"الجهل هو اللي خلا بابا يفجر نفسه، ماشي الزلط" عبارات تلفظ بها يونس الابن الأكبر لرابح بشلة مفجر مقر المفوضية السامية للاجئين بحيدرة "لو لم يكن جاهلا لما استطاع التنظيم استغلاله وتمويله لجلب الأسلحة والمتفجرات، متجاهلين الحالة الاجتماعية لأبنائه" قالها يونس وملامح وجهه تملي بمزيج من الحسرة، القلق والنرفزة. روبورتاج: ريم.أ وُلد رابح بشلة في 13جانفي 1944 حيث توفي والده في الثورة وعمره لا يتجاوز 13 سنة، وتولى تربية أخيه الأصغر وأخواته الثلاثة. وهو أب لبنتين، آسيا وصبرينة، وثلاثة أبناء يونس الذي يشتغل قابضا في حافلة نقل عمومي، ومختار الذي اختار "الحرڤة" ولم يعرف له طريق بعدها، وآخر العنقود عثمان الذي يقوم بتصليح الدراجات في كوخ وسط المنزل يكسب بها بضعة دنانير في الأسبوع، كان يعاني من مرض الكلى و"عرق لاسا" قبل أن يلتحق بصفوف التنظيم الجهادي، ولم تعرف العائلة تطورات وضعه الصحي بعدها بسبب الانقطاع. وجهتنا الأولى كانت ابن المرحومة عائشة سطوحي المنحدرة من عائلة قدمت سبعة شهداء من أبنائها في سبيل الوطن. هذا الأخير الذي اعتذر عن الإدلاء بأية تصريحات لها علاقة بخصوصيات عائلة بشلة، كونه انقطع عنها منذ ان غادر في 1990 أرض الجزائر، وأقام في المهجر ليعود هذه السنة ويقع عليه الخبر كالصاعقة. كانت الساعة تشير إلى منتصف النهار و45 دقيقة لما وصلنا إلى حي هراوة، اذ تقطن عائلة رابح بشلة المكنى إبراهيم أبو عثمان في صفوف تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، والذي يقع في شارع ضيق على مستوى الزق المقابل لمقر الشرطة، حيث قابلنا ابنه الأكبر يونس الذي بدأ يصرخ محاولا منعنا من التصوير، بعبارات مهذبة رغم صوته المرتفع... حاولنا استئذانه لدخول المنزل ولو لوقت قصير، لكنه اعتذر ومانع بشدة قائلا "أنتم الصحافة »كذابين«، إنكم تشوّهون سمعتنا، ألا تكفيكم المصيبة التي حلت بنا؟". حاولنا تهدئة الموقف لكسب ثقته وإقناعه أننا لسنا هنا بصدد التشفي، بل لرصد الحقيقة وكشفها للعيان، لكنه بقي دائما مصرا على كلامه. دخل وأوصد الباب في أوجهنا، بقينا أمام الباب محاولين التواصل مع النسوة اللائي كن وراء الباب وصوت البكاء والصراخ يتصاعد إلى آخر الشارع، تبادلنا معهن بعض عبارات المواساة من وراء الباب ما جعلهن يطمئن ويفتحنه شيئا فشيئا، ثم طلبنا الإذن بالدخول وتصوير المنزل. سكتن هنيهة، محدّقات بنظرات مبهمة، ثم قالت آسيا البنت الكبرى لرابح بشلة "انظروا لحظة، سأتشاور مع أخي يونس وأعود...ذهبت اسيا ورجع يونس إلينا، خرج، وأغلق الباب وراءه وبقينا نتبادل أطراف الحديث معه في جو هادئ إلى أن سمح لنا بالدخول وقال تفضلوا". دخلنا المنزل الذي كان عبارة عن طابق أرضي، متكون من غرفتين فقط، وبناؤه غير مكتمل، محاط بساحة صغيرة وشيء من الأخضر، يقابله منزلا آخر قديما، يعود لسنوات الاستعمار مزود بمخبإ تحت الأرض، قالت النسوة هناك انه كان مكانا لعقد الاجتماعات وقت الاستعمار الفرنسي. ألححنا على والدنا الاستفادة من قانون الوئام لكنه رفض تقربنا من الحاجة ذات 82 ربيعا، والدة الانتحاري رابح بشلة المعروف في الحي عمي علي. كانت عيناها محمرتين من شدة البكاء ومغرورقتين بالدموع وتقول "لقد سمعت الخبر من الجرائد التي أطلعني عليها الناس، إلى أن حضر أفراد الشرطة وأخذوني أمس لإجراء تحاليل "الأ دي أن"، ووعدوني بظهور النتائج يوم السبت، أنا لن أسمح لهم باتهام ابني، إن ابني بريء"، تنهال بالبكاء تستغفر وتقول "لن اصدق انه ابني حتى أرى الدليل القاطع"، وتعود الى البكاء بحرقة مطأطئة رأسها "لم أره إلا مرتين منذ أن التحق بالجبل". وحسب تصريحات العائلة التي انقطعت عنها أخبار الوالد منذ صعوده الجبل فإن أولاده سعوا مرتين يترجونه للنزول، محاولين إقناعه بالاستفادة من الوئام المدني والمصالحة الوطنية لكنه رفض، وهو الأمر الذي اعتبره يونس قرارا يخص والده ولن يتدخل فيه كونه الابن وهو الوالد. وتقول البنت الكبرى آسيا "لم نكن نتمنى أبدا أن يموت والدنا بهذه الطريقة وهو الأمر الذي لم نستطع تقبله لحد الساعة". وقد تربى الابناء محرومين من حنان الاب الذي فارقهم في 1995 والتحق بالجبل، وترك ابنه الاصغر وعمره لا يتجاوز 6 سنوات، وترك ابناءه يبحثون عنه الى ان أخبرتهم الشرطة انه التحق بالجبل، وقاموا بحجز سيارته من نوع "بيجو" التي كانت حيلته الوحيدة التي كان ينوي العمل بها ك"طاكسي". الأم تتحسر على فراق ابنها توفيت الأم عائشة سطوحي بعده بمرض السرطان، ليبقى كل من اسيا، صبرينة، يونس، مختار، وعثمان يتامى الاب والام، حيث تقول اسيا "لقد تشردنا بعد وفاة والدتي فهي التي تطهي المحاجب وتبيعها كي نعيش، اضافة الى مصاريف الانبوب الصحي لصرف الفضلات السائلة التي كانت حياتها متعلقة به". حيث تعيش عائلة بشلة في هراوة فقرا مدقعا، في منزل جدتهم (ام الوالدة)، لكن هذا لم يكن مبررا لما فعله الاب بالنسبة للابناء، حيث يقول يونس "والدي كان جاهلا، فلولا جهله لما التحق بالجماعة التي كانت تموله لشراء الاسلحة والمتفجرات ودفعته لتفجير نفسه، لكنها لم تفكر يوما في أوضاع عائلته وابنائه لا ماديا قبيل التفجير ولا الآن بعده، ونحن تحت الصدمة سيما وأننا لم نستفق بعد من فقدان الوالدة التي كانت سندنا الوحيد". اما الجدة، التي تشبه كثيرا ابنها رابح، لازالت الى غاية كتابة هذه الاسطر تطالب بأبسط حقوقها كونها ابنة شهيد ولا تملك لا منحة ولا مسكنا يأويها، فهي تنتقل بين منزل ابنتها ومنزل أحفادها (ابناء رابح بشلة) الذين لا يجدون حتى مساحة للراحة في المنزل، حيث اضطر يونس الى كراء غرفة صغيرة ليتزوج فيها العام المقبل. التحق بالجبهة الاسلامية للإنقاذ طمعا في زوال الظلم والحقرة كان ابناء رابح بشلة غير مقتنعين بأن والدهم من فجر نفسه، ما جعلنا نطلب منهم مقارنة الصور المعروضة على الجرائد، لتجيب آسيا وتقول "نحن لا نتذكر حتى ملامحه بالتفصيل"، وهو ما جعلنا نطلب صورة له، حيث أخرج يونس صورة لوالده، يقول انها كانت في سنوات التسعينيات قبل ان يلتحق بالجبل، حيث أخذها لتقديم ملف ابناء الشهداء للاستفادة من تسريح لعمل طاكسي يكسب منه قوت ابنائه، لكنه لم يلق شيئا، ما جعله يلتحق بالجبهة الاسلامية للانقاذ انذاك طامعا ان اوضاع البلاد ستتحسن وسيزول الظلم والحقرة حسب تصريحات الأبناء، حيث تضيف شقيقة زوجته، "لقد كانت لديه ثقة في الجبهة الاسلامية للانقاذ وظن انهم مصلحون، لهذا انجر وراءهم بعد ما ذاق ذرعا من الحقرة والظلم سيما بعد ما فقد الأمل الذي علقه على مشروع الطاكسي الذي لم يلق ردا عليه رغم انه ابن شهيد وكل وثائقه سليمة"، كما يشهد له أقاربه انه كان طيبا جدا قبل ان يقرر الصعود الى الجبل، ويحاول كسب قوته من نشاط الفلاحة الذي كان يكسبه القليل من الخضر والفواكه، يعيش بها، الا انه كان يوزع نصفها على الجيران والأقارب، حيث كان يعرف في الحي بعمي علي واسمه الحقيقي رابح، فقد تربى يتيما بعد ما توفي والده في الثورة وعمره لا يتجاوز 13 سنة. ودفعنا الفضول الى طلب صور للأم عائشة المتوفاة والتي كانت تدعى "موني"، حيث اطلعنا على آخر صورة لها قبل وفاتها وهي مستلقية على مفرش (مطرح) لا يتجاوز سمكه 5 سنتيمترات وهو ما يبين حالة الفقر التي كانوا يعيشونها. حرم من حقوقه فقرر الالتحاق بالجماعة، وزوج بناته في ال20 لقطع ألسنة الناس طلب رابح بشلة الاستفادة من قطعة تراب من المجموعة الخاصة بأبناء المجاهدين، لكنه لم يتلق ردا، ما جعله يطلب حق الطاكسي الذي كان أمله الوحيد في تحسين اوضاعه، لكنه لم يتحقق هو الآخر، وهو ما جعله يلتحق بالجماعة. ورغم انه هجر ابناءه الذين فقدوا حِنية والدهم، الا انه حرص على تزويج بناته آسيا وصبرينة في سن مبكرة لا يتجاوز 20 سنة، لقطع ألسنة الناس لما كان يشاع في المنطقة ان بنات بشلة الإرهابي لن يتزوجن بسبب والدهن. اما بخصوص رأيه في التنظيم الارهابي، يجيب يونس "لن ادخل في متاهات السياسة، فأنا لا أريد الا العيش في سلام مع اخوتي واخواتي، لكن "الحق باين و الباطل باين" او بالأحرى الحلال بين والحرام بين، وهناك من العباد من جهلوا، فإن عارضت أم ساندت فلن اغير شيئا". مشروع الأبناء لكسب لقمة العيش باء بالفشل يواصل يونس كلامه وهو مضطرب، تارة يتوتر وتارة يهدأ، قائلا "لقد بعنا قطعة ارض تعود لجدتنا (أم الوالدة) واستلفنا مبلغا من المال كي نشتري حافلة نعمل بها لكسب قوت العيش، ورغم هذا لم نسلم من كلام الناس الذين قالوا ان القاعدة تقوم بتمويلنا". وعلى هذه العبارات المؤلمة، ودعنا العائلة وتوجهنا نحو باب الخروج الذي كانت تظهر عليه رسومات لعلامة السلام مع حروف لفرق شهيرة لكرة القدم، وتبعتنا آسيا وجدتها وهي تستحلفنا أن نزودها بأية مستجدات بنظرات توحي بالوحدة والحسرة وكأنهن تبحثن عن سند يواسيهن في المحنة التي لم يعرفن لها مخرجا.