اللغة بالنسبة للأمة هي الوسيلة التي تصل بامتداداتها المختلفة فتوحدّ أبناءها روحا وفكراً وعملا، ولغات البشر متنوعة تحمل كل واحدة منها خصائص ذاتية مستقلة ومتميزة وتكفل لها قدراً من الحياة والنماء و التطور يتّفق و متطلبات الحاضر و المستقبل، و اللغة كالأحياء تتوالد، و يموت بعضها و يحيا بعضها الآخر، و هي مثلهم أيضا في نمط الحياة، فقد تغزو لغةٌ لغة أخرى فتدمرها وتحل محلها، و قد تدافع عن نفسها في معركة تخرج منها رابحة أو خاسرة. إنّ ذلك كلّه يعتمد اعتمادا قويا على أصالتها و قوة الحياة لديها، كما يعتمد أيضا على ولاء أهلها لها و ثقتهم بفاعليتها و اطمئنانهم إلى امكاناتها. اللغة العربية في الجزائر.. و صراع البقاء لعلّ أعنف حرب شُنّت على العربية كانت في المغرب العربي عامة و في الجزائر خاصة، فقد كانت أطماع المستعمر و احلامه في الجزائر بعيدة امتدت الى اعتبارها جزءا لا يمكن له الانفصال عن جسم أمه المزعومة فرنسا، وعمل جاهدا لتحويل تلك الأطماع والأحلام الى حقائق مفروضة فسلك الى ذلك طرقا تهدم تراث الأمة وتعبث بمعتقداتها وتمحو عن الوجود لغتها الأم .. هدَّم بيوت الله وحولها إلى ثكنات وإسطبلات لأنه – بذكائه- علم أنّ هدم جامع إسلامي يعني هدم مدرسة ومكتبة وقاعة للمحاضرات ومتحف...، وقام أيضا بهدم المدارس التي كانت تُدرِّس العربية، وأوجد بدلا منها مدارس تتخذ الفرنسية لغة للعلم والتدريس، وكان ذلك من أبعاد السيطرة الاستعمارية على التعليم، وفي هذا الشأن قال أحد من ذوي النظريات في التعليم الاستعماري: ".. إنّ أحسن وسيلة لتغيير الشعوب البدائية في مستعمراتنا وجعلها أكثر ولاء وأخلص في خدمتهم لمشاريعنا هو أن نقوم بتنشئة أبناء الأهالي منذ الطفولة وأن نتيح لهم الفرصة لمعاشرتنا باستمرار وبذلك يتأثرون بعاداتنا الفكرية وتقاليدنا، فالمقصود إذن باختصار هو أن نفتح لهم بعض المدارس لكي تتكيف عقولهم حسبما نريد.." ويقول أحد الذين طُبقت عليهم مناهج الفرنسيين في المدارس الفرنسية داخل الجزائر: ".. إنّ كلمة (العرب) لم ترد في الكتب الفرنسية التي كانت مقررة عندنا في المدارس الابتدائية إلا في موضع واحد هو أنّ العرب انهزموا على يد قائد الفرنجة "شارل مارتل" في معركة بواتيه- تورز.." نحن ندور بتعليمنا في دائرة الأخطاء ولا يمكن توقع علاج شافي لمسألة الضعف في اللغة ما لم نحطّم تلك الدائرة ونستبدلها بأخرى أكثر تماسكاً عملية تضليل ثقافي وروحي منظمة قامت على مبدأين هما النبذ والاحتواء، فالنبذ يعني إزالة تامة لكلّ ما هو أصيل في شخصية الجزائريين وإلغاء صارم لمقومات وجودهم، يعني إخضاع الفرد و سلبه ذاته ثمّ تركه في منتصف الطريق بين جزائريته وأوروبية المستعمر، فهو ممزق بين ذاتية تُسلب منه بالخداع والبطش وبهرج زائف يقدّم إليه بقصد التغرير والتشويه، فقد كانت حملاتهم ضد العربية منظمة وخطيرة خاصة حين ركزوا على "الصحافة والتعليم" فهما الجسران القويان اللذان أرادوا عبورهما إلى ما يريدون كي يضمنوا لمخططاتهم سرعة الإنجاز، ذلك لأنّ التعامل فيهما غالبا ما يكون مع العقول الشابة المتحمسة للجديد، فإذا ما أفسدت هذه العقول وسيقت الى التحلل من التزاماتها المبدئية سهُل اقتيادها أو توجيهها، لأجل هذا غلفوا دعواتهم الماكرة بما قد يبدو مقبولا لعقولِ قليلة التجريب، فكانوا يذيعونها في الناس باسم التجديد حينا والتحضر حينا آخر، أما الواعون من أبناء الأمة فكانوا يزِنون أقوالهم وأفعالهم بموازينها.. نعم لقد أدركوا أنّ الوجه الجميل الذي تبدو فيه يخفي وجها آخر دميما، ولعلّهم يدركون ذلك وهم يقرأون أو يسمعون أقوالا من نوع هذه العبارة الخبيثة لويليم جيفورد بلجراف ".. متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يندرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه.." .. ويعجب الإنسان للغة يتعلم أبناؤها على يد غرباء ومن كتب أجنبية ..!! ما مصيرها لو لم تكن غير العربية؟ أكان من الممكن أن تقاوم الفناء؟؟ ولأنها العربية صمدت بهمّة أبنائها الذين كانوا يؤمنون أبدا بأنها وسيلة وحدتهم الباقية وأداة نضالهم المشترك، والإيمان باللغة أولا وآخرا هو الذي بثّ الروح في الشعب الجزائري الذي وعى أبعاد ما يُحاك له فقاوم لإنقاذ اللغة الجامعة والتراث الخالد قدر ما يستطيع، وأسس الجزائريون – ردا على سياسة التضليل الاستعمارية – ما سميّ ب " جمعية العلماء المسلمين " التي دأبت تُقاوم إرادة المستعمر بفتح المدارس العربية وتنشّط الجو الثقافي العربي والديني تحت شعار "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا". والجزائر ومنذ استقلالها عام 1962 خاضت معركة تعريب مباركة وشقّت طريقها بصعوبة وسط الأوهام والشكوك، وقطعت بذلك شوطا بعيدا نجحت فيه إلى حدّ ما بإيمان المخلصين من الساسة والعلماء، الذين أدركوا أنّ المحافظة على استقلال الجزائر يعني المحافظة على لغة الأجداد والأمجاد، والتفريط فيها تفريط في استقلال الوطن وسيادته .. العربية في جزائر اليوم تُقدم على الدخول في معركة جديدة.. يشهد وقتنا الحاضر إحباطا مروعا للغة العربية في الجزائر، وهو من أخطر الإحباطات التي تعرضت لها سابقا، والسبب أنّ عدوها في الماضي كان معروفا ومكشوفا، فهو خارجي أجنبي يصطنع غيرة مفضوحة على اللغة والثقافة والحضارة، أما الآن فعدوها داخلي نابع من أبنائها الذين يخذلونها عن جهل، والأشد قهرا أنها تُنتهك عن طريق الميدانين اللذين قصدهما المستعمر في حربه على العربية سابقا، ألا وهما الصحافة والتعليم، وكأنّ السيناريو يعيد نفسه مع تبادل الأدوار!! أما الصحافة فبلاء العربية فيها كبير، لأنّها لا تحرص على أن تجعل نفسها رقيبا على ما تنشره، فمعظم ما يُنشر تحت باب الأدب والثقافة هشّ لا يجوز أن يقبل ويعرض على الناس، وأخبار التراث قليلة، أو مبسترة إن وجدت، والخبر مصوغ بلغة هزيلة تُهدر فيها قوانين العربية هدراً مؤسفا، وهذه أوضاع لا ترسّخ انتماء الإنسان للغة الأم، وإنما قد تُباعد بينه وبينها إن لم تُصرفه تماما عنها. أما التعليم فبلاء العربية فيه أعظم وأعظم، ذلك لخطورة الدور الذي يلعبه، فالتعليم -أساسا – توجيه أبناء الأمة للإيمان بلغتهم وتراثهم الروحي والحضاري الذي تحمله، ثمّ الانطلاق بعد ذلك إلى عوالم التقدم الرحبة حتى يكون للتطور أساس يقوم عليه، ولا يتحقق ذلك بزيادة حصص اللغة العربية في المدارس فحسب، ولكن بتغيير جذري لأسلوب التعامل مع عناصر التعليم الأساسية " الطالب والمعلم والكتاب المدرسي". نحن ندور بتعليمنا في دائرة الأخطاء ولا يمكن توقع علاج شافي لمسألة الضعف في اللغة ما لم نحطّم تلك الدائرة ونستبدلها بأخرى أكثر تماسكاً. وليس حظ الكبار في التعليم بأحسن من حظ الصغار، فكثير من أبناء الجامعات وخاصة من يتلقون تعليمهم في دول أوربية يعطون لأنفسهم حرية كاملة في العبث باللغة تحت شعار " المثقف المتحضر" ويأنف الواحد من هؤلاء المثقفين المتحضرين أن يحاور صاحبه لخمس دقائق دون أن يمزج كلامه العربي الركيك بكلمات أجنبية سامية في نظره، قد يسخر منك حين تصحح له نطق لفظة عربية ولكنه يشكرك بإخلاص لو صححت له لفظا انجليزيا، وقد لا يكتفي بتصحيحك وإنما يهرع إلى قاموسه ليتأكدّ من ضبط اللفظ حتى لا يقع في المحذور مرّة أخرى. وهو يعرف طبعا من القواميس الانجليزية والفرنسية كثيرا، أما " لسان العرب" و" تاج العروس" و" المعجم الوسيط" فقلّما سمع بها أو رآها. هذا هو البلاء الأكبر لأنّه يحلل أبناء العربية من إخلاصهم للغتهم وللتراث الذي تحمله ويقودهم إلى الإخلاص لغيرها. وما لنا ننظر بعيدا وهذا عدونا يعطينا المثل الأوفى على ولاء الإنسان للغته؟ لقد أحيا عدونا بحبّه وإيمانه لغة من العدم، وخير مثال على ذلك عندما دخلت للغة الفرنسية في الحرب العالمية الأولى لفظة إنجليزية وأصبحت تتداول في الألسنة، فثارت ثورة المجتمع العلمي الفرنسي واعتبر ذلك نكبة حلّت بالأمة، فظلّ يؤذن في الفرنسيين حتى أسقطوها من ألسنتهم. أرأيتم كيف تحافظ الأمم الراقية التي نتشبّه بها على لغتها؟ ولم لا وهي لم تصل إلى الرقي هذا إلا باللغة، فالمعروف أنّ الذي لا يملك لغة قوية، لا يملك فكرا نافعا، كما لا يملك تحضرا صحيحا. ومن هنا نقول للذين يسرّ لهم التعلم في البلاد الأجنبية، إنّ ما يتعلمه الواحد منكم بلغات أخرى يجب أن ينصهر في لغة قومه، لذلك وجب أن تتضافر جهود الأفراد والمؤسسات التعليمية والثقافية ومجامع اللغة والدولة على تحقيق هذا الإنصهار، إننا ما لم نفعل ذلك فإنّ الخطر يهدّد لغتنا من جديد، وهو خطر عظيم لأنّ فيه تهديد لكيان الأمة الثقافي والوطني والروحي، فكلّ ذلك محفوظ في اللغة التي باركها الله وأعزّها بكتابه الكريم فقال: "وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا" و" إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون". فهل سنعيد لغتنا العربية إلى الحياة من جديد؟؟ و تخرج منتصرة من محنتها الجديدة؟؟ -------- الهوامش: - محمود محمد شاكر، كتاب أباطيل وأسمار. - أحمد طالب الإبراهيمي، تخليص الثقافة الجزائرية من الشوائب الإستعمارية، مجلة الثقافة الجزائرية، العدد 26، 1975. - القرآن الكريم/ سورة طه، آية 133 سورة الزخرف، آية 3.