صورة ارشيف أمة سلبت عفتها.. اغتصبت.. وألقي بها على قارعة الطريق، قيادات وجيوش انكسرت حينما تملك منها الغرور، شعوب طأطأت رؤوسها.. ذلت.. بعدما تخلت عن إيمانها، ومن رحم العار ولد النصر بمخالب الثأر وأنياب الإيمان، وبراية "الله أكبر" وحدها خاض العرب معركة الكرامة. * كعادتنا دائما.. نلجأ إلى الله ونحن مقهورين.. ضعفاء.. مكسورين.. لكننا سرعان ما ننساه حينما يفرج كربنا، ورغم أن خطة وتنفيذ حرب أكتوبر اعتمدت بالأساس على الدعم الإلهي، إلا أن بعض صانعي انتصار أكتوبر وغيرهم من المعلقين والمحللين طوال ال 35 عاما الماضية أسهبوا في الحديث عن العبقرية العسكرية وبسالة المقاتل ودقة التخطيط وما شابه، كعناصر جلبت هذا النصر، لا ننكر نجاح العرب في تطبيق هذه المعايير الحربية بكفاءة محسوبة أذهلت العالم، وحققوا نصرا غير خارطة المفاهيم في جميع المعاهد والجامعات العسكرية العالمية، لكن لم يكن هذا ليحدث لولا إرادة الله، وهذا الكلام ليس روحيا فقط، بل تؤكده أحداث شهدتها أرض المعركة، فبدءا من اختيار السادات وحافظ الأسد اسم "بدر 73" لتلك العملية، ومرورا بتربية الجنود والضباط طوال الست سنوات التي سبقت الحرب تربية إيمانية سليمة، وانتهاء بجعل كلمة "الله أكبر" شعار القتال طوال أيام المعركة، يتضح أن الجيوش العربية كانت على قناعة تامة بأنها لن تقدر على مواجهة "الجيش الذي لا يقهر" إلا بدعم إلهي، وأنها عاجزة عن تحقيق أي نصر عليه بدون مشاركة الملائكة. * * المقاتلات العربية تحقق أولى المعجزات * * حتى الساعة الواحدة والنصف زولا من يوم السادس من أكتوبر 1973 كانت الإشارات تصل تباعا لمركز القيادة في تل أبيب تفيد باستقرار الأمور على طول قناة السويس والجولان، فتنهدت غولدا مائير وتنفست الصعداء واتصلت بموشيه ديان، تطالبه بعدم الانخداع لتلك الإشارات واستكمال عملية التعبئة، فقهقه ديان من أعماق قلبه قائلا لها: "إن العرب أجبن من مجرد التفكير في مواجهة جيش الرب.. اطمئني سيدتي لقد كسرنا أنفهم للأبد"، وفي تمام الثانية لمح الجنود العرب المرابضون على القناة عشرات المقاتلات تمر على ارتفاع منخفض فوق رؤوسهم، وما هي إلا لحظات حتى وصلت لمسامع الجميع أصوات الانفجارات في سيناء، وبعد ذلك ب 15 دقيقة صب ألفا مدفع حمما أشعلت النار في كل شيء على الجانب الآخر، في تلك الأثناء فتح القادة الميدانيون الأظرف التي وصلت إليهم قبل ذلك بساعتين، والتي كتب عليها "سري للغاية.. لا تفتح إلا في الساعة 14"، فوجدوا فيها عبارة واحدة "نفذ خطة الهجوم فورا". * وتحت ساتر من نيران المدفعية المتواصل، اقتحم ثمانية آلاف مقاتل من قوات الصاعقة والمشاة قناة السويس ممتطين القوارب المطاطية، فامتلأت القناة عن آخرها بالمقاتلين المهاجمين، واكتظت السماء بصيحات "الله أكبر". * كان ذلك إيذانا باندلاع الحرب التي افتتحتها مصر بضربة جوية عبر مطار بلبيس الحربي، والذي يقع في محافظة الشرقية -على بعد 70 كم شمال القاهرة-، وتشكلت هذه الضربة من 222 طائرة مقاتلة عبرت قناة السويس وخط الكشف الراداري للجيش الصهيوني دفعة واحدة وفي وقت واحد في تمام الساعة الثانية بعد الظهر على ارتفاع منخفض للغاية، مستهدفة محطات الشوشرة والإعاقة في أم خشيب وأم مرجم ومطار المليز ومطارات أخرى ومحطات الرادار وبطاريات الدفاع الجوي وتجمعات الأفراد والمدرعات والدبابات والمدفعية والنقاط الحصينة في خط بارليف ومصاف البترول ومخازن الذخيرة، وكانت الخطة تقتضي تنفيذ ضربتين متتاليتين لتدمير كل تلك الأهداف الحصينة، وقدر الخبراء الروس نجاح الأولى بنحو 30٪ بخسائر قيمتها 40٪، ونظرا للنجاح الهائل للضربة الأولى والبالغ نحو 95٪ وبخسائر نحو 2.5٪ تم إلغاء الضربة الثانية، وفي لحظات انكشف الغطاء عن الجيش الصهيوني بعد أن بترت ذراعه "الطويلة"، وكانت تلك العملية أولى معجزات المعركة. * * الصواريخ تخترق العمق الصهيوني * * في نفس التوقيت شنت الطائرات السورية هجوما كبيرا على المواقع والتحصينات الصهيونية في عمق الجولان، وهاجمت التجمعات العسكرية والدبابات ومرابض المدفعية ومحطات الرادارات وخطوط الإمداد، وحققت الضربة السورية نجاحا كبيرا وحسب الخطة المعدة، بحيث انكشفت أرض المعركة أمام القوات والدبابات السورية التي تقدمت كيلو مترات، مما أربك وشتت الجيش الصهيوني الذي كان يتلقى الضربات في كل مكان من الجولان. * وخلال ست ساعات فقط من بداية المعركة تم اختراق خط بارليف "الحصين" والجولان، وخلال تلك الساعات أوقعت القوات العربية خسائر كبيرة في الجيش الصهيوني، ودمرت القوات السورية التحصينات الكبيرة التي أقامها الصهاينة في هضبة الجولان، ثم توالت موجتا العبور الثانية والثالثة في القناة ليصل عدد القوات المصرية على الضفة الشرقية بحلول الليل إلى 60 ألف مقاتل، في الوقت الذي كان فيه سلاح المهندسين المصري يفتح ثغرات في الساتر الترابي باستخدام خراطيم مياه شديدة الدفع، وعلى الجبهة الشمالية للعدو اندفعت الآلاف من القوات البرية السورية إلى داخل مرتفعات الجولان تساندها قوة هائلة من الدبابات، بينما واصلت المقاتلات السورية دك المواقع الصهيونية، وتطور الهجوم السوري بتوجيه قصف صاروخي مكثف لمواقع في العمق الصهيوني مستهدفا قرية مجدال هاعيمق شرقي مرج ابن عامر، وقاعدة رامات دافيد الجوية، فسهلت هذه العملية من الاستيلاء على القاعدة الصهيونية الواقعة على كتف جيل الشيخ بواسطة عملية إنزال بطولية أسفرت عن الاستيلاء على مرصد جبل الشيخ وعلى أراضي في جنوب هضبة الجولان ورفع العلم السوري فوق أعلى قمة في جبل الشيخ، في حين تراجعت الوحدات الصهيونية، وتم إخلاء المدنيين اليهود من الجولان. * أما في داخل الكيان الصهيوني فقد تم تشغيل صافرات الإنذار في الساعة الثانية لإعلان حالة الطوارئ واستأنف الراديو الصهيوني الإرسال رغم العيد، وبدأ تجنيد قوات الاحتياط بضع ساعات قبل ذلك مما أدى إلى استئناف حركة السير في المدن، وبالرغم من توقعات القيادة العربية، كان التجنيد الصهيوني سهلا نسبيا، إذ بقي أغلبية اليهود في بيوتهم أو احتشدوا في الكنائس لأداء صلوات العيد.. كانوا يتضرعون للرب من أجل إنقاذ "إسرائيل"، لكن عين الرب لم تلتفت لهم. * * العبور على أكف الملائكة * * وهنا أعود مرة أخرى لما سمعته من أبي أو العريف "قطب عرفات" الذي قال لي: طوال السنوات التي سبقت الحرب كانت هناك توعية إسلامية وصحوة دينية انتشرت بين الضباط والجنود بفضل أوامر صدرت من القيادة العليا، وكان ذلك أول الدروس المستفادة من هزيمة 67 ، فقد كنا حينها أقوى من الصهاينة بكثير، وقادرين بالفعل على هزيمتهم، لكن الغرور تملك الجميع، وفي لحظات زهو وفخر بقوتنا وسلاحنا جاءتنا ضربة قاسمة كان من الممكن أن تقضي علينا للأبد، خاصة وأن العدو أمعن في شن حرب نفسية هدفها زرع الذل والرعب بقلوبنا، كان يريد أن يقنعنا بأنه القوة التي لا تقهر والجيش الذي لا يمكن محاربته، وكانت موجاته الإذاعية الموجهة باللغة العربية تبث على مدار الساعة برامج تدميرية لا يمكن مقاومتها بأية أسلحة أو وسائل بشرية، وبدأ اليأس يدب في نفوس كثير من الجنود وكذلك الخوف، وهنا تفطنت القيادة السياسية لتك المؤامرة، ولم يكن هناك سبيل لوأدها إلا الدين، فقبيل 67 كانت الشيوعية سيدة الموقف ترافقها مصطلحات أخرى مثل الوجودية والمادية وغيرهما، أما قبيل 73 كان المصحف رفيق البندقية، وكان الشيوخ يستقدمون للوحدات على الجبهة لتلقين الجنود دروسا تبين لهم معنى الجهاد وقيمة الشهادة في سبيل الله، وترافق ذلك مع تدريبات عسكرية مستحدثة وقاسية، فبات الجندي ماهرا جسديا وروحيا، وفي يوم 06 أكتوبر تلقينا الأوامر بالتكبير أثناء العبور، ترافقها أوامر بجواز الإفطار حيث كنا في اليوم العاشر من رمضان، ورغم أننا رفضنا الإفطار وتمنينا الشهادة ونحن صائمين، إلا أن حناجرنا زأرت رغما عن صيامنا وتعبنا بقول "الله اكبر".. فطغت التكبيرة على أزيز الطائرات ودوي المدافع. * يواصل المقاتل "قطب عرفات" قائلا: في تلك اللحظات تبدل المكان والزمان، لم أشعر بساعدي الممسك بقوة على المجداف، ولم أصدق أنني أمتطي قاربا سعته 10 أفراد يحمل 20 مقاتلا بكامل معداتهم ويشق المياه وكأن أيادي خفية تحمله وتسحبه، لحظات قليلة وكنت على الجانب الآخر من القناة، وفجأة وجدت قدمي تتسلقان بسرعة كثبان الرمال الناعمة بخفة عجيبة، حتى وصلت إلى قمة حاجز بارليف وبدأ القتال. ويتوقف محدثي عن الكلام برهة، ثم يبتسم ويقول: أتعلم أنني بعد الحرب بشهور ظللت حائرا مما جرى لي أثناء العبور، فذهبت إلى جزء مما تبقى من خط بارليف، وعند نقطة أكثر سهولة من تلك التي واجهتني أثناء الحرب، كنت ساعتها في كامل قوتي ولياقتي ومفطرا، وحاولت التسلق وبالطبع بدون سلاح ولا ذخيرة ولا معدات.. ففشلت.. وغاصت قدماي في الرمال، وظللت أحاول فأفشل لأكثر من ساعة، وهنا تبددت حيرتي، وتأكدت أنني وزملائي عبرنا واقتحمنا على أكف الملائكة. * * النصر الإلهي والمؤامرة الشيطانية * * يواصل محدثي قائلا: في غزوة بدر وفي وجود الرسول صلى الله عليه وسلم أنزل الله السكينة على قلوب المؤمنين وثبت الأرض تحت أقدامهم وأمدهم بخمسة آلاف من الملائكة يضربون أيادي وأعناق الكفار، لكن في بدر 73 كان اليهود أقوى عدة وتفوقا أربعة أو خمسة أضعاف، وحسب القوانين العسكرية الحديثة يجب أن تفوق قوة المهاجم قوة المهجوم عليه بثلاثة أضعاف، وفي بدر 73 كان هناك أكبر مانع مائي في العالم "قناة السويس" وأقوى سور دفاعي في التاريخ "خط بارليف"، وخلفهما أقوى التحصينات وأحدث الدبابات والمدافع وجحافل من مجرمي الحروب وسفاكي الدماء، فهل يعقل أن ينهار بارليف بزخات من المياه؟، وأن تحترق دبابات ومركبات العدو بقذائف خفيفة وقنابل يدوية؟، وفوق كل ذلك.. هل يصدق عقل أن ثمانية آلاف مقاتل دحروا أكثر من 50 ألف صهيوني في ست ساعات، وقتلوا وأسروا كل من تحصن في الدشم والمواقع المنتشرة على طول 175 كيلومتر شرق القناة؟، ثم كيف يفسر المحللون ذاك الرعب الذي دب في قلوب الصهاينة بمجرد أن سمعوا "الله أكبر"؟، لقد كانوا يهرولون كالفئران ويصرخون كالنساء ونحن لا زلنا نتسلق خطهم "المنيع"، وعندما وصلنا إليهم تصيدنا فلولهم من ظهورهم بالرصاص، واقتطفت خناجرنا رؤوس من ظن أن الغرف الحصينة والخنادق السرية ستعصمه من غضبنا. * ويضيف محدثي قائلا: أتعلم يا ولدي أنني مشيت لتلك الحرب ثأرا لكرامتي التي حاول الصهاينة تدنيسها، لكنني خرجت منها لست مزهوا بنصر حققته بندقيتي، وإنما فخور بأني قاتلت جنبا إلى جنب مع الملائكة وتحت عين الله، في معركة تصحيح الأوضاع بين البشر على الأرض، معركة قضي فيها الأمر من فوق سبع سماوات، وكان من المفترض كنتيجة طبيعية لهذه الحرب أن نعود لنتبوأ مكانة "خير أمة أخرجت للناس"، ولكن أعداءنا من الأمم الضالة والمغضوب عليها طمسوا نصرنا وكبلوا الحقيقة حتى لا يحدث ذلك أبدا. * * يتبع * تقرأون في الحلقة القادمة * - مؤامرة استخبارية عالمية لإخفاء ما حدث في حرب 1973 * - سر إصرار الدول الكبرى على حجب صور الأقمار الصناعية لحرب أكتوبر * - قادة العالم يحذرون من مغبة رؤية العرب للصور الحقيقية للمعركة * - إمبراطوريات تخشى على مستقبلها من عودة المسلمين