المهربون لا يزالون يرتكبون مجازرهم في حق الاقتصاد الوطني تجاوزت "غنائم" العملية الأخيرة التي قامت بها المجموعة العاشرة لحرس الحدود ببشار التي تنفرد "الشروق" بتغطية ونشر تفاصيلها في سيارتين من نوع تويوتا ستاشن. * * أكثر من 3 أطنان من الكيف منها مخدرات خام وكمية من الوقود إضافة الى سلاح كلاشينكوف، مخزنين معبأين بالذخيرة الحية، سلسلة رشاش من نوع "أف أم بي كا" وهاتف خلوي من نوع ثريا، وعثر أفراد حرس الحدود داخل السيارتين على أكياس من العجائن، أرز ومعكرونة وسكر وشاي، وكانت التحقيقات الأمنية قد كشفت أن مرافق المهربين الذي يتكفل بإعداد الشاي والأكل لهم يتقاضي حوالي 5 ملايين سنتيم للرحلة الواحدة، وبعملية حسابية يمكن أن يصل "أجره" خلال شهر إلى 40 مليون سنتيم وهو ما يتجاوز راتب وزير دولة في الحكومة الجزائرية وأكثر من ضعف راتب حرس الحدود الذي لا يتجاوز 20 ألف دج شهريا. * * * طباخ مهربي الكيف يتقاضى أكثر من الوزير * تنقلنا أول أمس إلى منطقة جبل سرور على بعد حوالي 400 كم من مدينة بشار، وسلكنا طريقا معبدا تم ترميم بعض أجزائه مؤخرا بعد تضرر شبكة الطرقات بسبب الفيضانات الأخيرة التي شهدتها الولاية وخلفت خسائر مادية معتبرة، الطريق كان خاليا من الحركة وملامح الحياة باستثناء مرور شاحنات ومركبات الجيش الوطني الشعبي أو شاحنات الوزن الثقيل على اعتبار أن المنطقة تتواجد بها العديد من الثكنات والقواعد العسكرية، وتتوسط الطريق المعبد دون أرصفة مساحات شاسعة قاحلة، درجة الحرارة كانت ترتفع تدريجيا. وبعد مغادرة وسط المدينة انقطعت شبكة الهاتف النقال نهائيا، وكنت أشعر بارتياح خفي عندما تترآى لي من بعيد نقطة مراقبة تابعة لأفراد الدرك الوطني التي كانت تبعد عن بعضها بعدة كيلومترات ويواجه السائقون صعوبات عند عطب مركباتهم أو وقوع حوادث مرور، الحواجز الأمنية ومقرات الدرك تختلف كثيرا عما عليه في العاصمة والمدن الأخرى، هنا في هذه المناطق النائية، مقر فرقة الدرك عبارة عن بنايات طوبية وحجرية بعضها يعود للعهد الاستعماري وتفتقد لأدنى الوسائل، ويبدو أن الدركيين يؤدون مهامهم في ظروف صعبة مهنيا واجتماعيا أيضا، حيث يقيم بعضهم في مخابئ أرضية (كازمات) تعود للحقبة الاستعمارية وهم مطالبون بالتحلي باليقظة وضبط أية تحركات مشبوهة "لأننا لانعرف أصلا هوية هؤلاء المسلحين، قد يكونون مهربين، لكنهم قد يكونون أيضا إرهابيين"، حسب مسؤول أمني. * * "الشروق" بموقع الاشتباك.. المهربون مستعدون لارتكاب "مجازر" * وصلنا أخيرا إلى جبل بن سور على بعد حوالي 400 كم جنوب غرب بشار، وهي أول مرة تتنقل فيها وسيلة إعلامية إلى هذا المكان المعزول والموحش، كنت رفقة زميلي جيلالي بن يوب من صحيفة "ليبرتي" فقط، الطريق كان صعبا جدا عبر مسالك ومنعرجات رملية أدت إلى إصابتي لاحقا على مستوى الظهر والرقبة وحروق وحساسية، حيث كانت السيارة تصعد وتنزل بقوة وعنف، تزامن تنقلنا مع هبوب زوابع رملية خفيفة، رافقنا المقدم مشري، قائد الدائرة الجهوية الثالثة لحرس الحدود ببشار والرائد لحبيب بحري قائد المجموعة العاشرة لحرس الحدود ببشار ايضا على متن سيارات تويوتا تابعة لمصالح الدرك، هنا لا يمكن لسيارة عادية أو حتى شاحنة التنقل التنقل، لاحظنا طيلة الطريق آثار عجلات سيارات "ستاشن" التي يستخدمها المهربون، وأشار إلينا السائق عبد الرحيم "المهربون مروا من هنا"، استوقفتنا بعض الأحجار المتراصة في نقاط مختلفة وأيضا بقايا براميل حديدية، علمنا لاحقا أن المهربين يستخدمونها كدلائل ومؤشرات لعدم التيهان وأيضا كنقاط التقاء. * المكان عبارة عن مساحة شاسعة جدا في هذه "القفار"، أسراب الغراب كانت تحلق في السماء الملبدة تثير شعورا بالاشمئزاز، وانتشرت بعض الشجيرات وسط الصحراء ويمكن أن نرى من بعيد سلسلة جبلية رملية أو ما يعرف هنا ب"العرق"، ولاحظنا انتشار أفراد حرس الحدود وهم يرتدون واقيات الرصاص، حاملين أسلحتهم من نوع كلاشينكوف ونظارات ليلية ومضادة للغبار، ما يعكس طبيعة المهمة التي يقومون بها، وأوضح الرائد بحري أنه تم تجنيد جميع أفراد حرس الحدود 24 ساعة على 24 ساعة لإحباط أية محاولة تهريب، وتم إعلان حالة استنفار بتكثيف الكمائن في المناطق التي يشتبه أن يتخذها المهربون مسالك لهم "قمنا باحتلال الميدان لترصد تحركاتهم". * * الإيمان بالله والوطن لمواجهة رصاص المهربين والإرهابيين * وقفنا في عين المكان على "غنائم" آخر عملية قامت بها السرية 105 لحرس الحدود، أشرف عليها ضابط برتبة ملازم أول رفقة شباب من حرس الحدود أكبرهم لا يتجاوز سنه 28 عاما، وعرض تفاصيل العملية التي تمت بناء على معلومات متوفرة لدى حرس الحدود حول عبور كمية هامة من المخدرات، ليتم نصب كمائن في المسالك المشبوهة، كانت الساعة تشير إلى حوالي الرابعة بعد منتصف الليل، الظلام يخيم على المكان، وسمع صوت محركات سيارات ستاشن قادم من الشريط الحدودي المغربي باتجاه التراب الجزائري بمنطقة "طاوس"، أضواء السيارات كانت منطفئة، واعتمد حرس الحدود على حواسهم وضوء القمر والنجوم لتحديد وجهتها، وتعمدوا تركها تتقدم قبل أن يتم تطويق "الموكب" الذي كان يضم 4 سيارات، وبدأ المهربون يطلقون الرصاص في كل اتجاه من رشاشات "كلاشينكوف" و"أف آم بي كا"، وكان حرس الحدود يردون عليهم في الظلام الدامس بوابل من الرصاص، مما أدى الى توزع السيارات في اتجاهات مختلفة لتشتيت قدرات حرس الحدود الذين تمكنوا من وقف سيارتين، فيما تمكن المهربون الذين كانوا على متنهما من الالتحاق بالسيارتين والفرار، مستغلين الظلام وشساعة المنطقة. * دقائق بعد ذلك، تقدم حرس الحدود من السيارتين لتحديد الحمولة في انتظار طلوع الشمس، وفي الصباح التحقنا نحن بهم في مكان العملية، آثار الإشتباك كانت ظاهرة على السيارة الأولى وهي من نوع ستاشن، على الزجاج الأمامي والباب الأيسر، وبقايا الأظرفة مرمية على الأرض، فيما كان يقوم دركيون بجمع الأظرفة في عدة مواقع، أشار الرائد بحري إلى أن السيارة حديثة وعلقت في المؤخرة لافتة 80 التي تتعلق برخصة سياقة حديثة لتسهيل مرورها، في الداخل كان هناك شريط سمعي للمطرب الملتزم سامي يوسف وعلبة كارطونية في الخلف، فيها أكياس معكرونة وأرز وعجائن من صنع جزائري، وفي الخلف، برميل وقود سعته 50 لترا وعدة طرود مخدرات، تم وضعها بإحكام وبطريقة احترافية ووقائية من الماء وتم تغليفها بقماش صوفي على شكل حقائب وتمت خياطتها بخيط صوفي وردي اللون، قبل ربط الحمولة بحبال محكمة تفاديا لسقوطها أثناء السير بسرعة. * في السيارة الثانية التي هجرها المهرب على بعد حوالي 400 متر من الأولى، ضبط حرس الحدود سلاحا حربيا من نوع كلاشينكوف، ومخزنين معبأين إضافة الى سلسلة سلاح "أف آم بي"، كما عثروا على جهاز هاتف خلوي من نوع ثريا سقط من أحد المهربين أثناء فراره إضافة الى بعض الألبسة، كما كانت السيارة الثانية محملة بالمخدرات. * * مخدرات خام من نوع "أف " موجهة إلى مصر عبر موريتانيا بمبلغ 3 ملايير * في مقر السرية رقم 105، تم فتح بعض الطرود ليكتشف حرس الحدود أن كمية المخدرات المحجوزة تقدر ب 3169 كغ كانت مقسمة إلى 3 أنواع منها كيف خام مؤشر عليه "أف 6" وهي من النوعية الرفيعة، ومخدرات في شكل علب شوكولاطة من الدرجة الثانية، وقال النقيب قائد السرية "إنه يتم خلطها لاحقا"، لكنها تبدو شديدة المفعول بدليل أن الدركي الذي قضى الليل قربها كان "مدوخا" بعد أن تسربت إليه الرائحة. * السيارة الثانية كان مكتوب عليها خاص من أدرار، لكن التحقيقات الأولية كشفت أن البلدية المدونة على البطاقة الرمادية لصاحبها غير موجودة أصلا. * * إقحام الجمال في تهريب المخدرات * ولاحظ المحققون الذين يشتغلون على هذا النوع من القضايا، أنه يتم شراء سيارات تويوتا ستايشن التي تعد في العديد من البلدان سيارات حربية وخاصة فقط بأجهزة الأمن، بصفة قانونية ليتم استخدامها لاحقا في نشاطات تهريب، وعرضوا الأساليب الجديدة التي أصبح يعتمدها مهربو المخدرات في ممارسة نشاطهم الإجرامي، حيث يقومون بالتنقل في موكب يضم من 3 إلى 5 سيارات على خلفية أن شحنة كل سيارة لا تتجاوز 2 طن، كما يتم بتزويد كل سيارة ستايشن بسلاح كلاشينكوف، وتتقدم القافلة سيارة الدليل الذي يدرك مسالك المنطقة للإفلات من الرقابة الأمنية، ويرافق كل سائق شخص مكلف بإعداد الشاي والأكل للشبكة عند توقفها في نقاط مختلفة، حيث تستغرق العملية يومين الى 3 غالبا، ويتقاضى الطباخ مقابل تلبية احتياجات المهربين 50 ألف دج عن كل رحلة تندرج فيها منحة الخطر والأمانة وذلك استنادا إلى تحقيقات سابقة تفيد أن الطباخ قد يقوم برحلتين أسبوعيا ما يعادل 40 مليون سنتيم شهريا، أي أكثر من راتب وزير وأضعاف ما يتقاضاه أفراد حرس الحدود الذين لايتجاوز أجرهم الشهري 20 ألف دج، ولا يتقاضون منحا إضافية أو مكافآت مالية عند تحقيق حجز قياسي أو يقومون بعمليات نوعية في مجال حماية الاقتصاد الوطني، ليعلنوا تجاوزهم كل الصعوبات ومواصلتهم مكافحة المهربين الذين أصبحوا اليوم مسلحين ومستعدين للقتل. * ويقوم المهربون بشحن الحمولة على متن سيارات ستايشن من المغرب على مستوى الشريط الحدودي بعد تخزيها في خيم بدو رحل "وهميين" ينتشرون على الحدود، لتنتقل بعدها القافلة التي يتصدرها غالبا شخصان يكونان على متن دراجة نارية لفتح الطرق، وتختار القافلة أوقاتا محددة في الليل أو في ساعة مبكرة من الصباح ويستغلون غالبا المناسبات والكوارث الطبيعية مثل الفيضانات لانشغال مصالح الأمن بالتدخل، حيث تم إحباط أكبر عمليات التهريب في فيضانات بشار وليلة عيد الفطر وعشية الانتخابات الرئاسية، وتختار القافلة المرور عبر المسالك الوعرة والشاغرة أو ما يعرف ب"الحمادنة" (الحصيدة) قبل الوصل الى "العرق" وهو جبل رملي، حيث يتقن السائقون التنقل عبر هذه المنعرجات باتجاه موريتانيا ومنها إلى مصر، كما تم مؤخرا تجنيد الجمال لتهريب المخدرات وضبط حرس الحدود أكثر من 150 ناقة وجمل كانت مهربة الى المغرب لشحنها، حيث تقدر حمولة الجمل الواحد بأكثر من 1 قنطار من الكيف، وتحولت شبكات تهريب المخدرات مؤخرا إلى "الاستثمار" في الجمال بدل سيارات "ستايشن" بعد الضربات المتتالية لحرس الحدود. * وسألت "الشروق" المقدم فليسي، قائد الدائرة الجهوية الثالثة لحرس الحدود ببشارعن خلفية هذا "الغزو" من المخدرات بالمنطقة، ليوضح أن الفترة الممتدة من شهر مارس إلى ماي هي مرحلة "تصدير الكيف بعد حصاده بكميات كبيرة"، وأشار إلى أن الكميات المحجوزة ليست موجهة للسوق المحلية، بل إلى منطقة الشرق الأوسط بناء على طلبيات، كما تكشف عنه الأرقام والكتابات على الطرود. * ألححت على مسؤولي الدرك لمرافقتهم في كمائن ليلا، لكنهم رفضوا بشدة "لاعتبارات أمنية" وأدركت بعها أن المهمة ليست سهلة في ظل توقع اشتباك مسلح مع الإرهابيين ايضا، لتستمر الحرب المفتوحة بين المهربين وحرس الحدود.. القضية قضية وطن وأمن واقتصاد، بحسب تعبير الرائد بحري.