خوف الصحابة من الوقوع في الفتن وقد حذروا منها في المحكم من التنزيل وفي الأحاديث النبوية الشريفة هو الذي يكون قد حفزهم على الدخول في استشارات عاجلة لاختيار خليفة يتدبر شأن المسلمين، احتضنتها سقيفة بني ساعدة، نتوقف فيها عند رواية أوردها ابن كثير على لسان الخليفة عمر في جزءين، قبل التوقف لاحقا عند ما كان ينبغي للمسلمين استخلاصه من اجتهاد الصحابة ونجاحهم في تحقيق الإجماع، وغلق باب الفتنة. افتتن المسلمون والرسول بين ظهرانيهم، كما أخبرنا القرآن الكريم، وكانوا أكثر عرضة للفتنة من بعده، بل في اللحظة التي وجب عليهم اختيار من يخلفه في إدارة وتدبير أمر المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم قد حذرهم من الفتن في كثير من الأحاديث، لعل أشهرها حديث حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم". قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". وعن أنس بن مالك عن أسيد بن خضير: أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله، استعملت فلاناً ولم تستعملني؟ قال: "إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني" وفي تحذير صريح من الفتن، روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتله كفر"، وقوله: "من حمل علينا السلاح فليس منا". وفي حديث رواه سعيد: قال رسول الله (ص) : "يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن''. وفي حديث روي عن الحسن، عن الأحنف بن قيس قال: خرجت بسلاحي ليالي الفتنة، فاستقبلني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أريد نصرة ابن عمِّ رسول الله (يقصد عليا كرم الله وجهه). قال: قال رسول الله: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار". قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه". لا شك عندي أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على علم بما حذروا منه من فتن تختبرهم في دينهم ودنياهم، وكان الخوف من الوقوع في الفتنة لا يفارقهم، وقد روي عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبي بالمدينة، ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: "هلكت أمتي على يدي غلمة من قريش". فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول: بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشأم، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم؟ قلنا: أنت أعلم. وقد كان الصحابة على هذا القدر من الحرص والخشية من الوقوع في الفتنة، حتى وهم يدخلون الاختبار الأول بعد وفاة الرسول (ص)، عند ظهور الحاجة إلى اختيار من يتولى إمرة المسلمين من بعدهم، ولا شك أن قصة سقيفة بني ساعدة حاضرة بأكثر من رواية في أشهر كتب التاريخ، وقد اخترت ما جاء عنها في الجزء الخامس من كتاب البداية والنهاية لابن كثير، لأن تفاصيل الحادثة جاءت على لسان عمر بن الخطاب نفسه، وقد حدث بها على ملأ من المسلمين بالمدينة: مهاجرين وأنصار وهو خليفة، بعد أن جاءه رجل فقال: إن فلانا يقول: "لو قد مات عمر بايعت فلانا" في حديث روي عن عبد الرحمن بن عوف، فقال عمر: إني قائم العشية إن شاء الله في الناس، فمحذرهم هؤلاء الرهط. قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وأنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس، فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكنا، فيعون مقالتك ويضعوها مواضعها. قال عمر: لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه. وقد فعل، في خطبة مطولة، أريد أن أعرضها في الحلقة القادمة كما وردت، ومعها روايات أوردها ابن كثير من مصادر أخرى، قبل أن نعرج على تدبر ما جاء فيها، لأن ما حدث في سقيفة بني ساعدة كان لحظة فارقة في تاريخ المسلمين، تجيب عن كثير من الأسئلة المعاصرة حول الأصل في تدبر إمارة المسلمين، وتحسم كثيرا من الجدل المتواصل بين خاصة المسلمين وعامتهم، وتقيهم شر الوقوع في الفتن، لو أن النخبة من علماء الأمة أعادوا قراءة أحداث قصة السقيفة، بعيدا عن تحكيم الأهواء والعصبيات العرقية والمذهبية. (يتبع)..