واللغة العربية، محاربا للبدع، متخذا من كتاب صحيح البخاري ومسلم وموطأ مالك منهجية تربوية لخدمة المجتمع الإسلامي وتعميق الأيمان، وفي دمشق التي عاش ودفن فيها الأمير، تذكره شعوب بلاد المشرق بعظيم خصاله وأخلاقه السامية، دمشق التي لا يزال يقطن بها بعض أحفاد الأمير، لأن جدهم الراحل لا يزال ينال الاحترام والتقدير من قبل أهل الشام، الأمير وجد أهل الشام يعشقون الدين، لكنهم متخبطون بين الآراء والمذاهب المختلفة، فاستشعر الأمير الخطر، وبدأ بنشاط وهمة يقوم برسالته الجهادية التي لا تقل قيمة عن جهاده العسكري ضد المستعمر، فبدأ الرجل في إنشاء المدارس العلمية، وبدأ يعلم الناس أمور دينهم، حتى صار أشهر علماء الشام وأعظم علماء عصره، وبقي هناك حتى وفاته بعد سبعة وعشرين عاما قضاها جهادا في سبيل الله، وكان ذلك في عام 1883. * * إخماد نار الفتنة وحماية النصارى * * لم يكن التاريخ والدعوة فقط رصيد محبة الأمير، فثمة حدث جلل برز فيه اسم الأمير ليترك علامة فاصلة في تاريخ الشام ستظل باقية أبد الدهر، ففي تلك الأثناء اندلعت الفتنة في لبنان، فحصدت أرواح الآلاف وكادت تقضي للأبد على اللبنانيين وشعوب المنطقة، لكن الأمير تدخل ليضع حدا لتلك المأساة، حتى أنه أنقذ أكثر من خمسة عشر ألفا من النصارى لاذوا بمنزله، فلم يستطع أحد التعرض لهم احتراما وتبجيلا للرجل الذي لاذوا بحماه. * الأمير عبد القادر اتخذ إجراءات كبيرة وجريئة لوأد الفتنة، حتى أنه أخذ مفاتيح قلعة دمشق، ليضع فيها كافة نصارى البلد، يقدم لهم الطعام والشراب على حسابه الخاص لمدة خمسة عشر يوما، وكان لذلك دور كبير في وقف الفتنة وإطفاء نارها، ورجع عند ذلك عشرة آلاف جندي فرنسي إلى فرنسا بعد أن كانوا في مراكبهم يستعدون لنسف بيروت بالقنابل المدمرة، فما أشبه اليوم بالبارحة، وقتها جند الله الأمير لإنقاذ الأمة من شبح الفتنة، أما اليوم فقد سخر الشيطان الآلاف ينفخون في كيرها . * المؤرخون يؤكدون أن الأمير عبد القادر تصرف على هذا النحو، وقرر حماية النصارى التزاما بتعاليم الدين الإسلامي الذي يأمر المسلمين بحماية أهل الذمة الذين يقطنون في بلاد المسلمين، فالأمير عبد القادر كان عالم دين بكل ما تحمله الكلمة، وليس متطفلا أو مندسا على الدين، علم وتفقه في حدود ما أنزل الله، فحقن دماء البشر، ووضع اتفاقية لا تزال سارية المفعول حتى يومنا هذا، وبفضل هذه الاتفاقية انتهت إلى غير رجعة مظاهر التطرف والتعصب في بلد مثل سوريا، التي تعد الدولة العربية الأولى التي تشهد تعايشا طائفيا سلميا . * * الأمير عبد القادر حفيد الرسول "صلى الله عليه وسلم" * * الكتب المنشورة في دمشق عن الأمير عبد القادر تكشف الكثير من الحقائق الغائبة، فهي تقول أن الأمير عبد القادر ولد عام1807 م، ونشأ في مزرعة أجداده "القيطنة" بوادي الحمام الخصيب بضواحي مدينة وهران، وأنه درس اللغة العربية وحفظ القرآن في مدرستها، ثم أرسله والده للالتحاق بإخوته بمعاهد وهران وتونس والزيتونة، وتقول هذه المؤلفات العديدة التي أسهبت في التعرض لحياة الأمير عبد القادر: أن الأخير يمتد نسبه للإمام إدريس الأكبر ابن عبد الله بن الحسن حفيد رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، الذي دخل المغرب العربي عام 172 هجرية وبايعته القبائل، فأقام مملكة قوية، وشيد مدينة فاس كعاصمة لمملكة امتدت حتى عام 459 هجرية حينما كثرت المنافسة على الحكم، فانتصر بني الأغلب على محمد المستعلي بن عبد الله حفيد إدريس الأصغر وانتزعوا منه حكم البلاد، فانقرضت دولة الأدارسة والتعاقب على الملك.