الانتقال إلى المستقبل ضرورة للبقاء والحياة.. سُنّة كونية من سُنَن الله.. لا يُمكن للإنسان أن يَتحول إلى الماضي حتى وإن أراد.. يُمكنه أن يجعل وضعه أكثر سوءا من الماضي لفترة من الفترات، ولكنه لن يستطيع البقاء كذلك، ذلك أن هذا الوضع الأكثر سوءا هو الذي سيدفعه دفعا نحو المستقبل، إذن نحن ذاهبون إليه مهما تأخرنا، وعطّلنا، وتمسكنا بالبقاء بالحاضر.. يبقى أن نعرف: كيف يكون هذا المستقبل؟ وهل نذهب إليه بسلام؟ أم نُجر إليه بعنف؟ ذلك هو السؤال. غالبا ما يَفرض الناسُ على أنفسهم أسوأ طريق للانتقال نحو المستقبل، رغم أن بدائل الانتقال كثيرا ما تكون متوفرة، إلا أن سوء تدبير الناس يجعلهم يفقدونها الواحد تلوى الآخر، حتى لا يبقى سوى بديل العنف والاضطراب، كيف لنا ونحن اليوم نتأهب للانتقال إلى مرحلة جديدة من تاريخنا المعاصر ألا نُضيِّع بديل الانتقال بسلام نحو المستقبل؟ كيف لنا أن نتَّجِه بخُطى ثابتة نحو المخرج الواسع ونُحبِط تلك المساعي التي تعمل لدفعنا دفعاً نحو أضيق المخارج؟ كيف لنا أن نَصنَع المستقبل الذي نريد كما نُريد ونَنْسجِم مع سُنَّة التطور الضرورية لنا للبقاء بعيدا، عن تخطيطات مَن يريد بنا سوءًا؟ كيف نستطيع أن ننتقل بسلام نحو المستقبل برغم ما يُبشِّر به البعض من أننا سنفعل بأنفسنا أكثر مما يفعل العدوّ بنا، وكيف يُمكننا أن نستثمر في خبرتنا المُستخلَصة من مأساتنا الأخيرة، ونُراهن على وعينا الشعبي وقدرتنا على التمييز بين الخير أو الشر لنحقق ذلك؟ يبدو أن هناك بعض المؤشرات الدالة على إمكانية توجهنا نحو السيناريو الثاني الأسوأ يسعى الكثير إلى الترويج لها والاستثمار فيها، كتلك المتعلقة بالفساد، وعدم تجديد الطبقة السياسية، والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي ستَنتج عن ضعف المداخيل مستقبلا، وضعف استيعاب الطاقات الشابة، والاضطرابات المحيطة بنا من كل جانب، وسوء نية بعض الجيران والأصدقاء... الخ، إلا أنها جميعا لا ترقى إلى مستوى سببٍ واحد يعدّ أكثر من حاسم، في مسألة الانتقال نحو المستقبل، وهو ذلك الاتفاق الضمني بين الجزائريين على اختلاف مشاربهم وألوانهم ومواقفهم السياسية، وخاصّة المظلومين منهم، بأنهم لن يستخدموا العنف ضد بعضهم البعض مرة أخرى. اتفاقٌ ضمني بحق، هو نتيجة ترسّبات تاريخية زادتها سنوات الدم الأخيرة ترسخا في أذهاننا، وصَقَلها منطق الصراع السائد لدينا عبر الأزمنة والعصور. حقا، لقد كان الشعب الجزائري باستمرار معرّضا لمكافحة الأجنبي الوافد، نادرا ما بقي لعقد أو عقدين من غير عدوّ خارجي يتربص به ويضطر إلى مقاومته.. من دولة نوميديا وصراعها مع روما، إلى رياس البحر وصراعهم مع الفرنجة، إلى قادة الثورات الشعبية وصراعهم مع المحتل الفرنسي. حقا، لم يعرف التاريخ الجزائري عبر حقبه المختلفة صراعات داخلية بين مكوناته، ولم يتراكم لديه أي رصيد لضرب بعضه البعض، ربما كانت مأساة التسعينيات هي الاستثناء الوحيد الذي يُحفظ ولا يقاس عليه، هذا إذا لم ننظر إليها، هي الأخرى، على أنها كانت من زاوية معينة صراعات بين جزائريين ودخلاء على الجزائر حتى وإن حملوا جنسيتها، لذلك فإنها انطفأت بمجرد أن أدرك الجميع أنهم، إذا استمروا سيكونون أطرافا فاعلة ولكن ضمن مخططات الآخرين، وتوقفت المأساة بإرادة الجميع رغم الخسائر الفادحة. واليوم، نكاد نجزم أننا على أبواب مرحلة تحوّل حاسمة من تاريخنا المعاصر، نحو تحوّل جوهري في طبيعة السلطة، علينا أن نتصرف معه بالحكمة اللازمة انطلاقا من ثوابت يتفق عليها الجميع وأوّلها أن لا مجال لفتح جبهة صراع داخلي بيننا ولا مجال لأن نكون أعداء بعضنا البعض مهما اختلفنا، أي أن لا نُخطئ في العدو، جبهة صراعنا الحقيقية ليست في إضعاف فصيل منا على حساب الآخر مهما اختلفنا معه، إنما هي في تعزيز تماسكنا الداخلي ضمن رؤية قائمة على التمكين لبلدنا من أن يستعيد مجده ككتلة متراصّة تقارع الآخر الخارجي الباحث عن الهيمنة وفرض الذات واستغلال الخيرات وكسر الإرادة الوطنية. إننا لا نستطيع أن نستمر كفاعلين قادرين على الانتقال نحو المستقبل بسلام إذا لم نتحرّك ضمن هذا المنظور، منظور أننا لا نقبل بما يُمليه علينا الآخر من شروط، وأن لا نَمضي له على ورقة الطريق التي يريد إنْ في الاقتصاد أو السياسة أو الخيارات الأخرى الثقافية والاجتماعية. قوّتنا تكمن تاريخياً في هذا المستوى، وعلينا أن لا ننزل دونه حتى يفهم الآخر بأننا نحن الذين نرسم خارطة الطريق دون غيرنا، وبهذا فقط نستطيع أن نردعه ونستطيع التمكين لأنفسنا بالانتقال إلى المستقبل بسلام. أما إذا ما اعتمدنا المتغيّر الخارجي كمتغير أصيل في معركتنا الداخلية، ومدّ بعضُنا يده للأجنبي يستقوي به، أو يسعى للبقاء من خلاله، فإننا نكون قد فقدنا بوصلتنا التاريخية وخرجنا عن مسار تطورنا الطبيعي. وعليه، لا بديل عن اتفاق الفرقاء فيما بينهم عن كيفية حدوث هذا الانتقال، ولا بديل لهم اليوم عن قَبول بعضهم البعض بشرط واحد: أن يسحب الجميع البساط من تحت الذين يكونون قد وعدوهم بتعزيز بقائهم على حساب الآخرين أو نصرتهم على حساب الآخرين، ذلك أن دولتنا لا يمكنها أن تتنقل نحو المستقبل بسلام إلا إذا كانت هي صانعته.. أما إذا تدخلت إرادة الآخرين في ذلك، وسعى طرفٌ دون الآخر لها، وقَبِل بذلك، فسيكون هنا مكمن الخطر، وعلينا استباقه قبل فوات الأوان. هوامش: لقد كان الشعب الجزائري باستمرار معرّضا لمكافحة الأجنبي الوافد، نادرا ما بقي لعقد أو عقدين من غير عدوّ خارجي يتربص به ويضطر إلى مقاومته.. من دولة نوميديا وصراعها مع روما، إلى رياس البحر وصراعهم مع الفرنجة، إلى قادة الثورات الشعبية وصراعهم مع المحتل الفرنسي.