في هذا الحوار ل"الشروق"، يتحدث أحمد الغربي، أحد شيوخ الزيتونة وإمام المسجد الحنفي بسليمان التونسية، عن أسباب التطرف الديني الذي أصاب الأمة العربية، ويرجعه إلى الفكر الوهابي، ويدعو إلى ضرورة وقف ما سماه "الزحف السلفي" عن طريق إعادة تفعيل المذهب المالكي وإنشاء مجمع لفقه هذا المذهب يضم أبرز علمائه في المغرب العربي. من منظور ديني كيف يمكن تفسير التطرف الذي تعرفه الأمة الإسلامية؟ ظاهرة التطرف والغلو في الدين هي ظاهرة قديمة وجدت قبل مجيء الإسلام عند اليهود والنصارى الذين حرّفوا ديانتهم عن مواضعها فكان قد حلّ الغلو والتطرف مكان السماحة والتيسير، وقد تحدث عنهم القرآن الكريم في عديد الآيات ونبههم من أخطار هذا التشدد: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77)، ولم تنقطع هذه الظاهرة السيئة عبر مراحل تاريخ الأمة الإسلامية بل أخذت صورا وأشكالا أخرى برزت بالخصوص في الفرق الاعتقادية القديمة كالقدرية والجهمية والباطنية... وبعض الفرق المعاصرة كجماعة التكفير والهجرة والقاعدة وداعش والنصرة وغيرها..... من المؤكد أن التطرف لم يأت اعتباطا ولم ينشأ صدفة بل له أسبابه ودواعيه الكثيرة ومنها: الجهل بالدين وبمقاصده السمحة مما يدفع ببعضهم إلى الظن أنه أصبح من أهل العلم والاجتهاد في الدين وهو يجهل الكثير الكثير. كما أن من أسبابه الجفوة بين العلماء الحقيقيين والشباب وابتعادهم عن مجالستهم، الأمر الذي خلق هوة عميقة وجفوة كبيرة بينهم وبين علماء الأمة فوقعوا في الانحراف والتشدد والتعصب الأعمى والتقليد الأخرق الذي قادهم إلى الضلالة وتنكُّب الطريق القويم فدفعهم تطرفهم إلى أنهم لم يحللوا ما أحلّ الله ولم يحرموا ما حرّم الله، وهذه ربما من الأسباب الرئيسية للتطرف في الدين إلى جانب عوامل أخرى كالظروف الاجتماعية والاقتصادية.
ألا تعتقد أن الخطاب الديني والمرجعية الدينية صارا دون جدوى ونحن نرى الشباب المسلم يستجيب لدعوات إقامة "الدولة الإسلامية" التي أطلقها المسمى أبو بكر البغدادي؟ لا شك أن الخطاب الديني المنتشر اليوم عبر وسائل الإعلام المختلفة وفي المساجد يعاني من علل كثيرة جعلته غير قادر على إقناع الناس والشباب بالخصوص وإشفاء غليلهم من المعرفة الدينية الصحيحة واستقطابهم والتأثير فيهم ووقايتهم من الوقوع في حبائل التشدد والتطرف. ولذا لا بد من تطوير هذا الخطاب الديني بما يتماشى ومقتضيات العصر وتطلعات الشباب وطموحاتهم واجتناب الخطاب الكلاسيكي المليء بالأساطير والأحاديث المكذوبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الخطاب الديني في المساجد أضحى لا يستميل الناس وخاصة الشباب لأنه خطابٌ بعيد عن مشاغلهم وهمومهم ولا يسعى إلى حل مشاكلهم اليومية ولا يجيب حتى على تساؤلاتهم الدينية.
أي مستقبل للمرجعية المالكية في تونس وشمال إفريقيا؟ لا شك أن المذهب المالكي هو المذهب السائد في شمال إفريقيا منذ أن قام بنشره علي بن زياد والبهلول بن راشد وأسد بن الفرات وغيرهم، وقد حافظ سكان البلدان المغاربية على اتباع هذا المذهب وما يزالون إلى يومنا هذا. لكن هذا لا يمنع أن نقول إن بعض المذاهب الأخرى قد بدأت تأخذ مكانها في المشهد المغاربي المذهبي وخاصة المذهب الحنبلي ويظهر من خلال تعدد الفتاوى والأحكام وصلت إلى حد التناقض الصريح، ما أدى إلى فوضى فقهية وإدخال البلبلة في العقول، وقد ساهمت في ذلك الفضائيات الدينية الكثيرة ذات التوجه الحنبلي الوهابي والمملوكة للدولة السعودية، إضافة إلى مواقع الفتاوى الكثيرة على الأنترنت، ما ساهم في زعزعة المرجعية المالكية في بلاد المغرب العربي وضعف إشعاعها وتخلفها في إيجاد الحلول الفقهية للمشاكل المستجدة لدى الناس وعند الشباب بالخصوص، وقديما قيل (تحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من فجور). ولذا لا بد من مقاومة هذا الزحف الوهابي من خلال إعداد خطة متعددة الجوانب يشرف على تنفيذها أهل الاختصاص من العلماء والفقهاء من البلدان المغاربية مثل تأسيس مجمع فقهي يتركب من خيرة العلماء الموجودين في بلداننا يعتمد على الاجتهاد الجماعي مع الأولوية في الاعتماد في الفتوى على المذهب المالكي، الغاية من ذلك تعديل المشهد الإعلامي المذهبي حتى يستعيد المذهب المالكي حضوره وإشعاعه وهذا ليس فيه تعصب ولا تعسف على بقية المذاهب السنية الأخرى.
لم يعرف المجتمع التونسي وخاصة الشباب اندفاعا كالذي يشهده في الوقت الحالي نحو حلم إقامة "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، لماذا وكيف يمكن توجيه الشباب؟ إن ظاهرة التحاق كثير من الشباب بتنظيم الدولة (داعش) في سورياوالعراق وفي ليبيا بدافع تحقيق حلم إقامة "الدولة الإسلامية" كما يزعمون، هي ليست خاصة بتونس فقط بل ظاهرة مست كثيراً من دول العالم حتى التي لا تدين بالإسلام وهذا يشكل خطرا كبيرا على الأمن والسلم في العالم بسبب ما نلحظه اليوم من تصرفات "داعش" الوحشية في القتل والتنكيل بالأبرياء من الرجال والنساء وحتى الأطفال ومن سلوكات متشددة في محو آثار التاريخ الإنساني مثل تحطيم محتويات متحف الموصل وتجريف مدن أثرية كاملة بالعراق. كل هذا يدفعنا إلى التفكير في معالجة تقصيرنا نحو أبنائنا وبناتنا في الإحاطة بهم وحمايتهم من الوقوع في قبضة هذا الأخطبوط المتوحش عن طريق مراجعة معمقة لبرامج التعليم والتربية في جميع مراحله، إضافة إلى إعداد منابر إعلامية ومنتديات على شبكة الأنترنت تبين قيم الإسلام السمحة المعتدلة ودحض أطروحات فكر التطرف والتعصب الوافد على بلداننا.
من المصطلحات الأكثر تداولاً في وقتنا الراهن السلفية والوهابية، كيف تنظر إليهما؟ ولماذا تُتهمان بالعنف والتطرف وصناعة الإرهاب من طرف البعض؟ صحيح أن مصطلحي (السلفية والوهابية) من أكثر المصطلحات تداولا لدى الناس في المدة الأخيرة خاصة بعد بروز ما يسمى بالربيع العربي، وقد أخذت حيزا كبيرا من الاهتمام الإعلامي بعد أن فرّخت جماعات تدعو إلى العنف والغلو والتطرف تحت عباءة الدين وهو منها براء. ويمكن أن نقول إن هذه الجماعات المتطرفة قد استمدت جل أطروحاتها من الفكر الوهابي المتزمّت والمنغلق، ففكرة الطاغوت مثلا نجدها عند محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية تعني كل ما يُعبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله ورؤوس الطواغيت عنده خمسة: 1) الشيطان. 2) الحاكم الجائر المغيِّر لأحكام الله. 3) الذي يحكم بغير ما أنزل الله. 4) الذي يدّعي عِلم الغيب من دون الله. 5) الذي يُعبد من دون الله وهو راض بالعبادة. ما يهمنا في هذا المجال العنصر الثاني والثالث وهو الذي تعتمده اليوم الجماعات السلفية الجهادية المتطرفة في تبرير حروبها الإرهابية على الحكام وتفكيك الدول حتى تعمّ الفوضى المجتمعات ويسهل على هذه الجماعات الانقضاض على الحكم وهي تعتقد وهماً أن ذلك هو الجهاد الذي أمر به الإسلام.
ما حقيقة وجود مساجد في تونس خارج سيطرة الوزارة الوصية؟ أَلا يعدّ سعي السلطات إلى استعادة المساجد محاولة منها للاستحواذ على المنابر وتسيير الخطاب المسجدي وفق نزواتها وأهوائها؟ صحيح أنه قد وقع انفلات وضعفت الدولة بعد الثورة وكان من مظاهر ذلك خروج بعض المئات من المساجد من سيطرة سلطة الإشراف ووقوعها تحت هيمنة السلفيين المتشددين، حيث اعتلى المنابر أئمة متطرفون اتسمت خطبهم المنبرية النارية بالدعوة إلى العنف والتقاتل بين الناس وإشاعة الكراهية والبغضاء وتحريض الشباب على السفر إلى سورياوالعراق للجهاد حسب زعمهم، ولكن الدولة استطاعت أن تسترجع كثيرا منها وهذا في رأيي لا يعدّ استحواذا على المنابر ولا تقييدا لحرية الخطباء في اختيار مواضيع خطبهم بل إن الإمام حرّ في اختيار ما يراه صالحا من مواضيع اجتماعية وغيرها بشرط أن لا يدعو إلى العنف والتطرف وإشاعة الكراهية بين الناس وأن يلتزم الحيادية وعدم توظيف المسجد لخدمة أهداف فئوية وحزبية وهذه هي رسالة المسجد النبيلة.
شهد جامع الزيتونة الكثير من المشاكل بين الشيخ حسين العبيدي والسلطات التونسية كيف يمكن تجاوز هذا الخلاف وما مستقبل الجامع في الوقت الراهن؟ في الحقيقة أن مشكلة جامع الزيتونة هي صورة عاكسة للانفلات الذي عاشته المساجد في كامل تراب تونس وفي كامل السنوات الثلاثة الماضية، واعتلاء شيخ منبر الزيتونة بهذه الطريقة التعسفية لا يخدم هذا المعلم الديني بل يسيء إلى تاريخه ورجاله. وعلى حد علمي لم يقع تعيين إمام إلى يومنا هذا. إن الدور الريادي الذي قام به جامع الزيتونة في نشر العلوم الشرعية لا يُخفى على أحد حيث كان قبلة الطلبة من كل بقاع العالم وتخرّج فيه الكثيرُ من الشيوخ والعلماء الأجلاء سواء من تونس أو من خارجها ونذكر منهم بالخصوص العلامة محمد الطاهر بن عاشور من تونس والعلامة عبد الحميد بن باديس من الجزائر الشقيقة وغيرهما. واليوم بات من الضروري أن يعود لهذه المنارة العلمية إشعاعها من خلال تطوير مناهج التدريس وإحداث تخصصات علمية جديدة على غرار ما هو موجود في جامع الأزهر بمصر.