محمد أرزقي فراد حركت جمعية إخولاف ببلدية فرعون الساحة الثقافية الساكنة، حينما نجحت في تنظيم حفل تكريم إمام البلدة المتقاعد، تميز بطابعه الثقافي / التاريخي العميق. وكان فرصة سانحة للتعريف بمآثر الشيخ الطاهر آث حمودي العريقة في العلم، ونفض غبار النسيان عن مكتبة الشيخ الموهوب أولحبيب، وكذا الاستمتاع بقصائد شعرية باللسان الأمازيغي، من إبداع شاعر المنطقة، البشير أملاح، وغيره من المبدعين المعاصرين، فضلا عن محاضرات ومداخلات ثرية متنوعة. تقع بلدية فرعون في أقصى شرق ولاية بجاية بمحاذاة عرش آث وارثلان التابع إداريا لولاية سطيف، لذلك فإن روابط التواصل قوية بينهما في مجالات المصاهرة والمعاملات التجارية والإمامة وتعليم القرآن. وفي هذا السياق، استقدم أهل بلدة فرعون الشيخ الطاهر أوحمودي الورثلاني إلى بلدتهم، للإمامة والتدريس وتحصين المجتمع بقيم التعاون والتآزر والرحمة والمصالحة منذ سنة 1962م. وظل يؤدي واجباته الثقافية والاجتماعية بنجاح إلى أن بلغ سن التقاعد، واعتبارا للرعاية الشاملة التي حظي بها الشيخ الطاهر أوحمودي هناك، فقد عزّ عليه أن يفارق أهل البلدة، فظل هناك يقضي أيامه بين أهلها الطيبين في عز وحسن الإقامة، يرعاهم بالوعظ والإرشاد وإصلاح ذات البين. وبعد أن بلغ من الكبر عتيا، نظم له أهل بلدة فرعون حفل تكريم يليق بمقامه يومي 6 و7 نوفمبر 2007م، بمبادرة من الجمعية الثقافية "إخولاف" بدعم من السلطات المحلية. وقد دعيت إلى الحفل لإلقاء محاضرة حول الثقافية الوطنية وضرورة التمسك بمرجعيتنا الروحية، لتحصين النشء من خطر عواصف المسخ والتطرف والتفكك والعولمة. والحق أنني أفدت واستفدت من هذا اللقاء، الذي استقطب جمهورا واسعا يتقدمهم مثقفو ولاية بجاية، وأعجبت أيما إعجاب بحسن التنظيم الذي شارك في تكريسه الجميع، وبكثافة حضور التلاميذ واهتمامهم بكل النشاطات المقدمة. ومما زاد من أهمية هذا الحفل التكريمي أن المنظمين قد وسعوه ليشمل بعض الشخصيات المحلية المتقاعدة، وفي مقدمتها المعلمون الذين قدمت لهم جوائز رمزية، كما نوعوا النشاطات الثقافية لتشمل معارض خاصة بالتراث المادي، والمخطوطات النادرة الخاصة بمكتبة الشيخ الموهوب أولحبيب الثرية، وألقيت محاضرات وقصائد شعرية باللسان الأمازيغي، الأمر الذي بعث الارتياح في نفوس الحاضرين. نسب الشيخ الطاهر أوحمودي ولد الشيخ الطاهر أوحمودي سنة 1921م بقرية (أولموثن) في عرش آث وارثلان، ونهل العلم من معين زاوية عائلته على أيدي علماء أجلاء، من وزن المولود الحافظي ولكحل أوحمودي والحسين بلقشي وغيرهم. وبعد فترة التحصيل العلمي، تفرغ للإمامة التي مارسها في عدة قرى، كآث صخر ببني جليل وبني موسى بآث وارثلان. وفي سنة 1962م، انتقل إلى بلدة فرعون التي لا يزال يعيش فيها إلى يومنا هذا بصفته إماما، يرعى أهل البلدة بالوعظ والإرشاد. وفي مجال التأليف، أراني ابنه الشيخ السعيد كتابا مخطوطا ألفه بمعية عمه الشيخ محمد الشريف في موضوع العقيدة والتوحيد، فيه قسم محرر باللغة الأمازيغية المكتوبة بالحروف العربية. ومن جهة أخرى، فقد نسخ الشيخ الطاهر أوحمودي عدة كتب فقهية يحتاجها في نشاطاته العادية. ينتسب الشيخ الطاهر أوحمودي إلى الأدارسة الشرفاء الذين اتخذوا مدينة فاس بالمغرب الأقصى حاضرة لملكهم. هذا وحسب ما ورد في وثيقة النسب الخاصة بعائلة آيت حمودي، فإن جدها الأول الذي هاجر إلى الجزائر هو يحي بن موسى بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن محمد بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد ولد بمدينة فاس في القرن التاسع للميلاد، واستقر بعرش آث وغليس إلى أن لقي ربه، وقبره معروف يزار، به زاوية عامرة لتدريس القرآن والعبادة وإطعام أبناء السبيل. ثم حدث أن رحل حفيده يحي إلى قرية فريحه بعرش آث ورثلان، حيث استقر، وبعد زواجه عقب ولدا سماه أحمد، لكن هذا الأخير (أي أحمد) لم يلبث أن خرج من قرية فريحة - بعد وفاة أمه وزواج أبيه ثانية - بنية الرجوع إلى آث وغليس، وعندما وصل إلى المكان المسمى "ثلا نسيذي حند أعراب" (قرية أولموثن الحالية) عرض عليه أعيان المنطقة الإقامة بين ظهرانيهم للاغتراف من علمه، والاستفادة من حكمته وبركاته لإنهاء الخلافات والصراعات التي أهلكت بصفة خاصة أفراد عائلة "إبريخن"، فاستجاب لطلبهم، عقب سماعه صوتا هاتفا من الغيب، يوصيه بتحقيق رغبة السكان. فاستقر هناك وعقب ذرية صالحة ساهمت في نشر العلوم والمعارف، وبناء منارة للحضارة الإسلامية أضاءت عمق بلاد الزواوة بفضل تدريس اللغة العربية والقرآن والعلوم الشرعية والفلك والحساب، ازدادت أهميتها خاصة بعد أفول نجم بجاية عقب احتلالها من طرف الإسبان سنة 1510م. من أعلام عائلة آيت حمودي هذا ومن الأعلام البارزة الواردة في الوثيقة المخطوطة والخاصة بنسب العائلة، الشيخ يحي بن موسى الحفيد الذي أخذ العلم عن الولي الصالح سيدي يحي العذلي، وسيدي إبراهيم عمارة، وسيدي يذير بن صالح، وسيدي عبد الرحمن الثعالبي، وسيدي أحمد زروق البرنوسي. كما ذكرت هذه الوثيقة أيضا الشيخ أحمد بن حمود الأكبر،الذي أجازه العلامة المصري الشيخ محمد المرتضى الزبيدي. ومما يؤكد سمو مكانة هذه العائلة في مجال العلم، إشادة الرحالة الحسين الورثلاني- في القرن الثامن عشر للميلاد - بمناقب علمائها في كتابه "نزهة الأنظار" المعروف باسم "الرحلة الورثلانية". أما في مطلع القرن العشرين، فقد ساهم أبناؤها في نشر الفكر الإصلاحي، خاصة على يد الشيخ يحي آيت حمودي الذي كان مقربا من الامام عبد الحميد بن باديس في إطار نشاطات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، واشتهر أيضا بوقوفه في صف الشعب ضد طغيان الإدارة الفرنسية وأعوانها المحليين، الذين أثقلوا كواهل الأهالي بالضرائب الفادحة، ومما يروى عنه في هذا السياق أنه وقف في وجه جشع القايد عمر، في ذلك العام الذي شحت فيه غلة الزيتون، حينما أشار على سكان عرش آث ورثلان بعدم الاستجابة لطلباته الابتزازية. معرض مخطوطات الشيخ الموهوب أولحبيب يعتبر المعرض الخاص بمخطوطات الشيخ الموهوب أولحبيب، إحدى النقاط المضيئة في هذا الحفل، فهو فرصة سانحة مكّنت الجمهور الواسع من الاطلاع على عينة من مآثر هذا العالم الجليل، وعلى مدى إسهامه في إثراء المكتبة الجزائرية بمؤلفات مخطوطة عديدة في شتى مجالات المعارف والعلوم. هذا وقد تأسست مكتبة (أفنيق) الشيخ الموهوب أولحبيب في أواسط القرن التاسع عشر، بقريته المسماة " ثاله وزرار" الكائنة ببلدية عين لقراج بعرش آث ورثلان، وهي تحتوي على كتب مخطوطة في شتى العلوم (اللغة والآداب والشعر والفقه والطب والحساب والجبر والمنطق وعلم الكلام والتصوف والتفسير ومصاحف القرآن والبيوع والفلك والتنجيم والتاريخ والخطب المنبرية)، ووثائق وعقود وقصائد شعرية متنوعة باللغتين العربية والأمازيغية. أما مؤسسها الشيخ الموهوب أولحبيب فهو من مواليد سنة 1822م، وعائلته عريقة في العلم كان أفرادها يتولون مهن القضاء والتدريس والتوثيق، ويقومون برأب الصدع بين المتخاصمين، ومن أبرز أساطينها الذين ذكرهم الحسين الورثلاني في كتابه المذكور آنفا، الشيخ سيدي عيسى بن لحبيب. وبعد أن حفظ القرآن على يد والده الشيخ البشير، انتقل إلى عدة زوايا ببلاد الزواوة بغرض الدراسة والتحصيل منها على الخصوص زاوية صدوق(بجاية) وزاوية اسحنونن بعرش آث يراثن(تيزي وزو)، ليعود بعد ذلك إلى مسقط رأسه للتدريس والإمامة والتأليف ونسخ الكتب القيمة. وكانت له صلات واسعة مع العلماء في جهات عديدة خاصة في منطقة آث يعلى، التي تعد أيضا إحدى قلاع العلوم والمعارف في عمق بلاد القبائل. هذا وقد حاولت الإدارة الفرنسية إغراءه بالوظيفة لكنه رفض، وقد أثار موقفه هذا غضب فرنسا فشددت التضييق عليه إلى درجة تعرضه للسجن مرتين، سنة 1864م، ثم في سنة 1871م، وعقب خروجه من السجن فرضت عليه الإقامة الجبرية. والجدير بالذكر أن هذه المكتبة قد تعرضت للحرق على أيدي الفرنسيين سنة 1957م خلال الثورة التحريرية الكبرى، لذلك لم يبق منها إلا النزر اليسير، ويعود الفضل في إنقاذ ما تبقى منها إلى جهود السيدة ربوح زينب (الزهيرة) زوجة محمد الزروق بن محمد المهدي مشهد - حفيد الشيخ الموهوب- التي قامت بدفنها لصونها من أخطار الفرنسيين، إلى غاية استرجاع الاستقلال سنة 1962م. وظل هذا الكنز المعرفي نسيا منسيا معرضا للتبعثر والتشتيت، بفعل توزيع بعض مخطوطاته على جهات مسؤولة عديدة، إلى أن تكفل به السيد جمال الدين مشهد - أحد أحفاد الشيخ الموهوب - منذ سنة 1985م بطريقة علمية، وكللت جهوده الجبارة بترميم مقر المكتبة بقرية ثاله وزرار، كما نجح في فهرسة حوالي 475 وثيقة، ثم قام بنشرها بمساعدة جامعة أوكسفورد بلندن في كتاب بعنوان "فهرس المخطوطات الإسلامية بمكتبة الشيخ الموهوب أولحبيب" سنة 2004م. وتقديرا لجهود هذا العالم العامل المخلص للثقافة، فإنني أهيب بمن يحمل الهم الثقافي من حكام ومحكومين إلى ضرورة شد أزر السيد جمال الدين مشهد، حتى يتمكن من إنهاء مشروعه الحضاري الكبير، الذي سيعيد الاعتبار لهويتنا الجريحة ولتاريخنا المهلهل. نفحات من شعر البشير أملاح من الطبيعي أن يحظى الشعر في مثل هذه المناسبات بمكانة مرموقة، مادام يهز النفوس بجمال العبارة وسلاسة المبنى، الذي يتخطى مساحة العقل بالخيال المجنح نحو رحاب العواطف الجياشة. كيف لا وقد أنجبت بلدية فرعون أحد أساطين الشعر الأمازيغي، وهو البشير أملاح ( 1861- 1930م ) من قرية "ثيملاحين" المشهورة منذ القديم بصناعة ملح الطعام، واستغلاله للمقايضة التجارية مع الجيران. ولعل ما يميز حياة هذا الشاعر الفذ، جمعه بين العلوم الشرعية وملكة الإبداع الشعري، فقد درس في الزاوية وحفظ القرآن الكريم، الأمر الذي أهله للقيام بمهمة الإمامة في قريته، لكنه لم يلبث- لأسباب اجتماعية- أن تخلّى عنها لبعض الوقت ليتفرغ للطرب في ظل فرقة إيضبالن المشهورة في بلاد الزواوة. وهكذا صدق عليه ذلك القول المشهور المتداول في محيط أهل الفن والغناء في العاصمة، مفاده: [الطالب إذا جاح، يولي آلاجي ولى مداح]، ولا شك أن هذه المقولة تؤكد التواصل القائم بين الزاوية، وبين مجال المدح والطرب عبر التاريخ. وبالنظر إلى هذا الجانب، فإن مسار حياة البشير أملاح يشبه إلى حد ما حياة الشاعر الكبير، سي محند أومحند، لكن نقطة الخلاف بين الرجلين تتمثل في رجوع الأول إلى وظيفة الإمامة في رحاب حياة عادية في كنف المجتمع، في حين أنهى سي محند أومحند مسار تشرده في مستشفى عين الحمام، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة سنة 1906م. أغراضه الشعرية ومن الطبيعي أن تتنوع أغراض الشعر في إبداعات البشير أملاح وفق أطوار حياته المختلفة التي تأرجحت بين المغامرة والخلاعة والتوبة، فقد سخط على حظه العاثر الذي حرمه من العيش الكريم، وأودى به إلى الحياة السفلى حيث التشرد والمجون فقال: [- 1- الله كتش ذارزاق/ ثعلمط أثوالاط / أسلقلوب أمك ألاٌن ///- 2- حد ثفكيضاسد أك لرزاق / ذاغلمي إك نفٌق / نتسا ذزواجيس أزهان///- 3- ماشي أمنك ذامشثاق / الزلط أذ لعشق / قيلمحنى أرنيغ إبرذان]. هذا وقد حاول التغلب على هاجس اليأس بإقناع نفسه بعامل القضاء والقدر، وقال في هذا السياق: [-1- والله أورتس نشود أورتس نفسي / أيول أتهني / أغ المكتوب أثقيمط ./// - 2- بالاك أدلفوط ذلجهلي/ أتس غفلط ماطي / أكسمين مدن ألغالط . /// - 3- ثاخبزثيك أداس فورسي / أسغور سيدي ربي / مكتوبت قبل أدلالط] . وعرف الشاعر البشير أملاح حياة التشرد، فهام في العديد من دروب بلاد الزواوة الوعرة دون أن يلوي على أحد، ووصف حالة تسكعه بقوله: [- 1- سك أبقايث أرمي اذميشلي/ أيد بذيغ ثيكلي / ضلبغ ذكساداة أسمح./// - 2 _ موقراغد الغاشي تسيرني/ أبذاند أسثقسي / ذاشو ذسباك نرواح ./// - 3 _ حاشا وي لان أم نكي / أيجربن لمحاني / إيومي أرى دحكوغ الصح.] . ومما تجدر الإشارة إليه أن شعره المحفوظ في الذاكرة الجماعية، قد حظي باهتمام جهود الباحث، كمال بوعمارة، الذي تعمق في دراسة أعماله المتنوعة، وخصص لها كتابا هاما بعنوان: [ si lbachir amllah (1861-1930)un poète-chanteur célèbre de Kabylie] صدر سنة 2004م عن دار" éditions talantikit" ببجاية. نموذج لشعر الجيل الجديد ألقيت قصائد شعرية متنوعة اخترت منها قطعة للسيد هارون عمار، تناول فيها موضوع الباطل وغياب العدل على لسان الحيوان، دار فيها الحديث بين الثور المعروف بكده وعمله، وبين الحمار الذي استفاد من جهود الثور، وعندما احتج هذا الأخير على هذا الوضع غير العادل بطريقة سلمية، غضب منه مالكه وهدده ببيعه للجزار: [- 1 - يتسرو وزكر أوكداينين / جانت أورسفكين ثيمزين /أذغا يساول ينى ثي تسيمسباطليين/ أذنك إثنتيكرزن يتشاثنت بوثسميرين / مي اسيسلى فاف أوخام / يكر أغرس أسلحمق / إناياس كتش ذاقوقام / أمك اثساولض سلحق ./// - 2 - أكزنزغ إيو يزار / أكسوميك أذي توافرق/ يخلع وزقر مي يسلى / إيواوال يلان ينق / يسموهري أكرند الجيران / أم الرعد مي يطرطق / أذيس يتساضسا وغيول / أقموشيس يشرٌق./// - 3 _ أولى ذنتسا يناياس / أورثبني أدونيث فلحق / مايلى أيحوزيك الحيف / صبراس إطيج أديشرق /ما يلى تيسمين إثويسمض / أولى ذاغيول يسعى الحق / ينى وزكر إيمانيس / أذنك إزذين ذيلحمق /// - 4 _ أسمي كرزغ إيوسميض / كثبارذا إقدودق / ثورا إيمي يينكر سيذي / ذاغيول إكسعان الحق / ذايي أكحبس أوسفرو / إيوكن أثيد نسفرق/ ثايي تساماشاهوتس أوزكر / أفمدن إيثنطبق.]. وخلاصة القول أن أهل بلدة فرعون قد أكدوا من خلال هذه النشاطات الثقافية المتنوعة، تمسكهم بهويتهم الجزائرية، التي يشكل فيها الإسلام عمودها الفقري، وعلى أساسها يرحبون بالعلم ويتواصلون مع المعرفة أنّى كان موقعها ومنبتها، فهي ضالة المواطن المحصن.