بعض الناس محظوظون في الحياة وبعد الممات، ففي حياتهم يعيشون عيشة راضية، ويحيون حياة كريمة فيها السعادة النفسية، والعيشة الرّغدُ، وبعد مماتهم تحفظ أسماؤهم فتسمى بها المؤسسات، وتطلق على الشوارع والساحات، ويُشاد بهم في المجالس والمنتديات، وتُقام لهم الملتقيات، وبعض الناس يحالفهم الشقاء من مُهودهم إلى لحودهم، فيعيشون في الدنيا معيشة ضَنْكا، ويَحيون حياة أخَفُّ منها الحِمام، وبعد موتهم تُسدَل عليهم ستائر النسيان، فلا تذكر أسماؤهم ولا يهتم بأعمالهم، ولا يشاد بمواقفهم وإن عظمت، فكأنهم لم يولدوا، ولم يضعوا بصمة، ولم يتركوا أثرا. * * واحد من هؤلاء الناس الذين لقوا الهمّ الناصب، وذاقوا العذاب الواصِب، وعانوا الفقر اللاغِب، فعاش كما يقول العرب في مثلهم السائر »سَاغِبًا لاغبًا« هو »الكاتب الكبير، والفنان المبدع عمر راسم (1)«، الذي تحل غدا الذكرى الخمسون لرحيله عن هذه الدينا التي قضى فيها خمسا وسبعين سنة، منها ست عشرة سنة في القرن التاسع عشر، وتسعا وخمسين في القرن العشرين، الذي وصفه عمر راسم فأحسن وصفه، إذ نعته بأنه »قرن الظلمات (2)«، خاصة في الجزائر التي عاثت فيها فرنسا فسادا، وجعلتها في »أسوإ حال (3)« وردّت أهلها أسفل سافلين، فأصبحوا »آخر الآدميين درجة (4)«، بسبب سياسة التجهيل والتفقير، والتّوحيش التي طبقتها فرنسا على الجزائريين. * ولد عمر راسم على الأرجح في سنة 1884 بمدينة الجزائر، من عائلة اختلف في أصلها، هل هي تركية تجزأرت، أم هي جزائرية أصيلة من مدينة بجاية، ومما يرجح أصلها الجزائري أن عمر راسم عندما أنشأ جريدته »ذو الفقار« سمى نفسه »ابن المنصور الصنهاجي« كما وقع بعض كتاباته ب »عمر راسم الصنهاجي (5)«، فهو إذن أمازيغي، ومن قبيلة صنهاجة التي ينتسب إليها الإمام عبد الحميد بن باديس. حفظ عمر راسم القرآن الكريم وهو ابن سبع، وانْسَلَك في سلك الحَزَّابين بمسجد سفير في حي القصبة وهو ابن اثنتي عشرة سنة. * ويتميز عمر راسم بأنه كان عصاميا في ثقافته، إذ لم يتلق إلا دروسا عن الشيخ محمد بن مصطفى ابن الخوجة، وتابع لمدة سنة واحدة دروسا في المدرسة الثعالبية. * وقد عمل عمر راسم في بعض المؤسسات التابعة للسلطات الفرنسية، منها أنه »كان من القراء المشهورين في الجامع الكبير (6)«، وعمل في جريدة »المبشر« التابعة للولاية العامة الفرنسية، ولكنه فصل منها، وأدخل السجن في 13 - 8 - 1915، الذي لم يخرج منه إلا في سنة 1921، وكان السبب المباشر لإدخاله إلى السجن هو وقوع رسالة بعثها إلى جريدة الشعب المصرية في أيدي المخابرات البريطانية التي أطلعت أختها الفرنسية على مضمونها الذي يدعو المسلمين إلى عدم الركون إلى أعدائهم، حيث كانت آنذاك الحرب العالمية الأولى مشتعلة، وكانت الدولة العثمانية طرفا فيها. * والذي يبدو لي أن عمر راسم كان مآله السجن، سواء اكتشفت رسالته أم لم تكتشف، فروحه الإسلامية، وغيرته الوطنية، ونزعته العربية كل أولئك مما لا تطيق فرنسا سماعه، ولا تود سماعه، ولا تستطيع صبرا على من يروج لتلك الأفكار، وقد كان عمر راسم كما يبدو وفي مقالاته »شديد الغيرة على الدين، مُوَلَّهَ الحب للوطن (7)«، مرددا »نحن عرب، نحن مسلمون، نموت عربا، نموت مسلمين (8)«. * يلاحظ فيما ترك عمر راسم من كتابات - التي نرجو أن يسخر الله - عز وجل - شخصا يجمعها، ويبوبها، وينشرها (*) تركيزه على ما يلي: * أولا: معارضة الاندماج، وكشف الاندماجيين الذين ودوا لو يتفرنس الجزائريون كما تفرنسوا هم، وأن يتبّع الجزائريون مِلّة الفرنسيين كما اتَّبَعها هم، وأن تصير الجزائر جزءا من فرنسا بالرغم من تباين السمات، واختلاف السحنات، وفي هذا الإطار عارض قانون التجنيد الإجباري، الذي اعتبره أحد أبواب الاندماج. * ثانيا: قضية الغنى والفقر، حيث شنّ حملة عنيفة على الأغنياء الذين عَمُوا عن رؤية ما يعانيه الفقراء من مسغبة، وصَمُّوا عن سماع أنين المتضوِّرين جوعا. وقد تبنى عمر راسم -في هذه القضية- أفكارا تعتبر غريبة في ذلك الوقت في العالم الإسلامي، وهي الأفكار الاشتراكية، مما جعل الدكتور محمد ناصر يرجح أن عمر راسم هو »أول مفكر جزائري يهتم بموضوع الاشتراكية (9)«، حيث جعل شعار جريدته »ذو الفقار«، الصادرة في 5 أكتوبر 1913، هو: »جريدة عمومية اشتراكية انتقادية«، وكان في ذلك »معتنقا لمبادئ أبي ذر الغفاري (10)«. * ثالثا: الصهيونية التي تنبّه عمر راسم مبكرا إلى خطرها الزاحف، فكتب عنها ونبّه العرب والمسلمين إلى ما يُدبّر ضدهم، وما يُكاد لهم من زرع هذا السرطان الصهيوني في قلب الأمة الإسلامية، وقد اعتبر الشيخ أحمد توفيق المدني أن جريدة »ذو الفقار« هي »أول جريدة عربية في الدنيا اكتشفت الخطر الصهيوني ونبهت عليه (11)«. * رابعا: محاربة البدع والخرافات التي ألصقها بعض المسلمين الذين استحوذ عليهم الجهل، وغلبت عليهم شهواتهم، وجعلوا الدين الحنيف وسيلة يصطادون بها السُذّج وينهبون بها الأغرار. وقد كان في هذا متشبعا بأفكار الإمام محمد عبده إلى درجة اعتباره مديرا دينيا لجريدته »ذو الفقار« التي وصفها بأنها »جريدة عبدوية إصلاحية«. * لقد عبّر عمر راسم عن أفكاره عن طريق الصحافة، خاصة الجرائد التي أسسها كجريدة »الجزائر« (عام 1908)، وجريدة »ذو الفقار« (عام 1913) وهي جريدة »كان يحررها، ثم يكتبها بخطه، ويرسم صورها، ويطبعها طبعا حجريا (12)«. أو الجريدة التي اشترك في تأسيسها مع عمر بن قدور وهي جريدة »الفاروق«، حيث كانا يلتقيان في كثير من الأفكار حتى سماهما الدكتور أبو القاسم سعد الله »العمرين« (تاريخ الجزائر الثقافي 5 / 2007) ولكن أهم عمل تشّرف عمر راسم بإنجازه هو كتابته المصحف الشريف بالخط المغاربي الجميل، وهو المصحف الذي طبع في المطبعة الثعالبية، وقد تربّت عليه أجيال من الشبان في المغرب العربي وفي إفريقيا الغربية. * ومن الأخلاق التي تحلّى بها عمر راسم خلق »التّعفُّف«، فقد حدثني السيد هدروڤ، صاحب مكتبة النهضة، أن عمر راسم كان شغوفا بالقراءة، ولكنه في أغلب الأحيان لم يكن يملك ما يشتري به الكتب، فكنت أتحايل عليه كلما زار المكتبة وأسلمه كتابا طالبا منه أن يعطيني رأيه فيه، زاعما أنني اختلفت في أهمية الكتاب مع هذا الشخص أو ذاك. * رحم الله -الغفور الرحيم- عمر راسم في ذكرى وفاته الخمسين، وجميع علمائنا المخلصين. * * 1) أحمد توفيق المدني: كتاب الجزائر. ط1 ص 369 * 2 - 3 - 4) أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي. ج5. ص 288 * 5) انظر جريدة الشهاب عدد 75 و98 * 6) سعد الله. مرجع سابق. ج10. ص 365 * 7) محمد ناصر: المقالة الصحفية الجزائرية. ط1. ج1. ص 344 * 8) المرجع نفسه. ج2. ص 42 * *) جمع الأخ محمد ناصر بعض هذه المقالات، ونشرها في كتابه القيم المسمى »عمر راسم، المصلح الثائر«. * 9) محمد ناصر: مرجع سابق. ج1. ص 210 * 10) المرجع نفسه. ج1. ص 209 * 11 - 12 ) أحمد توفيق المدني: مرجع سابق. ص 369