أصدرت عائلة بن فليس أخيرا كتابا (*) بعنوان "بن فليس التهامي" المعروف باسم سي بلقاسم يتناول نبذة عن حياة هذا الشهيد الذي سقط رفقة ابنه البكر عمار ضحية البطش الاستعماري في ربيع 1957، أي نفس الفترة التي اختطف فيها واغتيل الشيخ العربي التبسي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين. غير أن الكتاب لا يكتفي بتقديم جوانب من السيرة الذاتية لسي بلقاسم، بل يتعدى ذلك لتقديم صورة وافية عن الحركة الإصلاحية في باتنة بشقيها الثقافي والسياسي، فقد تضمن أيضا تعاريف بأهم الشخصيات التي أعطت هذه الحركة زخمها في المنطقة كلها أمثال الشيخ عمر دردور "باديس الأوراس" والدكتور السعيد بن خليل... وغيرهما كثيرا. نجد في طليعة رجال العلم والإصلاح بمنطقة الأوراس أسماء كبيرة لكنها مغمورة، جاء الكتاب في الوقت المناسب لينفض عنها غبار النسيان المتراكم عبر السنين. من هؤلاء: محمود عبد الصمد الذي تتلمذ بقسنطينة في القرن التاسع عشر على العلامة عبد القادر المجاوي، وكان من زملائه في الدراسة الشيخ حمداني لونيسي أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، قبل هجرته إلى الحجاز، والتحاق تلميذه بالزيتونة في تونس. الصديق بالمكي خريج الأزهر الذي جعل من خنقة سيدي ناجي منارة إشعاع علمي وديني. المولود صالحي الزريبي هذا الأزهري الآخر الذي كان وراء مبادرة بناء المسجد العتيق في باتنة سنة 1924، تزامنا مع بدايات الحركة الإصلاحية بصفة عامة. ويبرز وسط هذا الزخم من رجالات الإصلاح بالأوراس علمان، كان لهما تأثير متميز هما: الشيخ الطاهر مسعودان (الحركاتي) الذي حضر مؤتمر تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالعاصمة في 5 مايو 1931 وهو مؤسسة شعبة الجمعية بباتنة، تلك الشعبة التي مالبثت أن استقطبت العديد من رجالات الإصلاح، وكانت سندا سياسيا وانتخابيا لرفاق الزعيم فرحات عباس خاصة. الشيخ عمر دردور "باديس الأوراس" كما يصفه الكتاب وهو من تلامذة الشيخ بن باديس؛ وقد كلف بالدعوة للجمعية وأفكارها الإصلاحية في منطقة الأوراس وما جاورها. تعرض الشيخ دردور بسبب هذه المهمة الصعبة لاضطهاد إدارة الاحتلال، فحبس أواخر 1937 وحوكم مطلع السنة الموالية بتهمة "تحريض الجماهير على العصيان المدني". وقد تولدت عن هذه "الحقرة" حركة تضامن واسعة، دشنها الشيخ بن باديس شخصيا بنداء في هذا الاتجاه، لقي صدى واسعا بشرق البلاد كله، وأصر رئيس جمعية العلماء على حضور المحاكمة شخصيا، وما أجبر محكمة الظلم أمام ضغط الجماهير على إصدار حكم بالإفراج عن الشيخ دردور. للتذكير أن الشيخ دردور كان من أبرز ممثلي جمعية العلماء في جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة، وقد نشط في التمثيل الخارجي بالقاهرة، وفي المصالح المالية لقيادة الثورة كذلك. وتطرق الكتاب إلى مدارس الحركة الإصلاحية بباتنة وهي ثلاث: الأولى تم تأسيسها سنة 1934 بمبادرة خيرية خاصة، كان وراءها سي الحنفي العربي.. الثانية كانت بمبادرة من جمعية العلماء، وقد أسست سنة 1937 كفرع لمدرسة التربية والتعليم بقسنطينة وكان أول مدير لها محمد الحسن فضلاء، وهو من تلامذة الشيخ بن باديس المبرِّزين في ميدان التعليم. وتولى إدارة الملحقة بعده الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة، طيلة سبع سنوات كاملة (1940 1947). وقد استقطبت هذه المدرسة أسماء لامعة في ميدان الثقافة والتربية نذكر منها: الشاعر الثوري محمد الشبوكي، المربي الدبلوماسي محمد يكن الفسيري، السعيد بوتقشيرت البيباني.. ولا ينسى الكتاب رائدتين في حقل التربية بعاصمة الأوراس هما بيّة شيخي وربيعة بن فطوم. وقد أقيمت الملحقة على ملكية رجلين فاضلين، هما بلقاسم شرفة واسماعيل شيخي.. الثالثة أنشئت برخصة خاصة، لتحل محل الملحقة.. وتم تدشينها عشية اندلاع ثورة التحرير المباركة باسم مدرسة "النشء الجديد"، وتقع بشارع بلقاسم ڤرين (حاليا) ومن مديريها ومدرسيها الشيوخ أحمد بن ذياب وأحمد السعودي، وعلي طيار... (*) عن دار هومة، الجزائر 2012 التهامي وعمار بن فليس شهيدان آخران بدون قبر.. يعرفنا كتاب عائلة بن فليس بالأب التهامي المعروف باسم سي بلقاسم باعتباره من أعيان دوار أولاد شلي بولاية باتنة، وهو من مواليد بلدية الشعبة في 14 يونيو 1900. وقد بدأ دراسته التقليدية بكتاب مسقط رأسه، ليواصلها بعد ذلك بمعهد سيدي عقبة (بسكرة) قبل أن يختمها بدروس على الشيخ بن باديس، ثم بجامع الزيتونة في تونس، حيث درس على شيوخ مبرّزين أمثال الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي. وكان أثناء ذلك، قد استدعي لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية غداة الحرب العالمية الأولى، وقضى جزءا منها بسوريا الواقعة تحت الإنتداء الفرنسي آنذاك.. وتكتسي تجارب سي بلقاسم بكل من سوريا وتونس أهمية خاصة لماتتضمن من شحذ للوعي الوطني، وامكانية المقارنة بين حال الشعبين الشقيقين في ظل الانتداء والحماية، وحال الشعب الجزائري في ظل استعمار استيطاني عنصري. بعد استكمال تحصيله، دشن حياته العملية بالتجارة في المواد الغذائية.. وكانت منطلقا ناجحا نحو نشاطات أخرى: شراء مطحنة، فتح مقهى في قلب مدينة باتنة (شارع الاستقلال) شراء ضيعة بفسديس (طريق المطار) للفلاحة وتربية المواشي. وتجلى اهتمام سي بلقاسم بالأعمال الخيرية مبكرا، كما يشهد بذلك انخراطه في جميعة بناء المسجد العتيق في باتنة سنة 1924، وفي سنة 1937 كان عضوا أيضا في جمعية بناء مدرسة لجمعية العلماء، في شكل ملحقة لمدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، كما شارك سنة 1954 في انجاز مدرسة مستقلة بباتنة تابعة لجميعة العلماء باسم "النشء الجديد". وكانت قبل ذلك قد فتح بمنزله على نفقته، لتعليم أبنائه (4) وبناته (8) ما تيسر من القرآن الكريم، إلى جانب المعوزين من أبناء الشعب. وفضلا عن ذلك كان بيته مأوى لطلبة العلم، من أبناء أصدقائه أمثال الطيب معاشي، ومن هؤلاء المجاهد الشاعر الدبلوماسي أحمد معاش. وعلى صعيد النشاط الجمعوي والسياسي، انخرط سي بلقاسم في جمعية العلماء، منذ أواخر الثلاثينات من القرن الماضي كما سبقت الإشارة، وبهذه الصفة نكب معها في أحداث 8 مايو 1945، فحبس بباتنة بضعة أشهر.. وبعد إجراءات العفو العام في ربيع 1946 ، انتسب إلى حزب فرحات عباس، الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وفاز عنه في محليات أكتوبر 1947، رفقة الدكتور السعيد بن خليل والمحامي ابراهيم غريب. لم يعد سي بلقاسم من سوريا وتونس بوعي وطني متقدم وحسب، بل عاد كذلك مولعا بالشعر الملتزم، إذ كان حسب شهادة الشيخ علي طيار، كثيرا ما يتغنى أمام جلسائه بقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي حول دمشق. والتي يقول فيها خاصة: دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نور وحق.. وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق..
لذا كان في الموعد، عندما دقت جبهة وجيش التحرير باب الحرية بقوة ليلة فاتح نوفمبر 1954 كان على اتصال برجالات الفاتح في منطقة الأوراس أمثال محمد الطاهر عبيدي (الحاج لخضر)، الطاهر النوشي من رفاق بن بولعيد، وكذلك محمد الشريف بن عكشة وامحمد بوعزة (عرعار). كان التزام سي القاسم مبكرا وفرديا قبل التحاق جمعية العلماء علنيا بجبهة التحرير بوضع مزرعته، في فسديس ومطحنته في باتنة، تحت تصرف الثوار والفدائيين، فضلا عن مختلف المساعدات الأخرى المالية منها والعينية. هذا النشاط المتعدد لصالح الثورة، لم يكن خافيا على عيون إدارة الاحتلال بباتنة، لذا مالبث أن تلقى بسبب ذلك تحذيرا واضحا: إما أن يكف عن نشاطه المشبوه، أو يتعرض إلى ما لا تحمد عقباه! هذا التحذير تحول في بداية مارس 1957 إلى عملية ترهيب سافرة: مداهمة مسكنه ليلا من قبل عناصر من الأمن والمليشيا وتحت غطاء "اليد الحمراء" وإطلاق النار عليه، لكن الشيخ أفزع بصموده المهاجمين فلاذوا بالفرار.. كان على سي بلقاسم أن يدفع ثمن هذا الصمود لاسيما صداه الواسع في المدينة غاليا في 9 من نفس الشهر: اختطافه في وضح النهار، رفقة ابنه الأكبر عمار، حبس الشيخ وابنه في مكان مجهول بباتنة، قبل نقلهما إلى بسكرة، حيث تعرضا لأشبع أنواع التعذيب بالوكر المعروف "بدار بن يعقوب" وهنا تم إعدامهما بدون محاكمة، ودفنا بمكان مجهول، ظل كذلك إلى اليوم. لم تعرف عائلة بن فليس مصير الوالد سي بلقاسم، والأخ الأكبر عمار إلا بعد الاستقلال، ويرجع الفضل في ذلك إلى معتقل شاب كان معهما، هو الدكتور محمد العربي المداسي / الذي سجل شهادته بالتفصيل عن اللحظات الأخيرة للشهيدين، في كتابه "التلقين" الصادر (بالفرنسية) سنة 2002 عن الوكالة الوطنية للنشر والإشهار. وعزاء عن قبر الشهدين، أقام ورثة سي بلقاسم تنفيذا لرغبته على أنقاض مسكنه القديم 26 ممرات بن فليس مسجد الحق الذي تم تدشينه سنة 2009 ليكون صدقة جارية على مر السنين. وقد رثى الشاعر أحمد معاش الذي قضى عامين في كفالة عائلة بن فليس التهامي الشهيدين بقصيدة مؤثرة ننقل منها هذا البيت: غيّب الدهر فارسين فأبكى كل شبر في بيدنا والجبال كما رثى أرملة سي بلقاسم خديجة شعشوع التي يعتبرها أمه الثانية قائلا: فُجعت بموتك دون حضوري فلم أقوى عن محنة قاسية فلمت ظروفي وعاتبت نفسي وأنّبت من لم يُعر ثانية ليبرق لي في المصاب الكبير لأرسل دمعي مع القافية وأرثي رفيقة ذاك الشهيد وأم طفولتنا الصافية الشهادة الابتدائية سنة 1954: مركز باتنة ثالثا بعد تلمسان وسطيف تقدم قائمة الناجحين في الشهادة الابتدائية سنة 1954 بمركز باتنة، صورة عن جهود مدارس جمعية العلماء جنوب شرق الجزائر، فقد حل المركز في المرتبة الثالثة بنسبة نجاح بلغت 75.5٪ مباشرة بعد مركزي تلمسان (82٪) وسطيف (75.6٪) وحصل على المرتبة الأولى والثانية بالمركز (من بين 41 ناجحا من مجموع 55 مرشحا) طالبان من بسكرة، هما محمد الشريف فيلالي بتقدير "أحسن"، والسيد عبادو بتقدير "حسن" (*). (*) البصائر عدد 284 (10 سبتمبر 1954 الموافق ل 13محرم 1354ه). نكاية في السعدي! تتميز بعض المناطق الأمازيغية في الجزائر بالمحافظة الشديدة، ناهيك أن رجالها يعتبرون مثلا الكشف عن أسماء زوجاتهم عيبا جارحا، يمكن أن يؤدي إلى المبارزة بالسلاح! وهذه حال صديقنا السعدي بزياني القادم من أعماق الأوراس، رغم أنه يعيش منذ الاستقلال قريبا مناصفة بين الجزائر العاصمة وباريس! ولحسن الحظ أن كتاب عائلة بن فليس أعفانا من مبارزته! بالكشف عن اسم زوجته، ضمن قائمة بنات الشهيد سي بلقاسم الثماني!