لم يكن الخليفة عمر ليعيد فتح ملف سقيفة بني ساعدة التي احتضنت مبايعة أول خليفة لإدارة شأن المسلمين، لو لم يتوجس خيفة على المسلمين من السقوط في الفتنة، بعد أن أبلغ بما قاله أحدهم "لو قد مات عمر بايعت فلانا" وقد قرأ فيه ما اعتقد أنه بداية خوض العامة بلا علم في شأن إمارة المسلمين، والتساهل مع أمر البيعة، وكان قد تأهب لمفاتحة من حضر من المسلمين الحج في آخر حجة له، قبل أن يأخذ برأي عبد الرحمن بن عوف ويرجئ الحديث حتى عودته إلى المدينة. يذكر ابن كثير أن عمر قال وقتها: إني قائم العشية إن شاء الله في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم. فقال له عبد الرحمن بن عوف: "يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وأنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكنا، فيعون مقالتك ويضعوها مواضعها. فنزل عمر عند النصيحة وأرجأ الأمر حتى عاد إلى المدينة. جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد أيها الناس فإني قائل مقالة، وقد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها فلا أحل له أن يكذب علي" ( ....) ألا وإن رسول الله قال: "لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" وقد بلغني أن قائلا منكم يقول: "لو قد مات عمر بايعت فلانا "فلا يغترن امرؤ أن يقول: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وأنها كانت كذلك، إلا إن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله أن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله، وتخلف عنها الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: "يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار" فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان، فذكرا لنا الذي صنع القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين. فقلت ( والكلام دائما لعمر): والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. فقلت: ماله؟ قالوا: وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، وهو كان أحكم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حتى سكت. فقال (أي أبو بكر الصديق): أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم. وأخذ بيدي (الكلام لعمر) وبيد أبي عبيدة ابن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، إلا أن تغير نفسي عند الموت. فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فقلت لمالك: ما يعني: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؟ قال: كأنه يقول: أنا داهيتها. قال (والكلام لعمر): فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشينا الاختلاف. فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعدا. فقلت: قتل الله سعدا. قال عمر: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا. وفي البداية والنهاية لابن كثير روايات كثيرة استقاها من أكثر من مصدر وراوية، تصدق ما حدث به عمر عموم المسلمين من المهاجرين والأنصار ممن حضر المسجد، ومنهم كبار صحابة رسول الله، وكثير من رواة الحديث والسيرة والنبوية، فلم يطعن أحد في رواية الخليفة عمر، وقد آثرت أن أسردها كاملة حتى يتاح للقراء مشاركتي في تدبر ما ينبغي لنا أن نستخلصه اليوم من لحظة فارقة مثل هذه في تاريخ المسلمين، شهدت ميلاد أول إمارة تدير شأن المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت محض اجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم، قتلت الفتنة في المهد، وفي بحر ساعة من الزمن أو أقل تحقق فيها إجماعهم على بيعة أبي بكر خليفة للمسلمين. (يتبع)