حيل جديدة لاسترجاع "الغنائم" ابتكرت شبكات التهريب النشطة بالحدود الشرقية "تقنيات" وطرق جديدة لمواجهة حرس الحدود باللجوء الى تشييد سكنات على الشريط الحدودي وحواف الوديان الفاصلة بين الحدود الجزائرية والتونسية وتسييج المسالك الوعرة والممرات لمنع مرور مركبات حرس الحدود على اعتبار أن هذه المناطق تعتبر "حرمة" بالتعبير المحلي، وتنقل أفراد حرس الحدود يعتبر "خرقا وانتهاكا للحرمة"، فيما تقوم "شبكات دعم وإسناد" المهربين بقطع الطريق بواسطة سيارات معطلة لمنع تدخل رجال الدرك لوقف المهربين... * "الحرمة"، "الكشافة"، "لمزط" وقصص الملاحقات و"الوطنية" المتجذرة * * ويتقاضى "الكشافة" الذين يقومون بترصد التحركات 2000 دج في الليلة الواحدة، خاصة عند تهريب سلع "هامة"، في المناطق الحدودية، لم نلتقي مهربين "تائبين" فهؤلاء لا يعتقدون أنهم يقومون بنشاط غير شرعي، وقيل لنا "الجدارمية داونا السلعة" ولم يشيروا من هذا الباب الى الحجز، وتبقى لعبة القط والفأر مستمرة بين المهربين وحرس الحدود، لكن اللافت أن المهربين الجزائربين يرفضون إهانة حرس الحدود من أبناء وطنهم من طرف المهربين التونسيين رغم "الحرب" واندلعت اشتباكات عند رشقهم بالحجارة وقال هؤلاء "لا لإهانة أمن بلدنا"(...). * كثر الحديث مؤخرا عن أساليب جديدة للتهريب، ولم يكن بالإمكان معرفة حجم الظاهرة وحقيقتها إلا بمعاينة ميدانية فكانت رحلة رفقة مجموعتي حرس الحدود ببئر العاتر والعوينات بتبسة في مهمة لمعاينة واقع التهريب بأقصى الحدود الشرقية... تنقلنا الى المناطق الحدودية في ساعات النهار والليل، فالوضع لا يختلف والمهرب يستغل كل ثغرة لنجاح مهمته ويحرص اليوم أكثر من السابق على عدم توقيفه وضبط سيارته على خلفية قانون التهريب، وهو ما يفسر تجنيد الدواب بشكل لافت في تهريب الوقود وزيت المائدة. * وصلنا الى مدينة بئر العاتر مساء، وكنا نجوب أحياءها وأنا التي أزورها أول مرة على متن سيارة عادية قبل أن يلفت انتباهنا مرور سيارة من نوع "مازدا" بيضاء اللون، تسير بسرعة فائقة جدا بوسط المدينة، تمكنت فقط من لمح لونها وطريقة تهيئتها من الخلف، كما لاتتوفر على لوحة ترقيم، وازداد فضولي عندما رأيت سيارات شبيهة، سرعتها مفرطة جدا، وعلمت لاحقا أنها سيارات مهربين، واكتشفت خلال هذه المهمة، أن السائق يفرط في السرعة عندما تكون المركبة محملة بسلع مهربة ويسعى الى إيصالها في أسرع وقت... * * عناصر "شبكات دعم وإسناد" المهربين يتقاضون ألفي دينار لليلة الواحد * * تنقلنا الى قرية "ولد أحمد" التابعة لبلدية "عڤلة" على بعد حوالي 120 كم عن مدينة بئر العاتر، إحدى أكبر بلديات ولاية تبسة، كانت الشمس تتجه الى المغيب، وكنا هذه المرة مرفوقين بالمقدم علي ولحاج، قائد الدائرة الجهوية الخامسة لحرس الحدود بقسنطينة على متن سيارات رفقة دورية تابعة للمجموعة الثامنة لحرس الحدود لبئر العاتر، وأبلغنا مسبقا أنه قد لا نعثر على مهربين بحكم أنهم سيلجأون الى إحباط العملية بمجرد رؤية سيارات حرس الحدود، وأشار الى شباب كانوا منتشرين في عدة نقاط "استيراتيجية" وبعضهم كانوا جالسين في مقاهي مجاورة لمقرات فرق الدرك أو ثكنات حرس الحدود الواقعة في المجمعات السكنية أو حتى في الطريق "هؤلاء مجندون من طرف شبكات التهريب لإبلاغهم بمجرد خروج الدوريات لإتخاذ احتياطاتهم وعدم المغامرة بالقيام بعملية تهريب". * أثار كلامه سؤالي "إذا كنتم تعرفون تواطؤهم مع المهربين، لماذا لا تقومون بتوقيفهم؟"، ليوضح أنه لا يوجد دليل مادي عن ذلك "بحكم خبرتنا نعلم ذلك، لكن عند توقيفه والتحقيق معه يصرح أنه كان جالسا وانه حر، و... لكن الواقع غير ذلك". * ويعرف هؤلاء باسم "الكشافة" في الحدود الشرقية نسبة الى مهمتهم التي تتمثل أساسا في الكشف عن تحركات رجال الدرك التابعين للفرق الإقليمية أو الى وحدات حرس الحدود، وأغلب هؤلاء شباب بطالين، توصلت التحقيقات الى انهم موزعون على قطاعات ومهام محددة من طرف شبكات التهريب كل حسب اختصاصه في مجال الوقود، المواشي، الأدوية ويتقاضى "الكشاف" 2000 دج لليلة الواحدة، خاصة عند تصدير سلعة هامة أو استيرادها بطريقة غير شرعية من الحدود، كما يتوفر كل "كشاف" على هاتف نقال وبطاقة تعبئة لضمان الاتصال بين عناصر الشبكة و"هو ما يشكل عائقا أمام وحدات حرس الحدود ورجال الدرك" حسب أحد المحققين. * وتحاول مصالح الدرك تفعيل العمل الإستخباراتي رغم صعوبته بحكم أن المهربين ينتمون الى قبيلة واحدة ولا يمكن الوشاية بإبن العرش أبدا، لكنها تواجه صعوبات ميدانية عند التدخل حسب ما وقفنا عليه في مهمتنا، حيث تقوم "شبكات الدعم والإسناد" بتوقيف مركبة قد تكون شاحنة أو جرار أو سيارة على الطريق الذي يسلكه رجال الدرك لملاحقة المهرب بعد ضبطه، ويرد سائق المركبة على مطالبته إبعادها ب"أنها معطلة وبها عطب"، وهي في الواقع خطة لربح الوقت لصالح المهرب الذي يتمكن من الفرار... * كان الطريق الى مدينة "عڤلة أحمد" معبدا نسبيا، ونحن نسير سجلنا تراجع السكنات المتباعدة مقابل انتشار لافت لسكنات في إطار السكن الريفي على طول الشريط الحدودي اغلبها في طور الإنجاز بعد حصول أصحابها على رخص للبناء على الحدود رغم إبراز تحقيقات أمنية أن العديد من هذه المساكن تحولت الى مستودعات ومراكز تجميع للمواد المصدرة والمستوردة والمهربة، حيث تم حجز كميات كبيرة بعد الحصول على إذن بالتفتيش. * * إعمار الشريط الحدودي تحت غطاء البناء الريفي لتحويله إلى مركز تجميع للمواد المهربة * * وصلنا الى قرية ولد أحمد، السكون يخيم على المكان وتبدو المنطقة شبه خالية من السكان إلا من بعض الشباب الذين كانوا جالسين تحت الأشجار يراقبوننا من بعيد، وقد يكون ذلك من باب الفضول أيضا.. لم نعثر في هذه القرية على محل تجاري ولم نشاهد مدرسة أو بناية لمقر هيأة عمومية... تنقلنا مترجلين على طول واد الصفصاف الذي يفصل بين الحدود الجزائرية والتونسية، لكننا لم نتمكن من الإبتعاد ولم يسمح لنا حتى بالإقتراب من ممر ترابي على بعد أمتار من بعض المساكن في طور الإنجاز، واعتقدت لأول مرة أنها مراكز المراقبة التي يجري تشييدها قبل أن تكتشف أن هذه المساحات الترابية تعرف ب"الحرمة"، وهي قطع أرضية تم حرثها وتسييجها بأسلاك حديدية لتحويلها الى مناطق محظورة على حرس الحدود ومنعهم "أخلاقيا" من ملاحقة المهربين ومراقبة نشاطهم باعتبارها ملكية خاصة، وتتحرك فيها نسوة البيت، ولا يجوز من هذا المنطلق المرور بمحاذاتها وانتهاك حرمة البيت، ولا يجازف رجال الدرك بذلك رغم إدراكهم خلفياتها... * وتشير التحقيقات الأمنية الى أن العديد من السكان لجأوا الى كراء هذه المسالك "الآمنة" مقابل مبالغ مالية هامة وحولوا أيضا استنادا الى تحقيقات أمنية بعض الغرف الى مستودعات للسلع الموجهة للتهريب، خاصة وأن المسكن لا يبعد عن الحدود إلا بأمتار قليلة. * تنقلنا الى "جنان بديار" ليلا عبر طريق وعرة تتميز بكثير من المسالك والمنعرجات، وتبدو المهمة صعبة بسبب انعدام الإنارة العمومية، ولم نلمح طيلة سيرنا إلا أنوار السيارات الخافتة "الأكيد أنها سيارات مهربين، لكنهم يسيرون الآن بسرعة عادية ومرتاحين، لأنهم لا يحملون شيئا ويكونون "فرغوها"، يقصد إفراغ الوقود الذي يتصدر قائمة المواد المصدرة، خاصة في ظل ارتفاع سعر البنزين في تونس". * وتكون الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلا عند وصولها "واد بديار" أقصى نقطة ببئر العاتر، السواد يخيم على المكان، وأمرنا الرائد بوعبيدة، قائد مجموعة حرس الحدود ببئر العاتر بإطفاء أضواء السيارة، وكان أفراد حرس الحدود منتشرين في كمائن في نقاط مختلفة وبقينا ملتزمين الصمت، رأيت هؤلاء الشباب من أفراد حرس الحدود يترصدون أدنى التحركات في هذا المكان الموحش والمخيف، معرضين حياتهم للخطر على خلفية أن المهرب لا يتردد في القتل، بينما كان فريق "تمشيط" الأحراش وخلف الحشائش، حيث كانوا في ساعة مبكرة من صباح هذا اليوم قد حجزوا دلاء معبأة بالوقود موجهة للتهريب تم إخفاؤها وسط الأحراش لنقلها لاحقا في لحظة "غفلة"، ولا تبعد هذه النقطة إلا بأمتار عن مسكن كان صاحبه يراقبنا علنا. * في هذا الوادي، لم يكن هناك أحد، باستثناء نحن وحرس الحدود، وهو الوضع الذي عايناه في كل المراكز التي تنقلنا إليها، وبدا المقدم علي ولحاج متفائلا، وهو يحدثنا عن إنشاء مراكز مراقبة متقدمة جديدة على خلفية أن "انتشارها سيسمح بتغطية أمنية لها". * مرت ساعات لنلاحظ أضواء سيارات قادمة من الحدود لتختفي تدريجيا، ليلاحظ قائد المركز "إنها سيارات مهربين، لكنهم تلقوا اتصالات بوجودنا في هذه النقطة"، ويظل هؤلاء مجندين لايتعبون، وكذلك المهربون، لتبقى لعبة القط والفأر مستمرة بين رجال الدرك والمهربين الذين لايتوانون في ابتكار تقنيات تماشيا مع التدابير الأمنية، وأصبحوا أكثر عنفا للإفلات من المتابعات القضائية التي ينص عليها قانون التهريب والتي تصل الى 5 سنوات حبسا نافذا، وفي هذا السياق، قام مهرب وقود ببكارية بإضرام البنزين في سيارته بعد ضبطه من طرف قائد الحوامة التابعة لقيادة الدرك الوطني التي تقوم بمرافقة دوريات حرس الحدود في المسالك الصعبة يومين أسبوعيا، ولم يجد هذا المهرب مخرجا بعد ضبط سيارته محملة بدلاء الوقود إلا إضرام النار فيها بعد سكب الدلاء عليها، ويكون المهرب قد لجأ الى ذلك لعدم تعريف مركبته وتحديد رقمها التسلسلي ومنها ضبطه وتوقيفه، لكن المحققين تمكنوا من ذلك. * * بحث في "فائدة" المراقبة التقنية للسيارات وقانون المرور * * وسجلنا تداولا رهيبا لمركبات من نوع 505، 604، رونو 25، وسيارات "مازدا" المعروفة محليا ب"لمزط" بصيغة الجمع، وما لفت انتباهنا أنها مهيأة أساسا للتهريب، حيث تم نزع المقاعد الخلفية، وتبدو وضعيتها مهترئة وهنا "بحث في فائدة المراقبة التقنية للسيارات" التي لا تتوفر على مصابيح وأبوابها مكسورة، والبحث أيضا في "فائدة" قانون المرور الذي لا يطبق في تبسة حسب ما عايناه ميدانيا، ويطلق سكان تبسة على هذه المركبات اسم "المقاتلات" لصلابتها وسرعتها الكبيرة، ويكنى السائق ب"البيلوط" ويقصد به سائق سيارة التهريب الذي يجب أن يكون "كاسكادور" حقيقي، يتميز بمهارة في القيادة. * تنقلنا في اليوم الموالي الى المجموعة 14 لحرس الحدود بالعوينات، حيث رافقنا قائدها الرائد فريد مختاري إلى قرية "الفارية" الممتدة الى الحدود التونسية، حيث يحمل الدوار المجاور نفس الإسم، هناك تم حجز أحمرة كانت محملة بدلاء الوقود باتجاه تونس، ويوضح الرائد مختاري أنه تم الاعتماد مؤخرا على الدواب في التهريب لعدم توقيف الأشخاص "الحمار يعرف المسلك جيدا بعد تلقينه قاعدة "بافلوف"، وينقل الوقود ليعود محملا بزيت المائدة في هذه الدلاء"، ويشير هنا الى تهريب زيت مائدة مغشوش من تونس ومن النوعية الرديئة، لكن تكمن خطورته في تهريبه في دلاء الوقود بعد إفراغه، وأطلعنا على بعض العينات، حيث كانت رائحة المازوت تنبعث من دلو الزيت الذي أثبثت التحاليل المخبرية انه مضر بالصحة على خلفية انه يحتوي الحديد والرصاص والزنك، مما يهدد مستهلكه بالإصابة بداء السرطان والقصور الكلوي حسب نفس التقارير. * لكن ما أثار انتباهنا ونحن نتجول في بعض الأسواق الموازية ببئر العاتر والكويف، هو عرض هذه الزيوت للبيع ب 400 دج للتر الواحد، وتعرف إقبالا من طرف المواطنين لسعرها، خاصة خلال شهر رمضان الماضي، لكن التجار فرضوا على بعض الزبائن أمام الطلب أخذ سلعة ثانية تفاديا لكسادها. * * كبش "خبير" في السن والتجربة لقيادة قطيع الغنم الى تونس * * هناك في "الفارية"، وجدنا قطيعا من الأغنام والماعز منتشرا وقريبا جدا من الوادي الفاصل بين الحدود، استفسرنا من الرائد مختاري عن التدابير المتخذة في ظل النزيف الذي تعرفه الثروة الحيوانية ليشير أن الرعاة وأصحاب هذه المواشي يدعون رعيها فقط، لكنهم في الواقع يسعون الى "زحفها" لتدخل التراب التونسي لتهريبها في ظل الطلب المرتفع عليها، مشيرا الى أن قانون التهريب دفع أيضا مهربي الماشية الى اتخاذ احتياطات ب"تجنيد" كبش خبير لقيادة القطيع الى غاية الحدود وحتى "الماعز" التي تهرب من تونس باتجاه إيطاليا لاستخدام لحومها في صناعة الأجبان وجلودها في المعاطف والأحذية وأكثر من ذلك تستخدم أمعاؤها في صناعة خيط الجراحة الطبية. * * مهربون في المزاد العلني * * تقوم وحدات حرس الحدود بالتنسيق مع الفرق الإقليمية للدرك بحجز عدد هائل من السيارات والدواب المستخدمة في التهريب وتحويلها الى مصالح الجمارك التي تقوم كما ينص عليه القانون ببيعها في المزاد العلني، لكن الإشكال الذي يطرح هنا هو أن العروشية والنظام القبلي و"القانون الداخلي" لشبكات التهريب يفرض استرجاع هذه السلع لأصحابها ولايجرؤ أي أحد على "الاستيلاء" على هذه الملكية ليعيد المهرب شراء سيارته واسترجاع دابته التي يكون قد دربها جيدا و"تخصصت" في مسلك معينة، كما يتم بيع الدلو ب100 دج، وتقرر مؤخرا اعادة بيع الوقود المحجوز الى مصالح البلديات بقيمة 12 دج للتر الواحد.