تفتخر كل زوجة مسؤول بالمكانة التي تحظى بها في المجتمع، لكن محدثتنا لا فخر يعتريها بزواجها من مسؤول في الجيا، لأنها كانت مكرهة على هذا الوضع، ولم تندم على شيء في الحياة، مؤمنة أن كل ما حدث لها كان قضاء وقدرا، لم تذرف عيناها دمعة واحدة في حوارنا معها، وهبت حياتها لخدمة ابنها. * * *اقتادوني معصوبة العينين من باش جراح إلى شراربة * *الإرهابيون تخلوا عني بغابة وادي أوشايح بسبب ولادتي العسيرة * *حياة الجبل أشبه بالعيش في أفغانستان * * إنها واحدة من ضحايا العشرية السوداء اقتيدت إلى الجبل وهي لم تبلغ بعد السادسة عشر، تحطم حلمها بأن تكون طيارة على صخور جبال الإرهابيين إنها واحدة من بين العشرات أرادت الخروج عن صمت سنين الجمر والبوح لنا عما لم تكن تتوقع يوما أن يحدث معها. * القصة بدأت من حي بسيط بباش جراح، لما قدم 15 عنصرا من الجماعة الإسلامية المسلحة المعروفين بالمنطقة واقتادوا (ك) عند الظهيرة، وأصرّ الوالد في تلك اللحظة أن تقرأ الفاتحة مع قائدهم حتى يكون زواجها شرعيا منه. * وذهبوا بها إلى شقة بحي بالكاليتوس بقيت فيها شهرين كاملين، كانت فيها من نصيب أحد المسؤولين في الجماعة وابن الحي المدعو "سوسو"، يوم لا تنساه (ك) التي كانت حينها لم تتجاوز الخامسة عشر وهي المتمدرسة في السنة التاسعة إكمالي. * فمن بين خمس شقيقات اختيرت هي لتذهب معهم بعد أن عيّنها هو إعجابا منه بها، قائلا لها: "كنت شاحن عليك"، في تلك الشقة، بعدها أعادتها الجماعة إلى المنزل لتقتادها شرطة التابعة للمقرية حيث احتجزت بها سبعة أيام كاملة رفقة والديها وخالها، تعرضت خلالها إلى الضرب المبرح، لأن الشرطة كانت تعتقد بأنها تجنّدت في تلك السن وهي قاصر ضمن الجماعات الإرهابية، حيث كانوا يسألونها عن معاقل الجماعات ومنحهم معلومات أخرى عنهم. * * ذهبت مع الإرهابيين لتنقذ والدها من الموت * ثم عادت مجموعة من "الجيا" ليأخذوها هذه المرة إلى الجبل بمفتاح وبالضبط بشراربة، هناك مكثت تسعة أشهر كاملة، لم يرضَ الأب أن تخرج ابنته معهم إلا أن الأم فصلت في القضية قائلة يأخذوها هي ولا يموت أباها، إنها الكلمات التي أدمت قلب الفتاة وهي ترى عائلتها تساوم بها مقابل سلام الأسرة، ولم يفهم أحد لمَ حرّرت الفتاة إذا كانت الجماعة تنوي اختطافها مرة ثانية؟ * وذهبت الفتاة إلى قدرها مضمدة العينين لتحتجز في فيلا بشراربة، تمكنت من معرفتها لأنها كانت تزور أقاربها بنفس المنطقة. * هناك لم يكن يسمح لهم بالخروج، فالفيلا واحدة من مساكن القيادات في الأمن التي لا يمكن لأصحابها أن يعودوا إليها للتفقد، وكانت ميزتها من بين القاطنين فيها أنها الوحيدة التي يسمح لها بالنظر من النافذة لسبب لم تعرفه يوما. * تختصر وصف المكان في إطلالة واحدة "كأنك في أفغانستان.. رجال يحملون السلاح، يطوّقونه كل زواياه، زيّ شبه أفغاني يرتديه شباب وكهول كلّهم ملتحون، أعينهم على كل حركة يمكن أن تكون داخل المكان أو بالقرب منه، يترصّدون كل طارئ". * الفيلا كانت تضم العديد من الأشخاص كل يقطن غرفة لوحده، وعكس ما كنا نعتقد أن الإرهابيين يستخدمون النساء في التنظيف أو الطهي، فمحدثتنا كانت تجلس في غرفتها يأتيها الطعام إلى غاية باب الغرفة، وكانت تسمع حركة لنساء أخريات بالفيلا لكنها لم تلتق بأي واحدة منهن. * * ضبط زوجي في غرفتي مع أرملة لم تمض إلا شهرا من عدتها * قد كان يكبرها بست سنوات، توقف مستواه الدراسي عند السابعة إكمالي، كان يحكي لها عن أخبار العائلة ويغيظها بشأن أهلها، ويحاول إقناعها بأن الدولة تحارب الدين، ليجندها قلبا وقالبا بالجماعة. * كان الفرق واضحا بين العائلتين فهي تنحدر من عائلة متدينة ارتدت فيها الحجاب منذ الصغر ولا تزال تحافظ عليه إلى اليوم بإلتزام شديد، أما هو فنابع من عائلة قليلة التدين أحد أبنائها من مدمني المخدرات وهو نفسه كان محترفا للصوصية، دخل السجن في 1994 وخرج منه مختلفا يدعو إلى الدين بشكل لافت للانتباه ومحيّر. * ورغم ذلك كان يدعوها في الفترة التي قضتها معه بالجبل إلى حفظ القرآن الكريم ويجبرها على فعل ذلك أين بدأها بطوال السور كالبقرة وآل عمران وغيرها، وكان يوصيها دوما بالصلاة، وكان يؤدي صلاته قصرا مثله مثل كل المقيمين هناك. * ولم يكن يجد مانعا من معاشرة نساء لم يوفين عدتهن أين ضبطته مرة بغرفتها مع واحدة توفي زوجها منذ شهر فقط، وعلى طول مكوثها معه، لم ترَ يوما سلاحه. * * عناصر الجيا كانوا يعودون كلهم نشوة بعد المجازر * تروي لنا عن نظرتهم للعسكريين تقول، كانوا يخطّطون لقتلهم دون رحمة أو شفقة، ويعودون من العمليات الإرهابية كأنهم لم يقترفوا جرما، تنتابهم حالات شعورية مليئة بالنشوة والفرح، ربما لأنهم كانوا يتناولون المخدرات أو موادا تجعلهم لا يدركون بشاعة ما اقترفوه. * وقد سمح طول مكوثها بالمكان أن تستمع إلى بعض ما كان يجري بينهم خلسة خاصة اجتماعاتهم المنظمة مساء كل يوم، أين كانت تتنصّت من خلال الجدران، وكان تركيزهم الأول القضاء على عناصر الأمن بمختلف الأسلاك وشعارهم في ذلك كما تذكر "السّن بالسّن والعين بالعين والبادي أظلم". * ولما كانت تلقن الخطط الجديدة للقضاء على عناصر جديدة أوعمليات لتنفيذها، كانت تتم لقاءات للتشاور والنقاش حولها، ولمّا تشتم الرؤوس الكبيرة رائحة عدم اقتناع عنصر ما تحاول إقناعه بالمبادئ التي نشأت من أجلها الجماعة ومن لا يقتنع يتدرج في العقاب من نزع السلاح إلى القضاء عليه كأنه واحد من بين الأعداء المتربصة بهم في النظام. * وكانوا يتّفقون على توزيع الغنائم التي يتم حجزها من خلال عمليات قطع الطريق على التجار أو المداهمات لمساكن الأثرياء والمحلات التجارية، حيث تخصص أغلبها لتموين العناصر بالجبل وكذا لاقتناء حاجياتهم من الذخيرة. * وكان جزءا منها يخصص للفقراء، كما يوزع جزء آخر منها على العناصر الحاضرين معهم بالجبل فقط، أما من توفوا وتركوا ورائهم زوجات وأبناء وغادروا الجبل فلا نصيب لهم من أي غنيمة. * * المرض يحرر الفتاة من أيدي "الجيا" * قضَت الفتاة تسعة أشهر بالجبل كانت تمر أيامها ثقيلة عليها، تغمرها فيها الحسرة على ما يحدث أمام عينيها وهي المحسوبة على تيار تعرف بالسليقة أنه ظالم وجائر، ولم تذق طعم الراحة إلا بعد وفاة زوجها في كمين بباش جراح سنة 1996 مع أحد أصدقائه، في تمشيط للمنطقة من طرف قوات الأمن، وحمدت الله منتظرة فرجا منه لإخراجها من هناك. * وبقيت بالجبل، أين كان حملها في الشهر الرابع، تحت حراسة مشددة، إلى أن حان موعد ولادتها التي كانت عسيرة جدا بسبب معاناتها من ضيق التنفس ففرّ بها عناصر من الجماعة من المستشفى الجبلي ورموا بها بغابة واد أوشايح، وواصلت رحلتها مشيا إلى غاية المنزل، لتوقن أن هذا هو الفرج المنتظر من الله، فلولا مرضها لما تركوها أبدا. * العائلة تفاجأت بدخول البنت عليهم، فيما أسرع الأب إلى إبلاغ الشرطة بقدومها بعد أن تم توليدها بمستشفى بارني، غير أن الشرطة لم تسجل البلاغ، تقول محدثتنا، وبعد مضي ستة أشهر جاء الشرطة للفتاة مستفسرين عن المكان الذي كانت فيه. * بعد ثلاث سنوات من وضعها، لم تشعر الفتاة بنفسها إلا وهي بمقبرة العالية تقف على قبر مختطفها رفقة ابنها، قائلة:"إذا ربي غفرك أنا ما نسمحلكش"، وعاودت زيارته مرة أخرى، وفي نفسها حسرة كبيرة تقول في خفاء، لقد دمرت حياتي، ولكنها قررت إعادة بنائها من جديد وأفلحت في ذلك. * الجماعة لم تتخلَ عنها حتى بعد نزولها من الجبل، لأنها أخذت معها مادة جدّ مهمة في عملياتهم، أمرت في وقت ما أن تحتفظ بها ولم تعِ أنها بقيت معها بعد أن غادرت "المعتقل"، وأرسل إليها الأمير طالبا إعادتها، متهما إياها بإتلاف مادة جدّ مهمة تستعمل لقتل أعوان الشرطة عن طريق حقنهم بها في المستشفيات، كانت تضع في زجاجة بلاستيكية سوداء اللون، لا تنم على ما هو موجود فيها. * * المجتمع لم يرحمها والدولة لم تحمها من قادة الجبل * المجتمع لم يرحمها وعرفت أنها لن تستطع أن تنشئ ابنها تنشئة سوية معهم، حبست نفسها في المنزل عامين كاملين، كانت تخشى فيهما على ابنها، كان هناك من يعيّرها وأهلها بما حدث لها، فقررت الانفصال عن المنزل لتلجأ إلى منزل فوضوي. * هناك انتظرتها حياة أكثر مرارة حيث تعرضت للاعتداء ضربا من طرف أحد »الإخوة« كما يسمون، خلّف لها عجزا طبيا ب 12 يوما، بسبب رغبتها في بناء جدار يفصل بينها وبين الشارع، ولم تنجدها الشرطة من بين يديه. * لم تستسلم واعتمدت على نفسها في الاستقلال عن المنزل بطلب الرزق الشريف غير مبالية بعروض مرضى النفوس في المجتمع الذين ينظرون إليها على أنها سيدة سهلة المنال، لكنها أرتهم العكس من خلال رفض للعديد من العرسان، بعد أن استشفت سوء نواياهم من وراء الإرتباط بها من جهة ولأنها لا تأمن على نفسها الوقوع مرة أخرى بيد عنصر من عناصر الجماعة. * * الشرطة تصرّ على أنها مجندة مع "الجيا" وليست مختطفة * وواجهت الضحية صعوبات بالنسبة للوثائق الرسمية لابنها، حيث لجأت إلى محامية وثّقت زواجها بعقد صوري سنة 1998 في حين أن الزواج كان في 1995 أي ثلاثة سنوات بعد الزواج، ورفضت أن تضعها كقضية اختطاف لغياب إثباتات من الشرطة. * منذ 1995 لم تحصل على الوثائق التي تساعدها على ضمان حقوقها، وذهبت إلى الفرقة المتنقلة للشرطة القضائية إلا أنه لم تعترف بحقها في الحصول على التعويضات ونفى وجود المحضر الخاص بالاختطاف. * ولجأت إلى المحكمة للمقاضاة الشرطة بنفي أنها ضحية من ضحايا الإرهاب متهمين إياها أنها زوجته وأنها كانت مجندّة هناك وليست مختطفة. * واتصلت الضحية بالمرصد الوطني لحقوق الإنسان ومنظمات حقوقية كثيرة لضمان حقها والحصول على التعويضات اللازمة إلا أنها لم تحصل إلى يومنا هذا إلا عن تعويضات قانون المصالحة الوطنية، وهي تعيش الآن بالقرب من معاقل الإرها السابقة لا تخشى على نفسها بل على ابنها الذي بلغ 13 سنة والذي يعتبر من المتفوقين في الدراسة، يحلم بغد جميل ويعلّق آمالا كبيرة على نجاحه، لا تريد والدته أن يستمال إلى تيار متطرف يستغله بربط الماضي مع الحاضر، فهل ستلتفت السلطات إليها لإنقاذها وابنها من هذا الوسط أم أنها ستكون ضحية للمأساة الوطنية إلى الأبد ببقائها بتلك المنطقة الخطيرة؟ *