صدم الكثير من المراقبين، خاصة الاقتصاديين منهم حين كشفت الأرقام الرسمية عن تزايد مفرط في فاتوة استيراد الأدوية هذا العام، والتي قفزت خلال السداسي الأول من السنة الجارية إلى 632 مليون دولار بعد أن كانت في نفس الفترة من العام الماضي في حدود ال 610 مليون دولار. مما يعني زيادة بأكثر من 20 مليون دولار وتشكل ارتفاعا لواردات الأدوية بنسبة 5.05 بالمائة وهو الارتفاع الذي اعتبر مدهشا و"فاحشا" وغير مبرر، وفشلت كل التحليلات التي رافقت الخبر في إيجاد تفسير واضح للأمر، وحصل الإجماع تقريبا على أن المعضلة تكمن فقط في جشع ونهم أباطرة سوق الأدوية والذين سماهم وزير الصحة الأسبق السيد قيدوم بأخطبوط الأدوية، لكن، من جهتهم، المختصون الذين هم في معايشة مباشرة مع سوق الاستهلاك لهم رؤى أخرى غير رؤى أولئك المسؤولين، إحداها هذه التي كشفتها دراسة ميدانية للدكتور حكيم حيطاش والتي ألقت الضوء على ظاهرة خطيرة تشكل في حد ذاتها سببا كبيرا في تعقيد معضلة ارتفاع فاتورة استيراد الأدوية وهي الظاهرة المعروفة باسم التطبيب الذاتي والتي اعتبرها الدكتور الباحث في ختام دراسته أنها حقيقة مرة وشر لا بد منه، مؤكدا أنه إذا كان من الصعب التخلص منه، فيمكن بالتأكيد الحد من أخطاره وآثاره السلبية الكثيرة. 300 صيدلية بقسنطينة تعج بأدوية كل الدنيا الدراسة هذه التي أجراها الدكتور حيطاش - وهو طبيب مختص في الأمراض الداخلية - اختار لها ولاية قسنطينة كإقليم محدد للبحث، نظرا لكون هذه الولاية هي الأولى على المستوى الوطني في عدد تجار الأدوية بالجملة، واللافت فيها أن حي سيدي مبروك وحده (الذي يقع في أعالي المدينة) صار يشبه مدينة كاملة داخل مدينة، خاصة بتجار الأدوية بالجملة، وكل الدول ممثلة في هذا الحي بأدويتها الجنيسة ابتداء من أمريكا ومرورا بالهند والسعودية والأردن إلى افريقيا الجنوبية وهذا بعد أن ذهب زمن العلاج المجاني وزمن احتكارات صيدال وأنكوفارم، لهذا النوع من المواد الاستهلاكية، وعلاوة على ذلك تحتضن مدينة قسنطينة أكثر من 300 صيدلية مما يجعلها - حسب حيثيات الدراسة - نموذجا مثاليا لاستطلاع كل جوانب قضايا الاستهلاك الدوائي. الدراسة التي تعد الأولى من نوعها وطنيا اعتمدت - حسب صاحبها - على مصدرين أساسيين، أولا تحليل الكم الهائل من المعلومات الالكترونية التي تحصل عليها الباحث من عند مجوعة من الصيدليات التي تشتغل بنفس البرنامج المعلوماتي في عمليات البيع والمعلومات، والتي تخص سنة كاملة من النشاط، حيث شملت تاريخ وساعة البيع وعدد الأدوية خلال كل عملية بيع وصنف الدواء المباع، ثم في مرحلة ثانية تم القيام بعملية سبر للآراء مكملة للمرحلة الأولى واسهدفت هذه المرة تجميع معلومات إضافية تتعلق بعمر المريض وجنسه وعدد الوصفات الطبية والأدوية المنصوح بها وأيضا المستوى التعليمي للمريض، وقد حصر الدكتور الباحث التطبيب الذاتي بالتعريف القائل بأنه يتمثل في الاستعمال العشوائى للأدوية بدون وصفة طبية من طرف الأشخاص غير الأطباء سواء لأنفسهم أو لذويهم. ثلث مبيعات الأدوية بلا وصفات وأولى الحقائق التي توصل إليها الباحث كشفت بوضوح عن أن التطبيب الذاتي يحتل مكانة مهمة جدا وأساسية في نشاط الصيدليات، حيث يمثل ثلث المبيعات، فمن ضمن عشرات الآلاف من الوحدات الدوائية المباعة شكلت المبيعات في إطار التطبيب الذاتي نسبة 28٪، فيما لم تتعد الوحدات الدوائية المباعة في إطار نصيحة توجيهية من الصيدلي أو البائع سقف 09٪، والبقية أي 63٪ من المبيعات خصت الوصفات الطبية، ومن الملاحظ والواضح جدا - حسب الباحث - أن المبيعات في إطار نصيحة الصيدلي محدودة جدا وأقل بكثير من حجم مبيعات التطبيب الذاتي. والحقيقة الثانية التي كشفت عنها الدراسة تتعلق بأعمار وجنس الزبائن، حيث اتضح أن أكثر من 20٪ ممن يشترون الدواء في إطار التطبيب الذاتي هم من الأطفال القصر، خلافا للذين يشترون بالوصفات الطبية - من نفس الشريحة - الذين لاتتجاوز نسبتهم الأربعة بالمائة، وأغلبية الزبائن الذين يقبلون على التطبيب الذاتي هم من الرجال بحيث شكلوا في دراسة الدكتور حيطاش ثلاثة أرباع الزبائن، والملاحظ أيضا أن المعدل الأعلى للمبيعات يتم دوما يوم السبت والمعدل الأدني في عطلة نهاية الأسبوع، في حين أن المبيعات بلا وصفة طبية (أي التطبيب الذاتي) حسب أشهر السنة كشفت عن منحنى مهم جدا للنشاط الصيدلاني، فالفارق بين استهلاك الأدوية خلال فصل الشتاء مقارنة بالفصول الأخرى يبدو كبيرا ومهما مما يفتح المجال واسعا أمام إمكانية تخفيض معدلات استهلاك الأدوية، فباعتبار أشهر فصل الشتاء (أكتوبر نوفمبر ديسمبر) تفسر باستفحال أمراض الجهاز التنفسي والأمراض الفيروسية (التي تتطلب مضادات حيوية ومسكنات السعال ومضادات الزكام) فإن الفراغ الملاحظ خلال فصل الصيف لا يمكن تفسيره فقط بذهاب الناس في عطلة، فالأكثرية من القسنطينيين لا تذهب في عطلة، لكنها لا تصاب كثيرا بالأمراض؟ والطريف أيضا أن الدراسة كشفت تباينا كبيرا في توقيت شراء الأدوية حسب ساعات النهار، فخلال فصل الصيف ترتفع معدلات المبيعات بين الساعة العاشرة ومنتصف النهار صباحا وبين الساعة الرابعة والثامنة مساء، أما في فصل الشتاء فيكمن أعلى معدلات المبيعات بين الساعة الثامنة والساعة العاشرة صباحا وفي المساء بين الساعة الثانية والرابعة، ولاحظت ذات الدراسة أن أسعار الأدوية تشكل عاملا مهما في استفحال هذه الظاهرة مبينة أن كل أنواع الأدوية تباع مباشرة وبلا تعقيدات في إطار التطبيب الذاتي وأهمها بالتدريج هي (مسكنات الألم، ثم المضادات الحيوية، ثم مسكنات السعال، ثم مضادات الإلتهاب، ثم المراهم الجلدية، وأخيرا مضادات الزكام). وحتى أدوية صنف (أ) التي يفترض أن لا تباع سوى بوصفة طبية وكذا أدوية الصنف (ب) والتي يمنع القانون بيعها سوى بوصفة طبية خاصة (أدوية الأمراض العقلية) والتي يجب أن تسجل على سجل خاص من طرف الصيدلي كلها تصرف بسهولة في إطار التطبيب الذاتي. وبمقارنة سريعة مع دراسات مماثلة جرت بفرنسا وأمريكا، لاحظ الدكتور حيطاش أن الفارق واسع جدا بيننا وبينهم، فإذا كان ثلث مبيعات الصيادلة عندنا هو في إطار التطبيب الذاتي (28٪ حسب الدراسة)، ففي أمريكا لايتجاوز سقف ال 17٪ من المبيعات (والتي تضم أيضا مواد حياة الرفاهية ومكملات غذائية، فيتامينات وغيرها والتي يمكن أن تباع في إطار التطبيب الذاتي)، وإن لم يغفل الباحث إلى الإشارة أن المقارنة هنا قد لا تكون منطقية بالنظر لمجموعة من العوامل كالمستوى التعليمي والاجتماعي المختلف، موضحا أن المجمع الاستهلاكي تأثر كثيرا بانعكاسات العولمة وإن بدرجات متفاوتة، حيث صارت الميول أكثر الى تفادي الفحوص الطبية المكلفة (على خلفية القدرة الشرائية المنخفضة)، خاصة عند الإطارات وحملة الشهادات العلمية والتجار وممتهني الصحة مع إفراط غير مبرر في استهلاك أدوية الرفاهية وحفظ الشباب والإدمان لدى الرياضيين، ولاحظت الدراسة تصاعد الحملات الدعائية المجنونة التي لا هدف لها سوى الربح السريع ونجاحها في تخطي القوانين المتعلقة بالإشهار الدوائي التي رغم كونها متشددة جدا في بلادنا، إلا أن عدم إطلاع المسؤولين عن تطبيقها وفرض احترامها فتح المجال لتجاهلها والدوس عليها، وما يثير القلق أيضا في ذات السياق هو الظاهرة الجديدة المتمثلة في الإشهار التلفزي الفضائي الذي يمكنه التهرب من كافة أنواع المراقبة وهذا في انتظار الطامة الكبرى وهي إمكانية انتشار الإشهار عن طريق الانترنات والذي سيكون أكثر بكثير لكونه سيجتاح كل الفضاءات بلا أي ضبواط وبلا أي حدود، ناهيك حاليا عن الموضة الجديدة المتمثلة في الحصص الطبية الإذاعية والتلفزية والتي تبث باسم التوعية الصحية وصارت تساهم بشكل كبير في تحقير قيمة الأدوية وتتفيه استعمالها إضافة لظاهرة "شكارة الأدوية" التي تعطي بشكل تلقائي وروتيني دائم في المستشفيات ومصالح الاستعجالات الطبية بعد فحص طبي سطحي والتي تصادف عادة في صناديق القمامة عند مخرج ذات المستشفيات. الدراسة هذه تناولت أيضا اخطار التطبيب الذاتي واستفحال السلوكات الخاطئة، حيث يسارع البعض بمجرد ظهور أعراض صحية بسيطة إلى التطبيب الذاتي الأعمي والذي يستهدف فقط إشفاء غليل المريض وتهدئة قلقه أو قلق ذويه، وهو في الواقع سلوك لا معنى له وكارثي مادامت عملية التشخيص لم تتم، (غياب الفحص الطبي) مما قد يتسبب في عواقب وخيمة فيما بعد لكونه قد يخفي علامات المرض ويؤخر اكتشافه. والمعلوم أن التكفل المتأخر بأي مرض يكون في غالب الأحيان فاشلا ودراميا، إضافة إلى ذلك التطبيب الذاتي في غالب الأحيان لا يهتم بموانع الاستعمال، خاصة غير المعروفة (كالحمل والرضاعة والقرحة والحساسية..) وهي مغامرة خطيرة، ناهيك عن اللجوء إلى تناول جرعات عشوائية بلا أية مقادير (حسب الوزن والسن كما هو مفترض) ولمدة غير محددة، دون الأخذ بالاعتبار أن بعض الأدوية لها مفعول قوي في نقصان التركيز مما يجعلها تؤخذ بحذر شديد لدى السائقين والعاملين على الأجهزة الكهربائية الصناعية التي تتطلب يقظة وانتباها وأحيانا لا يتم الانتباه حتى لتاريخ انتهاء الصلاحية حتى تحولت صيدليات البيوت إلي علب قمامة حقيقية، وهي الظاهرة التي تصادف خاصة لدى المصابين بالأمراض المزمنة والذين يتورطون تلقائيا - بسبب كثرة تناولهم للأدوية - في فخ محاولة التكفل الذاتي بمرضهم المزمن ويغمرون بالتالي بالمخاطر المذكورة. في ختام الدراسة تساءل الدكتور حيطاش بحيرة وأسف كيف يمكن تفسير اكتشاف بحثه لظاهرة صرف روتينية وعادية جدا لأدوية الصنف الممنوع بدون وصفات طبية والتي تصرف أحيانا حتى للأطفال القصر من طرف بعض باعة الصيدليات بلا أية مراقبة من طرف السلطات الصحية المؤهلة؟ وتحسر لغياب الأساسيات الأخلاقية على مستوى الصيدليات (الاستقبال، الاستماع، التوجيه والإعلام..) والتي لا يمكن أن يقوم بها سوى الصيدلي المؤهل الحاصل على الشهادة العلمية الخاصة بذلك. وأشار الباحث أيضا أن الملاحظات والنتائج المستخلصة من هذه الدراسة سمحت ليس فقط بالتأكد من حقيقة هذه الظاهرة كواقع اجتماعي، لكن أيضا من بعض النتائج من تأكيد المسؤولية الجماعية لكل من الطبيب والصيدلي والمريض والمخابر الصيدلانية، وخلصت أيضا الى أن دراسة جادة لمشكلة استعمال الدواء في الجزائر صارت أكثر من ضرورة، خاصة من الهيئات الأساسية المسؤولة عن الصحة وعن الدواء (وزارة الصحة، مجلس أخلاقيات الطب للأطباء والصيادلة، صناديق الضمان الاجتماعي، أطباء وصيادلة)، لأجل التحكم الجيد في ظاهرة التطبيب الذاتي. وفضل الدكتور حكيم حيطاش أن يختتم دراسته بما قاله منذ فجر التاريخ الكيميائي والطبيب السويسري "كل المواد الصيدلانية هي سموم، ماعدا الجرعة الملائمة فهي دواء". ن.هارون