قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وقال راوي الحديث بأن الرسول عليه الصلاة والسلام – أرفق الكلام بالتشبيك بين أصابعه.. ليوضح بذلك التشبيك مدى ترابط المؤمن مع المؤمن ومتانة العلاقة وقوتها بينهما.. إن أول ما يَلفت النظر في هذا الحديث النبوي الشريف هو صياغته الواردة في وضعية المفرد (المؤمن للمؤمن)، ولو شاء رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أن يصوغه في صيغة الجمع، كأن يقول: "المؤمنون كالبنيان" لأدى المعنى المراد تبليغه، ولكنه – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي أوتي جوامع الكلم أورده في صيغة المفرد، لينبهنا إلى فكرتين هامتين هما: 1) أهمية كل فرد في المجتمع الإسلامي مهما تكن مكانته الاجتماعية، من حيث النّسب ومن حيث النّشب، وكما أن البنيان يتكوّن من أحجار مختلفة الأشكال والأحجام والأوزان، فكذلك المجتمع يتكون من أفراد مختلفين من جميع النواحي، ولكنهم جميعا يؤدون أدوارا يكمل بعضها بعضا، وقديما قال الشاعر: الناس للناس من بدو وحاضِرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم ومن أمثالنا الشعبية في الجزائر "مول – صاحب – التاج يحتاج". إشعار كل فرد في المجتمع بواجبه ومسئوليته نحو مجتمعه الصغير والكبير، فلا يختبئ أي واحد تحت صيغة المؤمنين – بالجمع – اتكالا على غيره.. فكلنا راع، وكل راع مسئول عن رعيته كما جاء في الحديث النبوي الآخر.. وقد جاء في الأثر خطاب لكل فرد في المجتمع أن كل واحد على ثغرة من ثغور المسلمين فلا يؤتون من قِبله.. والبناء المادي يشده ويمسكه ما يكون فيه من انسجام وما يربطه ببعضه من وسائل الربط كقضبان الحديد ومواد لاحمة، وكذلك المجتمع الإسلامي فمادة تماسكه الأساسية هي كلمة "المؤمن"، فالمؤمن أخو المؤمن، وهم جميعا أمة واحدة، ومن لم يهتم منهم بإخوانه، أو غشهم، أو بات شبعانا وجاره جائع فليس منهم... وما أجمل قول الشاعر الفيلسوف محمد إقبال (1877-1938) "مادامت الأمة جاهلة إدراك سر (لا إله إلا الله) فإنها لا يمكن أن تتمكن من تحطيم القيود وكسر الأغلال التي كُبلت بها، وفُرضت عليها من دون الله سبحانه". ف "لا" جلال للأمة، و"إلا" جمال لها. كما يقول إقبال.. "لأن – لا – وإلا – معا يجلبان للأمم النعيم والنضرة، وإن النفي المحض دون الإثبات فيه هلاك للأمم" كما يؤكد في مكان آخر.. وكلما كان البناء المادي متينا متماسكا استعصى على التفكك والانهيار، فاستمر قرونا عديدة، وكذلك المجتمع المتماسك المتلاحم طال أمده، وصمد وجوده.. وكما يحقق البناء المادي الأمن الخارجي ضد أية عادية والأمن الداخلي بإشاعة الاطمئنان النفسي، فكذلك يفعل المجتمع المتماسك، فتلاحم أفراده يجعلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ويمنع أو يُصعب عدوان غيره عليه من الخارج، إذا كان فكرة تشبيه المجتمع بالبناء لم تعرف في الفكر الأوروبي إلا في التاريخ المعاصر، فإنها عرفت عند المسلمين منذ قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم. "فاعلم أنه لا إله إلا الله". فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة، وعلى المسلمين أن يعقلوا معناها ويجسدوه، وإلا فسيبقون عشائر وقبائل يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والدواب...