الإمام عبد الحميد ابن باديس لم يكن فقط مفسرا للقرآن ومصلحا اجتماعيا لكنه أيضا كان صحفيا ومحاورا سياسيا صاحب حجة حاضرة دائما، ورياضيا كان له دورا في تأسيس فريق مولودية قسنطينة، باختصار كان رجلا جامعا للفكر والمعرفة، غير أن الكثير من الجوانب بقيت مجهولة في فكر أب الحركة الإصلاحية في الجزائر. الشروق تحاول من خلال هذه السطور العودة إلى بعض الجوانب المسكوت عنها في حياة الشيخ. يؤكد الدكتور عبد العزيز فيلالي رئيس مؤسسة ابن باديس أنه بصدد الاشتغال على وثائق جديدة صادرة من الإدارة الفرنسية، هي عبارة عن تقارير كانت الإدارة الفرنسية ترفعها حول نشاطات الشيخ ابن باديس. هذه الوثائق تكشف جوانب غير معروفة في حياة العلامة والكثير من العلاقات التي ربطها مع مثقفين غربيين أمثال لويس أراغون وألبير كامي وغيرهم. يعود الدكتور فيلالي للحديث عن ابن باديس انطلاقا من تراث عائلته البرجوازية منذ العصور الوسطى، الأمر الذي أتاح له الخروج إلى تونس والسعودية للدراسة حيث تأثر الشيخ ابن باديس خاصة بالحركة الإصلاحية والثقافية في تونس بحكم أن تونس رغم كونها تحت الحماية الفرنسية فإنها عكس الجزائر كانت مفتوحة على الحركة الثقافة والمطبوعات التي كانت تدخل بكثرة إلى تونس. الشيخ ابن باديس تأثر وانفتح على الوسط الثقافي والفكري الذي كان هناك. وقد ساهم ذكاء الشيخ وإقباله على العلوم في اختصار الكثير من المراحل حيث يكشف دفتره الدراسي أنه تتلمذ على يد أكثر من 20 أستاذا واستفاد من أستاذه حمدان لونيسي الذي أعطاه قاعدة صحيحة بنى عليها معارفه لاحقا في مختلف التخصصات التي برع فيها لغة وتفسيرا ووعضا وإرشادا. بعد إجازة التحصيل وإجازات أخرى عاد ابن باديس للتدريس في مساجد قسنطينة لكن فرنسا منعته بحجة عدم امتلاكه للترخيص وقد تدخل والده لدى الإدارة الفرنسية واستصدر له ترخيصا للتدريس في المسجد الأخضر ومن هناك انطلق الفكر الباديسي إلى جانب وجود ملاحق لهذا المسجد مثل ملحقة سيدي قموش الذي يعتبر مسجدا عائليا ومسجد بومعزة والتربية والتعليم والجمعية الخيرية وغيرها من النوادي العلمية التي أشع منها العلم والمعرفة في قسنطينة. ابن باديس أتقن الفرنسية لكنه لم يتحدث إلا بالعربية يؤكد الدكتور فيلالي في حديثه مع الشروق أن الدراسات تؤكد أن الشيخ ابن باديس كان يتقن اللغة الفرنسية بحكم عائلته البرجوازية، لكنه كان في لقاءاته بالإدارة الفرنسية يطلب دائما مترجمين وهذا اعتزازا بلغته، فالإمام ابن باديس لم يكن له موقف من اللغة الفرنسية كلغة بقدر ما كان يكره الاستعمار، فالدراسات تؤكد حسب فيلالي أن عبد الحميد ابن باديس كان مطلعا على الفكر الغربي من خلال النوادي التي كان منخرطا فيها وما كان يصله عبرها من كتب ومجلات، وتذكر بعض الدراسات أنه ناقش ألبير كامو وردّ على نظرية دروين وهذا دليل على أن الشيخ ابن باديس كان أكثر من فقيه ومدرس. يستند الدكتور فيلالي في كلامه هذا إلى مجموعة وثائق صادرة عن الأرشيف الفرنسي كانت ترفع دوريا بشأن نشاطات الإمام ابن باديس حيث كانت خطواته محسوبة من قبل أعوان الإدارة الاستعمارية التي وضعته تحت الرقابة. التقارير كانت ترفع إلى الحاكم العام وشرطة الاستخبارات العامة التي كانت تضع تلك الوثائق تحت بند "سري جدا". والدليل على أن الشيخ ابن باديس كان يشكل خطرا على الإدارة الفرنسية أحد تلك التقارير المؤرخة في 1958 أي بعد 18 سنة من وفاة الشيخ "1940" تؤكد أنه "يضاف إلى التقارير السابقة بشأن تحركات ابن باديس ... ابن باديس علم جيلا وغرس فيه التعصب ضد فرنسا، جيل مناهض للاستعمار وأن أغلب إطارات ثورة التحرير من تلامذة الشيخ"، وهذا دليل وشهادة من طرف الإدارة الفرنسية وردا على من يدعي أن المدرسة الإصلاحية لم تقدم شيئا للثورة. أول تقرير فرنسي رفع ضد ابن باديس كان في 1921 حيث يذكر أن الشيخ كان يذهب إلى تونس مرفوقا بأمه أو زوجته ولكن بالعودة إلى تاريخ وفاة والدته "1920" فحتما تكون رفيقته إلى تونس هي زوجته، وهناك كان الشيخ يتصل برواد الحركة الإصلاحية والفكرية التونسية ونتيجة لتحركاته رفع الوزير فوق العادة الفرنسي في تونس تقريرا بشأنه إلى الإدارة الاستعمارية وصارت خطواته محسوبة. ابن باديس كان عضوا في جمعيات غربية وراسل كبار الكتاب والمثقفين تكشف تقارير الإدارة الفرنسية التي يعكف الدكتور فيلالي على دراستها وإخراجها لاحقا في كتاب، عن الوجه الآخر للشيخ ابن باديس حيث تؤكد تلك التقارير أنه "لا يمكن فصل تاريخ الحركة الإصلاحية عن دور حياة الشيخ ابن باديس أحد الحاضنين للنضال الوطني"، ورغم ابتعاده عن السياسة إلا أن الإدارة الفرنسية نبهت إلى خطورة مواجهته للمشعوذين، وبهذا "يكون قد قلب أوضاعا كانت سائدة ومتأصلة"، وطالب بإعادة نظام الحبوس المنظم لحياة المسلمين ولكن الإدارة الفرنسية رفضت ذلك. ويذكر جانب من تلك التقارير أن الشيخ بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين صار نشاطه أكثر عنفوانا وصار ينتقد الإدارة الفرنسية في المسجد الذي رخصت له بالتدريس فيه "مسجد سيدي لخضر". من بين الجوانب غير المعروفة عن الشيخ ابن باديس والتي كشفت عنها التقارير الصادرة عن الأرشيف الفرنسي أنه كان عضوا نشيطا في عدد من الجمعيات الغربية منها الجمعية العالمية للكتاب من أجل الدفاع عن الثقافة، وتضم لويس أراغون وجون بيار، ولوك دورتان وأندري مارلو. هؤلاء من كبار الكتاب والشعراء وحتى السياسيين الذين تبنوا الاتجاه الرومانسي، كانوا يتبادلون الرسائل والكتب والمنشورات مع عبد الحميد ابن باديس. وكان الشيخ متعاطفا مع اليسار ومع كل من كان يقف ضد الاستعمار سواء في إفريقيا أو آسيا أو أوروبا وأمريكا، وقد ساهم الشيخ ابن باديس ضمن هذه الجمعية في جمع الأموال لصالح الكتاب والمثقفين اللاجئين في جبال البنيني إبان الحرب الأهلية الاسبانية. واستنادا لهذه التقارير دائما فإن الشيخ كانت له علاقة نشيطة مع المكتب الوطني للجماعة العربية في نيويورك التي كانت ترسل له الكتب خاصة المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي شكلت محور اهتمام العلامة الذي لم يكن فقط مشغولا بما يجري في وطنه الجزائر بل تعداه إلى أوطان أخرى تجمعه بها اللغة والدين والمصير المشترك، فهو كان صاحب مبدأ "مع فلسطين ظالمة أومظلومة"، فقد كتب عدة مقالات بشأن القضية الفلسطينية منها مقال "فلسطين الشهيدة"، كما كتب رسالة لرئيس الحكومة الفرنسية يطلب منه التدخل لإيجاد حل للقضية الفلسطينية ورسالة أخرى للبرلمان الإسلامي في القاهرة يطلب منه نفس الطلب ورسالة مماثلة لعصبة الأمم. الشيخ ابن باديس كانت تصله مطبوعات ومجلات مثل مجلة منبر الشرق والبلاغ والجوال وأوكابي، كانت تصله من مصر، سوريا، العراق وبروكسل، بعض هذه المجلات محظورة في الجزائر بقرار من الإدارة الفرنسية منها مجلة الفتح التي كانت الإدارة الفرنسية تصادرها مباشرة. من بين الأشياء التي تبين أن الإمام ابن باديس كان متفتحا ويحظى باحترام الخصوم قبل الأصدقاء التهنئة التي تلقاها من قبل مدير الأكاديمية "مدير التربية" بخصوص تدريسه، ونشر نص التهنئة في جريدة "لديباش" وأحدثت ضجة كبيرة حتى أن المعمرين احتجوا على المدير وهددوه بتنحيته من منصبه إن هو لم يقم بسحب التهنئة. التقارير الفرنسية تكشف أن ابن باديس كان محدثا بارعا وصاحب كاريزما تهابه الإدارة الاستعمارية وتحسب له ألف حساب، ابن باديس الذي فشل زواجه ورفض إعادة الزواج لأنه تزوج "الجزائر"، وكشفت التقارير التي دونت بشأنه أنه في آخر أيامه وخاصة بعد المؤتمر الاسلامي 1936 صار شديد الانتقاد للإدارة الفرنسية وكان مقتنعا أن الاستعمار سيزول لا محالة وكان يقول للاستعمار الفرنسي "نحن مددنا إليكم أيدينا حتى تعطونا حقوقنا وقد لا نبسطها ثانيا إن قبضناها". مقهى "روايال" وقصة "الموك" جانب آخر غير معروف كثيرا عن الشيخ ابن باديس خارج كونه مفكرا ومفسرا للقرآن ورائدا إصلاحيا هو كونه رياضيا، ما يزال مقهى "روايال" بوسط مدينة قسنطينة يحمل أثار وتاريخ "الموك" التي ساهم الشيخ في تأسيسه وتشجيعه، المقهى ما يزال إلى اليوم ملتقى الرياضيين يروي جانبا من تاريخ ابن ياديس في هذا المجال. رشيد خاين أحد قدماء لاعبي الفريق يؤكد في شهادته للشروق أن فريق مولودية قسنطينة كان أكبر من فريق رياضي لكنه كان مدرسة حقيقية للتربية والتعليم حتى وإن كان عمي رشيد لم يعش زمن ابن باديس "لعب للموك في 1964 لكنه يروي نقلا عن من عاش تلك الفترة أن الشيخ كان محبا للرياضة خاصة رياضة المشي التي كان يمارسها في غابات المنصورة وباب القنطرة بحيث كان يقول لتلامذته "مارسوا الرياضة لأنه يأتي وقت تكون فيه الجزائر في حاجة إلى أبناء أقوياء بدنيا وروحيا تجدهم في وقت الشدة"، وكانت هذه هي الفكرة التي أسست فريق مولودية قسنطينة لاحقا، إذ يروى شقيق الشيخ أنه كان يشجع رواد جمعيته على الذهاب لمسبح سيدي مسيد كما يرافق تلامذته إلى جبل الوحش وغابات المريج من أجل حصص للركض ولعب الكرة.
وحسب ما يروى، فإن الشيخ ابن باديس طلب من شبان حي 40 شريف تنظيم أنفسهم في جمعية رياضية وعدم مشاركة النوادي الفرنسية وهكذا قرر عدد من الشباب نقل انشغالهم للشيخ في تأسيس ناد أو فريق رياضي مثل عمار منادي، الإخوة زواوي، علاوة بن سعيد، عمار بلوم، عبد المجيد بن شريف، عبد الحق بن موفق، حسان بن شيكو. شقيق ابن باديس عبد الحق أكد في تصريحات إعلامية أن مولودية قسنطينة تأسست يوم الرابع من شهر ديسمبر 1939، وتم الحصول على وصل التأسيس رقم 1821 من الإدارة الاستعمارية، وتسمية المولودية التي أخذها الفريق القسنطيني تزامنت مع ذكرى المولد النبوي الشريف، وتم الاجتماع في حي الأربعين شريفا، وتم اقتراح تسمية "امسيسي" لكن الاسم لم يعجب الكثير لأنه كان اسما يطلق على طائر مشاكس فتم اقتراح اسم "الموك". ويرى البعض أن اللون الأبيض الذي يظهر في ملابس الفريق يعود إلى حب ابن باديس لهذا اللون الذي كان يرتديه كثيرا فأنصار "الموك" ما يزالون إلى اليوم ينادونها ب"البيضاء". الشيخ ابن باديس وضع مطبعته تحت تصرف الفريق بطبع مراسلاته وبطاقات الدعوة أيضا وكانت أول إعانة مادية تلقاها الفريق جاءت من قبل الشيخ وقدرت ب5 سنتيمات وأوصاهم بعدم قبول إعانات الإدارة الفرنسية والاعتماد على ما يحصلون عليه من إعانات التجار وأصحاب المال في قسنطينة. ويكشف اهتمام العلامة ابن باديس بالرياضة العلاقة الموجودة بين التربية والتعليم والرياضة، حيث كانت الدورات الكروية التي تنظم تعود مداخيلها لصالح بناء المدارس التي سيّرها ابن باديس نفسه وجمعية العلماء وقد لعب فريق المولودية عدة دورات مع فرق أجنبية مثل الملعب التونسي، دينامو زغرب الكرواتي وحمام الأنف التونسي. الارتباط التاريخي بين فريق المولودية وابن باديس يفسر الارتباط العاطفي لبعض تلاميذ جمعية العلماء مع هذا الفريق أمثال عبد الرحمان شيبان، أحمد حماني، كما كان أيضا مالك بن نبي والصادق حماني ويحي ڤيدوم من أنصار "الموك". فريق المولودية الذي يرتبط عاطفيا برائد الحركة الإصلاحية في الجزائر، قابلته الإدارة الاستعمارية بالشك والريبة بل وحاولت ممارسة ضغوطات ضده، حيث يروي بعض الذين عاصروا تلك المرحلة أن وزير الرياضة الفرنسي في إحدى زياراته إلى المدينة، استدعى رئيس البلدية القائمين على فريق المولودية وطلب من أمينه العام عمار منادي تغيير اسم المولودية لدلالته الإسلامية لكنه رفض فقامت الإدارة الفرنسية في إحدى المناسبات بحلق شعر الأنصار للحد من تزايد شعبية الفريق العربي، ففرنسا كانت لها حساسية من أي تجمع عربي حتى لو كان خارج الرياضة. الحصار الذي فرضته الإدارة على هذا الفريق بسبب انتسابه روحيا لأب الحركة الإصلاحية في الجزائر ابن باديس ساهم في إخراج صوت الجزائر المستعمرة خارج الحدود والتأكيد على أن هناك مجموعة تختلف عن الفرنسيين، فقد حقق الفريق نتائج ايجابية في المغرب في كأس شمال إفريقيا عام 1945 الذي تقابل فيه "الموك" مع الكوكب المراكشي والنادي البنزرتي التونسي. ما زال طيف ابن باديس ماثلا في مقهى الروايال أو مقهى "الموك" كما يسمى كشاهد على مدى اهتمام العلامة بجميع نواحي الحياة الضرورية لتكوين الإنسان والفرد الصالح في المجتمع، فهو القائل "اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة"، عرف أيضا كيف يوجه أتباعه لتبني مقولة "العقل السليم في الجسم السليم"، وهو بذلك يفند جميع المقولات وينشف النظريات الخاطئة التي يحاول البعض اليوم تسويقها بشأن تعارض الدين ومباهج الحياة.