عندما "اندلعت أحداث الخليفة"، كنت أكتب عامودا ساخرا في الشروق العربي، فكتبت يومها ما معناه، أن مصطلح "الخليفة" هو منصب رئاسة الدولة في نظام الخلافة، ونظام الخلافة لا يقبل التعدد في المنصب؛ لأن مصطلح الخلافة لا يقبل الجمع، وإذا جمع يتحول إلى العكس تماما، فمصطلح خلافة المفرد إذا جمع في العربية فإنه يصبح خلافات، والخلافات من أخطر ما تصاب به الحياة السياسية، وقلت يومها على لسان الخليفة: "انا أردتها خلافة وهم أرادوها خلافات فاختلفنا"، ومن ثم فإن قضية الخليفة لا تحرج عن هذا الإطار، وهو إطار الخلافات بين العصب واللوبيات. وعندما كتبت ذلك، إنما انطلقت من الأعراض السياسية والاقتصادية، للمرض الإجتماعي العام المتجذر في البلاد، ومن بعض التصرفات الإدارية، التي أشاهدها ويتابعها كل جزائري، فعبرت عن ذلك بشكل ساخر، للتعبير عن موقف سياسي من طبيعة نظام قد يتبناه كل مواطن وكفى، ولم أكن أدر ان القضية ستتطور إلى هذا المستوى، الذي فاق أضعاف ما كنت اتوقع من متهمين وشهود وقضايا متنوعة وعمق في الإدانة لجميع القطاعات، على غير العادة في القضايا الأخرى المماثلة، التي تولد فيها الجريمة كبيرة جدا، ثم تتضاءل شيئا فشيئا حتى لا تصبح شيء، اما قضية الخليفة، فقد بدت كبيرة وبقيت تكبر وتكبر وتكبر، وهي الآن في تقديري قد بلغت حدا من الكبر، لا يمكن معه إلا الإنهاء، بعدما طالت المحاكمة كل ما يعبر عن طبيعة النظام وقيمه والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية، وكأني بالمحاكمة محاكمة للنظام السياسي الذي مكَّن لهذا المجمع الاقتصادي المالي، أكثر منها محاكمة للخليفة المستثمر، وتعبير عن تحول لطبيعة نظام يريد أو يراد له أن يتخلى عن طبيعته. فمن ناحية شكل هذه المحاكمة، وما يظهر منها للناس، أن عدد المتهمين قارب بالمائة سنة 2007، ثم تضاءل إلى حوالي ثلاثة أرباع المائة، اما عدد الشهود فقد انطلق من الثلاثمائة وانتهى إلى ما يقارب الأربعمائة..، والفروق التي بين المتهمين والشهود تكاد تكون هي هي، لما بين الطرفين من تداخل، الشاهد قد يتحول إلى متهم والمتهم قد يتحول إلى شاهد، والمعلومات المتداولة تكاد تكون واحدة، ومستوى هؤلاء المتهمين والشهود ومواقعهم في المسؤوليات السابقة واللاحقة، متنوعة بتنوع المسؤوليات في المجتمع، فيهم الوزراء وأبناءهم وأقاربهم، ورجال الأعمال ومدراء مؤسسات ورجال أمن وشخصيات عامة...، ويضاف إلى كل ذلك التواطؤ المشجع على المخالفات وخرق القانون كما جاء على لسان أحد المسؤولين وهو يتحدث عن حركة الأموال من وإلى بنك الخليفة "لم تعرف اي عملية رقابة سواء من قبل لجنة التفتيش الخاصة بالبنك او من قبل لجان التفتيش التي أرسلها بنك الجزائر عكس ما ينص عليه القانون والإجراءات المعمول بها في التعاملات المصرفية" [البلاد]. أما من ناحية المضمون، فقد اختلط في تسيير مجمع الخليفة، تطبيق القانون بالعرف السائد في التسيير للمؤسسات الرسمية، بحيث تابع الناس الأوامر وكيفيتها وطرق تنفيذها أكثر مما شاهدوا نظام تسيير مؤسسات استثمارية، ولاحظوا عبيدا يأتمرون بالأوامر أكثر من مسؤولين يحرصون على إنجاح مؤسستهم التي يشتغلون بها، وعلى تطبيق القانون الحامي للمؤسسة والمجتمع معا..، والكثير من اولئك المسؤولين، كانوا موظفين في مؤسسات رسمية في الدولة، وكأن القوم جاءوا من مواقعهم الرسمية، ليمارسوا مهامهم في مجمع الخليفة بنفس الطريقة التي كانوا عليها، وربما كانوا يشعرون أنهم سيكون لهم من الحماية ما كان لهم من قبل، ومن ثم مارسوا مهامهم بوفاء كما كانوا يمارسونها، حيث لم يتعلموا من قبل احترام القانون كما يجب، ولم يدربوا على احترام المجتمع ومصالحه، ولم يعتادوا ان للدولة مؤسسات ينبغي أن تُخْضع لها مواقع الرجال مهما كانت مراتبهم ومواقعهم، وأن يحاسبوا إن لم تهدف تصرفاتهم للمصلحة العامة. إن المتابع لنشأة مجمع الخليفة، الذي ولد ونما بسرعة البرق، فأنشئ البنك وشركة الطيران والقناة التلفزيونية...، وبدت هذه المؤسسات الثلاث تحديدا منافسة للمؤسسات الرسمية، البنك والطيران والقناة، بحيث ظهرت أكثر مصداقية ومهنية مما اعتاد الناس من تسيب في المؤسسات الرسمية، ثم في لمحة من البصر أصبح هذا المجمع في خبر كان، لنلاحظ بعد ذلك أن هذا المجمع كان يسير بنفس الطريقة التي تسير بها مؤسسات الجزائر الرسمية، توظيف بالمعارف والوسائط والطرق الملتوية، قبلية وجهوية ومصلحية، تسيير وتنظيم بالأوامر والتعليمات من الأعلى إلى الأدنى، علاقات تبنى وأخرى تلغى بلا منطق ولا عقل، فلا قانون ينظم العملية ولا عرف معتمد ولا هم يحزنون، كل ما هنالك، ان الخليفة هو صاحب الشأن، يأمر كما يشاء ويفعل ما يريد، فلا يعصى له أمر... ويوظف فلان لأنه ابن فلان أو ابن عم علان أو صاحب من أصحاب صاحب الشان، الجميع خاضع للخليفة، الوزير والحقير والضعيف والقدير، بالقانون وبلا قانون، والكل في الركب سائرون .. في هذه القراءة "لأحداث الخليفة"، لا يهم فيها في تقديري ما تتوصل إليه المحكمة من احكام في حق زيد او عمرو، التي قد تصل في بعضها إلى الأشغال الشاقة، أو إلى انتفاء وجه الدعوى والبراءة في بعضها الآخر، وإنما الذي يهم هو أن هذه المحاكمة وما تُلِيَ خلالها من تصريحات وشهادات وتقارير، يعد محاكمة لنظام تسيير سارت عليه الجزائر خلال أربعة عقود على الأقل، تشربه المجتمع بكل فئاته وطبق في جميع مؤسسات المجتمع الرسمية والشعبية، أكثر منه محاكمة للخليفة ومجمعه، حيث كانت الدولة تسير إداريا، ثم أخضعت الإدارة للأديولوجية واستغلال النفوذ والجهوية والقبلية العرقية..، ثم تبنى المجتمع تلك الطريقة، لقضاء مصالحه التي ضاعت في ثنايا سوء التسيير وانحرافه، متمردا بذلك عن كل ما يمثل النظام، وسارت البلاد على هذا النحو إلى اليوم، بحيث يظهر القرار وتنفيذه، ولكن لا أحد يعرف صاحبه وذلك في أكثر من مجال..؛ بل إن المتتبع للخطابات الرسمية والشعبية، يلاحظ أن هناك احتجاجا ضد ضمير الغائب هو –المجهول-، هم فعلوا وأرادوا ويحبون ويسعون... ولكن من هؤلاء؟ لا أحد يدري وكأن التعمية مقصودة؛ حتى أصبح الإجرام قاسما مشتركا بين الجميع. وعليه فإن ما أفهمه من محاكمة الخليفة، هو محاكمة للنظام ولقيم اجتماعية وأخلاقية وسياسية واقتصادية سائدة في التسيير، استصحبها رجال الخليفة الذي هم خريجوا مدرسة النظام في التسيير والتدبير، يقدسون الأوامر ويتسابقون إلى تنفيذها اكثر من احترامهم للقانون، ويتنافسون على تنفيذ إرادة الآمر أكثر من احترامهم للشعب ومصالحه العاجلة والآجلة. وهذا الذي أقول ليس مجرد تحليل للمشكلة بقدر ما هي ملاحظات سجلتها من شهادات الشهود ودفاعات المتهمين، كاستحضار اسم والد عبد المومن خليفة وعلاقته بمدير الأمن الوطني علي تونسي رحمه الله، اللذين كانا رقما في المالغ –المخابرات الجزائرية أثناء الثورة-، وأسماء لبنات وأقارب وزراء، وأسماء مسؤولين سابقين في المؤسسات الرسمية، وعلاقة كل ذلك بالمؤسسات الرسمية التي وضعت أموالها في بنك الخليفة، والاتهامات الجاهزة المتبادلة بين الأطراف المتصارعة في هرم السلطة. كل ذلك لا يشعر بأن هذه المحاكمة مهما قيل فيها أنها محاكمة في قضية فيها مجرمين وضحايا، بقدر ما هي محاكمة لنظام حكم البلاد وانتهى إلى حتمية ألا أحد فوق المساءلة ولا أحد فوق المحاكمة وعلى القاضي أن يتحرر من ضغوط الماضي، وقد شوهد الكثير من ذلك، رغم بقاء التحفظ على بعض "ظلال القضية".